المحكمة الدستورية العليا

خالد علي يكتب: ماذا بعد "أحكام الدستورية“ عن تيران وصنافير

منشور الأحد 11 مارس 2018

لا تدار الأمور في مصر بالصورة النمطية المعروفة في الدول الديمقراطية فيما يتعلق بالشؤون الدستورية، وما يعتبر حقًا للشعب، أو سلطة للحاكم ونظامه. فالأمور في مصر يحركها دومًا ومنذ عقود، مقعد الحاكم، وما يستلزمه ذلك من إجراءات وسياسات واتفاقات محلية وإقليمية ودولية لتثبّت دعائم حكمه، في تجسيد فج لاستمرار العصف بمبدأ "الشعب هو مصدر السلطات"، ويعد هذا نهجًا متعارفًا عليه من قبل الحكام العرب منذ عقود عدة، تقبلته الشعوب في بعض الأحيان، وثارت عليه في أحيان أخرى. في أبريل/نيسان 2016، استيقظنا جميعا على خبر يرفضه العقل ولم يعرفه التاريخ، سواء بسرده النمطي من قبل الدولة والسلطة أو سرده الشعبي، خبر ترفضه الحقائق الجغرافية والإنسانية والعسكرية، أو حتى الدم، بعدم مصرية جزيرتى تيران وصنافير، وذلك بعد لقاء بين الجانبين المصري والسعودي في القاهرة؛ الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك سلمان وابنه (ووزير دفاعه، وولي ولي عهده في ذلك الوقت)، انتهى بتوقيع عدة اتفاقيات منها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين فى البحر الأحمر، بما يسمح بخروج جزيرتي تيران وصنافير من الإقليم المصري، وضمهما للإقليم السعودي. ومن وقتها نخوض صراعًا قضائيًا ضد هذه الاتفاقية تمكنَا خلاله من حسم انتصار أخلاقي وسياسي بأحكام القضاء الإدارى والإدارية العليا بأن الجزر مصرية. نعم هذا الانتصار يحاولون الفكاك منه وتهميش قيمته، فاختلقوا القضايا لنقل الصراع القضائي للمحكمة الدستورية العليا. 

في يوم 3/3/ 2018، أصدرت المحكمة الدستورية العليا أحكامها بشأن قضية جزيرتي تيران وصنافير، هلل أنصار النظام وكأن الدستورية قضت بعدم مصرية الجزر، وفي الحقيقة هذا لم يحدث مطلقًا، فالنزاع أمام الدستورية نزاع يتمحور حول المبادئ التي أرستها في أحكامها بشأن نظرية أعمال السيادة، وعلاقة ذلك باتفاقية التنازل عن مصرية تيران وصنافير على ضوء دستور 2014.

3 أحكام وليس حكمًا واحدًا

يظن البعض أن الدستورية أصدرت حكمًا واحدًا في هذا اليوم، ولكن في الحقيقة فإن الدستورية أصدرت ثلاثة أحكام، حكمين لصالحنا، وحكمًا ضدنا، وفي جميع هذه الأحكام لم تتطرق الدستورية لمصرية الجزر من عدمه، فلم تقل مثلا إن الجزر سعودية، كما لم تقل إن الجزر غير مصرية، إذن ماذا جرى في المحكمة الدستورية العليا؟ وماذا سيجري مستقبلًا بشأن نزاع مصرية الجزر؟ 

 

مظاهرة مناهِضَة لتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية أمام نقابة الصحفيين المصرية في 15 ابريل 2016 

قبل أن أبدأ الإجابة عن السؤالين، أوضح أن هذا المقال يتناول مسارات ما جرى من جوانبه القانونية والقضائية فقط، بعيدًا عن جوانبه السياسية، وفي ذلك نوضح خمس ملاحظات أولية.

أولًا: نحن لسنا أمام نزاع عادي بين مجموعة مواطنين وسلطة على حق من الحقوق، بل هو نزاع استثنائي لم تشهده أي دولة من قبل، ولم تشهده أي محكمة في العالم، غير المحاكم المصرية، فلأول مرة في التاريخ تكون هناك أرض ملك شعب، وتقوم السلطة الحاكمة لهذا الشعب بمنح هذه الأرض لدولة أخرى، فيقوم بعض أفراد هذا الشعب برفع قضية ضد سلطتهم الحاكمة، فبدلًا من أن يكون مثل هذا النزاع بين الدولتين بأن تتمسك كل منهما بملكية الجزر، أضحى النزاع بين الشعب وسلطته التي تنازلت عن أرضه.

ثانيًا: أن طبيعة هذا النزاع الاستثنائية لا تتوقف عند قضية واحدة أو قضيتين، بل تفرع عن هذا النزاع أكثر من عشرين دعوى قضائية، نُظرت ومازال بعضها متداولًا أمام القضاء الإداري، والإدارية العليا، ومحكمة الأمور المستعجلة، ومحكمة جنوب القاهرة الابتدائية، ومحكمة النقض، والمحكمة الدستورية العليا، واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.

ثالثًا: أن مثل هذه القضية لا يُمكن أن تُحسم بالضربة القاضية، بل تُحسم بالنقاط، كما أننا نجحنا في الحصول على نقاط مهمة في مواجهة السلطة، التي تسعى بكل ما لها من سلطان ونفوذ على أرجاء البلاد ومؤسساتها ووثائقها الرسمية، للحصول على نقاط في مواجهتنا، ليس فقط لحسم النزاع لصالحها بل أيضًا لحماية مسؤوليها من إمكانية تعقبهم أو محاسبتهم على هذا الفعل مستقبلًا.

رابعًا: أن كل مرحلة من هذا النزاع لها طبيعتها المختلفة عن المراحل التي تليها، فكل ما صدر من أحكام قضائية حتى اليوم كان يتعلق بمرحلة توقيع السلطة على الاتفاقية، أما مرحلة موافقة البرلمان عليها ثم التصديق الرئاسي ونشرها بالجريدة الرسمية فما زال النزاع بشأنها متداولًا أمام القضاء الإداري ولم يصدر بشأنه أي أحكام قضائية.

خامسًا: أن لكل دعوى قضائية إطارها الخاص بها، وحدودًا للنقاط التي يمكن حصدها أو خسارتها منها.

ماذا جرى بالمحكمة الدستورية العليا بشأن نزاع الجزر؟

بعد أن حصلنا على حكم القضاء الإداري (الدعويين رقمي 43709، 43866 لسنة 70 قضائية) ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على تلك الاتفاقية بموجب الحكم في يوم 21/6/2016، قامت هيئة قضايا الدولة ممثلة عن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، ووزراء الخارجية والداخلية والدفاع، برفع ثلاث دعاوى أمام المحكمة الدستورية العليا لمحاولة احتواء هذا الحكم ووقف كافة آثاره القانونية.

الدعوى الدستورية الأولى

وهي الدعوى 37 لسنة 38 قضائية (منازعة تنفيذ)، وهي منازعة لعرقلة تنفيذ حكم بطلان اتفاق الجزر، قامت هيئة قضايا الدولة بتقديمها للمحكمة يوم 14/ 8/ 2016، وطالبت فيها بوقف تنفيذ حكم القضاء الإداري ببطلان اتفاقية التنازل عن الجزر، وعدم الاعتداد به، بزعم أن هذا الحكم يعرقل تنفيذ ستة أحكام (*) سابقة للمحكمة الدستورية العليا. وهذا الادعاء يخالف الحقيقة، ومن جانبنا أوضحنا للمحكمة الدستورية أن حكم بطلان اتفاقية الجزر ليس له صلة بأحكام الدستورية المستشهد بها، ولا يمثل أي عقبة أو عوائق في تنفيذ أحكام الدستور سالفة الذكر. 

  • أول هذه الأحكام الستة يتعلق بالقضاء بعدم دستورية القرار بقانون رقم 104 لسنة 1964 بأيلولة ملكية الأراضي الزراعية -التي تم الاستيلاء عليها طبقًا لأحكام المرسوم بقانون رقم 178 لسنة 1952 بالإصلاح الزراعي والقرار بقانون رقم 127 لسنة 1961 المعدل له- إلى الدولة دون مقابل.
  • ويتعلق الحكم الثاني بمدى دستورية المادتين الثالثة والخامسة من اتفاقية الجيوش العربية فى البلد التى تقضي الضرورات العسكرية بانتقالها إليه، وقضت المحكمة بعدم اختصاصها بنظر الدعوى.
  • ويتعلق الحكم الثالث بمنازعة تنفيذ بين قرار رئيس الجمهورية الصادر بدعوة الناخبين إلى الاستفتاء على حل مجلس الشعب في 11/ 10/ 1990 وبين حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بجلسة 19/ 5/ 1990 بعدم دستورية المادة الخامسة مكرر من قانون مجلس الشعب متضمنًا قضاءه ببطلان عضوية أعضائه وتشكيله، باعتبار أن القرار بقانون المذكور هو عقبة فى تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا الأخيرة، وقضت المحكمة فيها بعدم اختصاصها بنظر الدعوى.
  • ويتعلق الحكم الرابع باتفاقية تأسيس المصرف العربي الدولي للتجارة والتنمية، والذى قضى بعدم قبول الدعوى بالنسبة إلى الطعن بعدم دستورية المواد أرقام (9، 12، 13) من اتفاقية تأسيس المصرف العربي الدولي للتجارة الخارجية والتنمية، وبرفضها بالنسبة إلى الطعن بعدم دستورية ما تتضمنه المادة (15) منه من استبعاد تطبيق القوانين والقرارات المنظمة لشؤون العمل الفردى على العاملين بالمصرف.
  • ويتعلق الحكم الخامس بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972 والذى قضى بعدم قبول الدعوى في شأن الطعن على كافة النصوص التي تضمنها قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية، وقضى كذلك برفض الدعوى بعدم دستورية نص المادة (17) من قانون السلطة القضائية.
  • أما الحكم السادس فيتعلق بالقانون 79 لسنة 2012 بمعايير انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية لإعداد مشروع دستور جديد للبلاد والذي قضي بعدم دستوريته.

وقد انتهت هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية(**) من إيداع تقريرها بالرأي بشأن هذا النزاع بتاريخ 13/ 6 /2017، وأوصت في هذا التقرير بعدم قبول الدعوى المرفوعة من الحكومة. 

 

توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية

الدعوى الدستورية الثانية

وهي الدعوى 49 لسنة 38 قضائية (منازعة تنفيذ)، وهي شبيهة بالدعوى الأولى حيث أقامتها هيئة قضايا الدولة يوم 5/ 11/ 2016 وتطالب فيها بوقف تنفيذ حكم القضاء الإداري ببطلان اتفاقية التنازل عن الجزر، وعدم الاعتداد به، بزعم أن هذا الحكم يخالف خمسة أحكام سابقة (***) للمحكمة الدستورية العليا. ومن جانبنا أوضحنا للمحكمة الدستورية أن حكم بطلان اتفاق الجزر ليس له أي صلة بأحكام الدستورية المستشهد بها في هذا النزاع أيضًا، ولا يمثل أي عقبة أو عائق فى تنفيذ أحكام الدستورية سالفة الذكر.

  • فالحكم الأول يتعلق بمدى دستورية المادتين الثالثة والخامسة من اتفاقية الجيوش العربية في البلد التي تقضي الضرورات العسكرية بانتقالها إليه، وقضت المحكمة بعدم اختصاصها بنظر الدعوى.
  • والحكم الثاني يتعلق باتفاقية تأسيس المصرف العربي الدولي للتجارة والتنمية، والذي قضى بعدم قبول الدعوى بالنسبة إلى الطعن بعدم دستورية المواد أرقام (9، 12، 13) من اتفاقية تأسيس المصرف العربي الدولي للتجارة الخارجية والتنمية، وبرفضها بالنسبة إلى الطعن بعدم دستورية ما تتضمنه المادة (15) منه من استبعاد تطبيق القوانين والقرارات المنظمة لشئون العمل الفردي على العاملين بالمصرف.
  • والحكم الثالث يتعلق بالقانون رقم 143 لسنة 1984 بانسحاب مصر من اتحاد الجمهوريات العربية، ولم يتناول الحكم من قريب أو بعيد نظرية أعمال السيادة.
  • والحكم الرابع يتعلق بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972 والذى قضى بعدم قبول الدعوى في شأن الطعن على كافة النصوص التى تضمنها قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية. وكذلك قضى برفض الدعوى بعدم دستورية نص المادة (17) من قانون السلطة القضائية.
  • والحكم الخامس يتعلق بنص الفقرة الأولى من المادة الثالثة من القانون رقم 38 لسنة 1972 في شأن مجلس الشعب المستبدلة بالمرسوم بقانون 120 لسنة 2011 والمادة التاسعة مكرر (أ) من القانون المشار إليه المضافة بقانون رقم 108 لسنة 2011.

وقد انتهت هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا من إيداع تقريرها بالرأي بشأن هذا النزاع أيضًا بتاريخ 13/ 6 /2017، وأوصت في هذا التقرير مثلما أوصت في التقرير الخاص بالقضية الأولى بعدم قبول الدعوى المرفوعة من الحكومة.

ومن الملاحظ في الدعويين أنه تم رفعهما قبل صدور حكم الإدارية العليا بتأييد حكم القضاء الإدارى ببطلان الاتفاقية، وقد قدمنا حكم الإدارية العليا للمحكمة الدستورية العليا، كما أن حقيقة الدعويين عبارة عن إشكال فى تنفيذ حكم بطلان الاتفاقية، وبالرغم أن التقريرين تم الانتهاء منهما وإيداعهما بالمحكمة يوم 13/6/2017، وجاءت التوصية واضحة بعدم قبول تلك الدعاوى، إلا أن ذلك لم يمنع البرلمان من مناقشة الاتفاقية، والموافقة عليها في اليوم التالي مباشرة الموافق 14/ 6/ 2017 .

 

 تيران وصنافير 

وقد أوضحنا للمحكمة أن الهدف من هذه الدعاوى التي أقامتها الحكومة هو إطالة أمد النزاع واختلاق دعاوى وهمية تزعم أن حكم بطلان الاتفاقية يعارض أحكام سابقة للمحكمة الدستورية العليا، وهو أمر غير متحقق لأن أحكام الدستورية المستشهد بها سابقة على حكم بطلان الاتفاقية، كما أن موضوع أحكام الدستورية ومحلها مختلف تمامًا عن حكم بطلان الاتفاقية، ومن ثم لا يتصور أن يمثل حكم بطلان الاتفاقية أي عائق من عوائق تنفيذ أحكام الدستورية السالف بيانها، فضلًا عن افتقاد هاتين المنازعتين لأي رابط منطقي بين حكم بطلان الاتفاقية وأحكام الدستورية المستشهد بها.

وبالرغم أنه ومنذ جلسة 30/7/ 2017 والدعويين جاهزتين للفصل فيهما، وهو ما طالبنا به نحن وكذلك هيئة قضايا الدولة، إلا أن المحكمة الدستورية قررت التأجيل أكثر من مرة دون رغبة الخصوم بالقضية، وكنا نعي أن هدفها من ذلك أن تنتظر الانتهاء من المرافعات في الدعوى الدستورية الثالثة لتصدر الأحكام الثلاثة في يوم واحد.

وفي يوم 3/3/ 2018 صدر الحكم في الدعويين لصالحنا بعدم قبول دعاوى هيئة قضايا الدولة لكون حكم بطلان اتفاقية التنازل عن الجزر لا يناهض أحكام المحكمة الدستورية العليا، ولا يمثل أي عائق أمام تنفيذها.

الدعوى الدستورية الثالثة

وهي الدعوى 12 لسنة 39 "تنازع"، أقامتها هيئة قضايا الدولة في 1/6/ 2017 ، وطالبت بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ حكم بطلان الاتفاقية الصادر من القضاء الإداري والمؤيَد بحكم الإدارية العليا، وفي الموضوع بعدم الاعتداد بحكم القضاء الإداري والإدارية العليا، والاعتداد بأحكام  محكمة القاهرة للأمور المستعجلة(****)، وفي هذا النزاع نوضح عددًا من الملاحظات: أولًا: أن طبيعة هذه القضية هي دعوى تنازع بشأن حكمين نهائيين متناقضين، وهو الحكم الصادر من القضاء الإداري والإدارية العليا ببطلان الاتفاقية، والحكم الصادر من الأمور المستعجلة بعدم الاعتداد بأحكام القضاء الإداري، ودور المحكمة الدستورية هو الفصل في هذا النزاع بتحديد المحكمة المختصة بنظر القضية، ومن ثم تحديد أي من الحكمين واجب التنفيذ.

ثانيًا: في يوم 20 /6/ 2017 أودعت هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية تقريرها في الشق العاجل للنزاع دون أن تعقد أي جلسة لسماع الخصوم، وقد تم إعلاننا بهذه الدعوى يوم 12/6/2017 ووفقا لقانون المحكمة الدستورية لنا 15 يومًا لإيداع مذكرات ردًا على الحكومة، وهي المهلة التي كان مفترضًا أن تنتهي يوم 27/ 6/ 2017، إلا أن رئيس المحكمة الدستورية العليا لم ينتظر هذه المهلة القانونية التي منحها لنا قانون المحكمة الدستورية، وأصدر قراره في نفس يوم إيداع التقرير 20/ 6/ 2017 بوقف تنفيذ كافة الأحكام المتعلقة بالجزر لحين الفصل في الشق الموضوعي للنزاع، وإذا كان قانون المحكمة الدستورية يتيح لرئيس المحكمة إصدار مثل هذا القرار منفردًا ودون عقد جلسة للاستماع للخصوم، إلا أن هذه السلطة معلقة على انتهاء المدة التي حددها القانون للخصوم لإيداع مذكراتهم، وهي 15 يومًا من تاريخ إعلانهم بالدعوى الدستورية، حتى يكون تحت بصر هيئة المفوضين والمحكمة ردود الخصوم ودفاعهم.

البرلمان لا يكترث بالدستورية

ثالثًا: لقد وافق البرلمان على الاتفاقية يوم 14/ 6/ 2017 أي قبل إصدار رئيس المحكمة الدستورية لقراره بوقف تنفيذ حكم بطلان الاتفاقية، فرئيس المحكمة الدستورية لم يصدر قراره إلا فى 20/6/ 2017 بما يفيد أن الحكومة والبرلمان لم تكترثا بالمنازعات الدستورية، ولم تكن معوقًا أمام البرلمان فى ممارسة أعماله، ولم ينتظر صدور أي قرار أو حكم منها حيث وافق على اتفاقية قضي ببطلانها، وكان حكم البطلان ساريًا بكافة آثاره القانونية وقت موافقة البرلمان عليها.

رابعًا: قبل بدء جلسات المرافعة في الشق الموضوعي، نُشرت الاتفاقية التي وافق عليها البرلمان وصدق عليها رئيس الجمهورية بالجريدة الرسمية بالعدد 33 في 17 أغسطس 2017، بما يفيد أن رغبة السلطة فى تمرير الاتفاقية لم تكن مُعلَّقة على حكم المحكمة الدستورية، فحتى قرار رئيس المحكمة بوقف تنفيذ الحكم لا يعني إعدام الحكم أو إنهاء آثاره القانونية الواجب احترامها، فوقف التنفيذ ليس معناه السماح لأحد الخصوم باستخدام ما لديه من سلطات لتفريغ الحكم القضائي من جوهره، أو فتح الباب للتحايل عليه والالتفاف حول آثاره.

خامسًا: عقدت هيئة المفوضين بالدستورية جلسات استماع للخصوم في الشق الموضوعي من النزاع، وقدمنا دفاعنا لها، وتم إيداع التقرير بالمحكمة في 4/ 12/ 2017 ، وأوصى التقرير (أصليًا) بعدم قبول دعوى الحكومة، و(احتياطيًا) بعدم الاعتداد بكافة الأحكام التي صدرت في شأن نزاع الجزر، سواء من مجلس الدولة أو من الأمور المستعجلة.

ترقية وغياب وطلب رد

سادسًا: أول جلسة لنظر القضية في شقها الموضوعي، حضرت المحكمة بكافة أعضائها تحت رئاسة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، وبعضوية المستشار طارق شبل الذى أعد التقرير في الشق العاجل، وأوصى بوقف تنفيذ كل الأحكام فى 20/ 6/ 2017، وكان وقتها هو رئيس هيئة المفوضين بالدستورية، ولكن عند انعقاد الجلسة الأولى لنظر القضية في شقها الموضوعي كان قد تم ترقيته إلى عضو بهيئة المحكمة، فانتقل من رئاسة هيئة المفوضين إلى عضوية هيئة المحكمة، وفي الجلسة الثانية فوجئنا بعدم حضور عدد من أعضائها منهم رئيس المحكمة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق الذي أصدر القرار العاجل بوقف تنفيذ الحكم يوم 20/6/2017، وكذلك عدم حضور المستشار طارق شبل، حيث تولى النائب الأول لرئيس المحكمة المستشار حنفي جبالي رئاسة المحكمة في هذه الجلسة، ولم يتم إخطارنا بسبب هذا الغياب أو هذا التغيير، وفي الجلسة الثالثة قام الزميل المحامي أحمد قناوي بتقديم طلب رد (*****) عضوين من هيئة المحكمة هما المستشار حنفي جبالي رئيس المحكمة بهذه الجلسة، والمستشار حاتم بجاتو عضو المحكمة، وبدلًا من صدور قرار بمنح المحامي أجلًا لاتخاذ إجراءات الرد، صدر القرار بحجز القضية للحكم لجلسة 3/3/2018، وكان هذا هو اليوم المحدد للحكم في الدعويين الدستوريتين الأولى والثانية.

سابعًا: فى جلسة 3/3/2018 صدر الحكم في هذه القضية بعدم الاعتداد بكافة الأحكام التي صدرت بشأن قضية تيران وصنافير من كل المحاكم سواء من مجلس الدولة أو من الأمور المستعجلة، وهو ما يطرح سؤالًا حول ما إذا كانت الدستورية قد حسمت كون محكمة الأمور المستعجلة غير مختصة بالتعقيب على أحكام مجلس الدولة ومن ثم قضت الدستورية بعدم الاعتداد بحكم الأمور المستعجلة، فإن ذلك يعني أن محاكم مجلس الدولة هي المختصة وحدها بتحديد ما إذا كان النزاع الذى تنظره عملًا من أعمال السيادة أم لا، وإذا قررت محكمة القضاء الإداري أنها مختصة بنظر نزاع الجزر وأصدرت حكم ببطلان الاتفاقية، وأيدتها المحكمة الإدارية العليا، فإن صدور حكم من الدستورية العليا بعدم الاعتداد بأحكام مجلس الدولة في شأن الجزر لأن نظرية أعمال السيادة تجعلهم غير مختصين بنظر النزاع، ألا يدل ذلك على أن المحكمة الدستورية تجاوزت حدود اختصاصها في هذا النزاع واعتبرت نفسها محكمة طعن على أحكام القضاء الإداري والإدارية العليا؟.

ثامنًا: أليس تطبيق نظرية أعمال السيادة على هذا النزاع يجعل نصوص الدستور بشأن وحدة أراضي الدولة وعدم جواز النزول عنها أو تجزئتها هي والعدم سواء؟ ألا يفتح هذا الحكم الباب على مصراعيه للسلطة التنفيذية لعقد أي اتفاقات حتى ولو كانت لا تملك هذه السلطة بزعم أن ذلك عمل من أعمال السيادة ولا يجوز رقابته من قبل القضاء؟

إذا كان القضاء سيُحرَم ابتداءً من إمكانية بسط رقابته على مثل هذه الإتفاقيات بزعم أنها عمل من أعمال السيادة، فمن الذي يملك تحديد المركز القانوني للأرض، ما إذا كانت مصرية لا يجوز النزول عنها أو غير مصرية ويمكن عقد اتفاقيات بشأنها؟

ختامًا، في الإجابة على هذا التساؤل بشأن ماذا جرى في المحكمة الدستورية نجد أن الحكومة لم تعبأ بالإطار القانوني أو الدستوري لأحكام القضاء، بل سعت لتمرير الاتفاقية بالبرلمان والتصديق عليها ونشرها بالجريدة الرسمية حتى قبل صدور حكم الدستورية، وجاء حكم الدستورية لتأكيد إغلاق النزاعات القضائية بشأن المرحلة الأولى، وهي مرحلة التوقيع وقبل العرض على البرلمان، وخلال هذه المرحلة تم الإطاحة بالمستشار الدكروري من رئاسة مجلس الدولة، كما تم نقل جميع الأعضاء الذين شاركوا فى كتابة أحكام القضاء الإداري والإدارية العليا لدوائر أخرى بعيدًا عن الدائرة الأولى بالقضاء الإداري، والدائرة الأولى بالإدارية العليا، كما تم تحرير عشرات المحاضر للشباب والشابات من كافة المحافظات بشأن التظاهر أو التحريض على النظام بشأن الاتفاقية، وصدرت أحكام قاسية بحقهم.

مستقبل النزاع بشأن الجزر

 

النائبة نشوى الديب باكية بجوار مكتب عبد العال رئيس البرلمان بعد جلسة تمرير اتفاقية تيران وصنافير. 

 

يظن البعض أن النزاع قد حسم من الناحية القانونية والقضائية بشأن الجزر، وهو ظن يخالف الحقيقة، فقد انتهت مرحلة من هذا النزاع كان لها طبيعتها وأدواتها، وهذه المرحلة لم تنتهِ من تاريخ حكم الدستورية ولكن فى الحقيقة انتهت من تاريخ موافقة البرلمان على الاتفاقية حيث أن هذه الموافقة والتصديق عليها ونشرها بالجريدة الرسمية منح هذه الاتفاقية قبلة الحياة من جديد، وفرض بذلك مرحلة جديدة لها طبيعتها وأدواتها المختلفة حيث أن الإتفاقية بهذا المسار أضحت قانونًا واجب التطبيق وليس هناك من يملك إيقافها من الناحية القضائية إلا حكمًا من المحكمة الدستورية العليا متى قامت إحدى المحاكم بإحالة الإتفاقية إليها، أو صرحت لنا في إحدى الدعاوى بأن نرفع الدعوى الدستورية أمام المحكمة الدستورية، وفي ذلك نوضح عددًا من المسارات:

أولًا: منذ موافقة البرلمان على الاتفاقية، ثم التصديق عليها، ثم نشرها بالجريدة الرسمية، تم رفع عدد من الدعاوى القضائية أمام القضاء الإداري على كل إجراء من هذه الإجراءات، وتم الدفع بعدم الدستورية وطلب من محكمة القضاء الإدارى التصريح لنا باتخاذ إجراءات الطعن أمام المحكمة الدستورية، ومازالت القضية بهيئة المفوضين بالقضاء الإداري، ولم يصدر بشأنها أي تقرير ولم تُحَل لهيئة الموضوع بالمحكمة للفصل فيه، ومن المتوقع أن يتم في أغلب الأحيان الاستجابة لطلب إحالة القضية للمحكمة الدستورية ليعود النزاع أمامها من جديد بشأن النظر في مدى دستورية هذه الاتفاقية من عدمه، حيث أن القضايا السابقة التي نظرتها الدستورية كانت (إشكالين في التنفيذ ودعوى تنازع اختصاص)، ومن ثم لا تكون المحكمة الدستورية قد سبق لها الفصل في النزاع حول مدى دستورية الاتفاقية من عدمه.

ثانيًا: بعد صدور حكم الإدارية العليا تقدمت ببلاغ للنائب العام ضد رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب، ووزير الخارجية ووزير الداخلية بشأن تعريضهم أراضي الدولة للخطر، وبعد تمرير الاتفاقية بالبرلمان تقدمت ببلاغ جديد ضدهم إلحاقًا بالبلاغ الأول، وحتى اليوم لم يتم التحقيق في بلاغيَّ أو تحديد جلسة لسماع أقوالي.

ثالثًا: مازال هناك دعوى قضائية أقامها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والإجتماعية باعتباره موكلًا من مواطنين قالوا إنهم يتمسكون بمصرية الجزر، وبعدم تمتع رئيس الجمهورية أو البرلمان بسلطات دستورية تسمح لهم بالتنازل عن الأراضي المصرية، ولكن رغم ذلك فإنهم يقيمون هذه الدعوى تماشيًا مع الادعاء الذى اعتصمت به الحكومة بأن الأرض غير مصرية، فالذي لا يمكن الجدال فيه تحت أي زعم أن مصر كانت تمارس كافة حقوق السيادة على هذه الجزر، ومن ثم لا يجوز إنفاذ هذه الاتفاقية وسريانها قبل طرحها على الاستفتاء الشعبي وموافقته عليها طبقًا لنص الفقرة الثانية من المادة 151 من الدستور المصري، ومازالت هذه الدعوى متداولة ولم يتم الفصل فيها.

تحرك قضائي دولي

رابعًا: أقمت أنا ومالك عدلي وآخرين شكوى أمام اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب لعدم الاعتداد بهذه الاتفاقية لعدوانها على الدستور المصري، وهو أول تحرك قضائي دولي بشأن هذا النزاع.

خامسًا: كل الأحكام التي حصلت عليها الحكومة تتعلق بنظرية أعمال السيادة، وهي نظرية قانونية تستهدف حرمان القضاء من بسط رقابته على الاتفاقية، والجهة القضائية الوحيدة التي رأت أن الاتفاقية لا يجب أن تهرب من رقابة القضاء بزعم أن التوقيع عليها عمل من أعمال السيادة هي مجلس الدولة؛ أي محكمتي القضاء الإداري والإدارية العليا، وكلا المحكمتان تناول موضوع النزاع، وأكدتا أن الجزر مصرية، ومن ثم لا يجوز لرئيس الجمهورية ولا البرلمان التنازل عنهما، وهو نصر أخلاقي وسياسي يحاول النظام تجاهله أو التقليل منه ومن آثاره، لكن حتى اليوم ما زال الأمر لم يحسم لهم، بل سيظل رهن تفاعلات عدة فى الحاضر والمستقبل.

لقد وصف الدستور المصري الدفاع عن الأرض بـ"الشرف والواجب المقدس"، وهو الوصف الذي لم يطلقه على أي حرية أو حق من الحقوق بما فيها الحق في الحياة، لكنه اختص الأرض وحدها بهذا الوصف، لذا لم أفقد الأمل ولن أفقده، وسأستمر في اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والقضائية التي يجب اتخاذها، وبالطبع هناك ملايين غيرى لم يفقدوا الأمل ولن يفقدوه، وحتمًا سيكون للحديث بقية..

اقرأ أيضًا: يوميات صحفية برلمانية| كواليس جلسة تسليم "تيران وصنافير"



(*) الأحكام الستة التي سبق وأصدرتها المحكمة الدستورية العليا والتي ادعت هيئة قضايا الدولة في الدعوى الدستورية الأولى أن حكم القضاء الإداري سيعرقل تنفيذها هي في الطعون و القضايا أرقام: 3 لسنة 1 ق دستورية، 48 لسنة 4 ق دستورية، 4 لسنة 12 ق دستورية، 10 لسنة 14 ق دستورية، 139 لسنة 17 ق دستورية،  166 لسنة 34 ق دستورية. (**) هيئة المفوضين، هي إحدى هيئات المحكمة الدستورية العليا مهمتها تحضير القضايا عبر عقد عدد من الجلسات للخصوم للاستماع لمرافعتهم واستلام مستنداتهم، ثم تقوم الهيئة بإعداد تقرير بشأن النزاع تشرح فيه وقائع  النزاع ومفرداته والدفاع الذي استند إليه كل طرف والمستندات التي قدموها، ثم توصي برأيها في شأن الحكم في الطلبات، ويرسل هذا التقرير لدائرة الموضوع بالمحكمة الدستورية العليا التي تفصل في النزاع، ويكون تقرير المفوضين مجرد تقرير استشاري للمحكمة الأخذ به أو تجاهله.

(***)الأحكام الخمسة المذكورة في الدعوى الدستورية الثانية التي أقامتها هيئة قضايا الدولة هي في الطعون والقضايا أرقام 39 لسنة 17 ق دستورية، 48 لسنة 4 ق دستورية، 10 لسنة 14 ق دستورية، 20 لسنة 34 ق دستورية، 30 لسنة 17 ق دستورية.

(****) في الدعوى رقم 121 لسنة 2017 مستعجل القاهرة بجلسة 2/4/2017 وبعدم الاعتداد بالحكم الصادر في الدعويين رقمي 43709 , 43866 لسنة 70 ق قضاء إداري كذلك الحكم الصادر في الطعن رقم 74236 لسنة 62 ق عليا.

(*****) الرد هو إجراء قضائي يتيحه القانون للاعتراض على عضوية أحد المستشارين بالمحكمة طالبًا إبعاده عن نظر القضية، وله شروطه المحددة في القانون، وعند تقديم الطلب تمنح المحكمة من تقدم به أجل لرفع دعوى الرد لبحث أسباب طلبه ومستنداته، وعلى المحكمة التي تم ردها أو العضو الذي تم رده، عدم اتخاذ أي قرار بشأن النزاع الذي ينظره لحين الفصل في طلب الرد أو تنازل صاحبه عنه.