تصميم: أحمد بلال - المنصة

المذيع الافتراضي ومعركة النفاق

منشور الجمعة 21 أبريل 2023

لم يكن قراري بتغيير مهنتي وليد اللحظة أو تحت ضغظ الظروف، بل رغبة ملحة لسنوات، دوافعها بالدرجة الأولى شخصية لما تتركه مهنة التقديم التلفزيوني من آثار نفسية وجسدية وحتى عقلية عليَّ. لكني لم أكن أتصور أن يكون الذكاء الاصطناعي أحد دوافع هذا القرار، فالمنافسة اليوم خرجت من إطارها التقليدي لتصبح في المستقبل القريب سباقًا مع المذيعين والمذيعات الافتراضيين.

المذيعون الافتراضيون لا يملون ولا يتعبون، ولن تغير السنوات ملامحهم، كما لن ترتجف أصواتهم أو يرف لهم جفن وهم يقدمون الأخبار السيئة عن الحروب والحوادث وعالم السياسة وتعقيداته. 

هذا السيناريو ليس افتراضيًا بل أصبح واقعًا، حيث أطلت علينا المذيعة ابتكار قبل بضعة أسابيع ضمن مؤتمر الجزيرة للذكاء الاصطناعي في الإعلام في الدوحة، وقدمت الحفل وأجرت مقابلة مع أحد الضيوف. وجَّهت الأسئلة المعدة لها وأتمت مهمتها بنجاح.


لا ندري بعدْ كم تحمل ابتكار من صفات اسمها، وهل ستكون لديها وأقرانها القدرة على التفاعل الحقيقي مع المحتوى الذي تقدمه، هل سيكون بإمكانها إدارة حوار مفتوح تبني نقاشها على أساس فهمها لما يقوله الضيف وقد ترفع حاجبيها أو تهز رأسها، أم ستظل في إطار الأسئلة المكتوبة سلفًا أيًا كانت إجابة الضيف.

وما هي إلا بداية التجارب، حيث بات بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يحل محل محرر الديسك ورئيس التحرير، ومصمم الجرافيك والإضاءة وتشغيل الكاميرات، وصولًا إلى عملية الإنتاج بأكملها، وفي المستقبل القريب قد تنتفي الحاجة تمامًا إلى العنصر البشري.

ليس غريبًا أن تكون الجزيرة أحد الرواد في هذا المجال في العالم، ولحقتها الكويت بالمذيعة فضة التي أطلت على الشاشة قبل أيام قليلة، فدول الخليج بقدراتها الإعلامية والمادية الكبيرة مؤهلة للريادة في عصر تكنولوجيا الإعلام لتطوع السوق وترسم ملامحه الجديدة. 

لا تكل ولا تمل

في حسابات كثيرة قد يبدو للوهلة الأولى أن المعادلة لصالح ابتكار وزملائها، فهي قليلة التكلفة، لا تشتكي من ساعات العمل الطويلة أو الشيفت الليلي. لن تكون لها آراء مستقلة تختلف أو تتفق مع أجندة القناة التي تعمل لديها، كما أنها لن توجع رأس مديرها بالـ makeup والشعر أو اللعثمة أثناء التقديم، ولن تختلط عليها أسماء الضيوف أو مناصبهم. ابتكار موظفة مثالية يمكن إدارتها وادارة شؤون حياتها الافتراضية بكبسة زر.

هل سينال المذيع الافتراضي رضا الرئيس الفلاني أو يثير غضب الأمير العلاني؟ 

لن تعترض ابتكار على الحديث عن التطبيع مثلًا مع الأعداء والخصوم التاريخيين، وستتبنى الخط السياسي والتحريري المُعَد لها بمنتهى الرضا. لن يلومها المشاهدون على "التطبيل" لهذا الزعيم أو ذلك النظام السياسي، وإذا طُلِب منها أن تبيع الوهم ستفعل ذلك بكل سرور، فلن يكون صعبًا عليها مثلًا إقناع المشاهدين بأهمية وضرورة أكل أرجل الفراخ لأنها تحتوي على بروتين يساوي خروفًا محشيًا. هل يمكن أن نشكك فيما يقوله الذكاء الاصطناعي؟ 

لكن لو فكرنا قليلًا وتساءلنا، هل بالفعل بإمكان ابتكار والمذيعين الافتراضيين أن يحلوا محل المذيع بشحمه ولحمه؟ هل يختلف من يملؤون الساحة والشاشات كثيرًا عن ابتكار؟ هل يتمتعون بمساحات من الإبداع والحرية تسمح لهم بتقديم إعلام نزيه مستقل يعبر فعلًا عما يدور في الشارع وعلى ألسن الناس؟ كم من مذيع ومذيعة بشرية يدارون اليوم بكبسة زر على جهاز سامسونج؟ بل ويؤدون عملهم أفضل من أي روبوت يدار عبر الريموت كنترول. وهل سينال المذيع الافتراضي رضا الرئيس الفلاني أو يثير غضب الأمير العلاني؟ 

هل سيرضى هذا الرئيس أن تعامله ابتكار كأي ضيف عادي، هو الذي لا يرضى إلا بمذيع يقف له احترامًا مدليًا رقبته على صدره أمام الشاشة لساعة كاملة، تبجيلًا لشخصه وهو يتلو في مداخلة ارتجالية تعاليمه على المذيع والشعب والدنيا بأسرها؟

كما أن الصحفي أو المذيع الافتراضي لا يمكن قتله أو سجنه أو ترحيله، لن يكون مناسبًا لممارسة أساليب القمع عليه، لن يكون بإمكان تلك الأنظمة أن تجعله عبرة لمن تسول له نفسه البحث عن الحقيقية، ورغم أنه أقل وجعًا للرأس ومشاكله أقل، لكنه سيحرمها من ممارسة هوايتها بتقطيع الصحفيين وإخفاء جثثهم، أو ملاحقتهم وطردهم وقطع أرزاقهم. 

لن يرتعب الناس إذا أوقفت المذيعة ابتكار عن العمل، لكن قصة مذيع واحد أو مراسل واحد تعرض للانتهاك والتعذيب أو الإيقاف عن العمل بسبب مواقفه المعارضة، هو المقياس الذي تحتاجه الأنظمة القمعية لإرهاب الجمهور الواسع وجعله عبرة.  

أشك أن تصبح ابتكار طرفًا في خناقة ياسمين عز ورضوى الشربيني اليومية. لن تستطيع التفوق عليهما!

المذيع أو المحاور الذي لا يتحدى سردية ضيوفه بأسئلة منطقية تدافع عن الحقائق لا فرق بينه وبين نموذج افتراضي، الاثنان يؤديان دورًا معدًا سلفًا، لا إبداع فيه ولا "ابتكار". كما أن الفقاعات الإعلامية التي تظهر بين فترة وأخرى لتصير حديث الناس وشغلهم الشاغل لن تعوضها حسناء وهمية من نتاج الصناعة الإلكترونية، أشك مثلًا أن تصبح ابتكار طرفًا في خناقة ياسمين عز ورضوى الشربيني اليومية. أكيد لن تستطيع التفوق عليهما! 

سألت تطبيق تشات جي بي تي إذا كان بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يتعلم النفاق والموالسة للبشر، إجابته كانت أنه ليس بإمكان الذكاء الاصطناعي أو البرامج اللغوية أن يكون لديها مواقف أو وجهات نظر أو أحكام انفعالية على القضايا التي تطرح عليها، وأن النفاق هو نتاج عملية عقلية معقدة يحسب فيها العقل البشري حسابات الربح والخسارة والتكسب والاستفادة، فلذا فإن النفاق هو ميزة تميز البشر وحدهم. 

إلى أن يتعلم الذكاء الاصطناعي والمذيع الافتراضي النفاق بكل حساباته المعقدة، فإن المهنة "بخير". وطالما أن معايير النجاح فيها لمن يستطيع بيع الوهم وكَيل المديح أو السباب حسبما يتطلب الموقف، سيظل المذيع فلان الفلاني هو الرائد في المجال. وهكذا ستنحسر المنافسة بين روبوت افتراضي وآخر بشري، بينما ينسحب المؤمنون بالمهنة ومعاييرها الحقيقية وأخلاقها إلى هامش المشهد، يتفرجون من زاويتهم على الخراب وهو يتسلل عبر الشاشات والميكروفونات في معادلة البقاء فيها للأكذب.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.