الانتخابات الفرنسية هذه المرة تختلف عن سابقتها التي جرت في 2012. رفض الرئيس الحالى فرنسوا أولوند الترشح، بعد تدني معدلات قبوله لدى الشارع الفرنسي إلى درجة غير مسبوقة. ليقدم حزبه "الاشتراكي"، المرشح "بونوا أمون" الذي يعبر عن يسار الحزب ويحمل برنامجه صبغة إيكولوجية.
يعاني أمون كثيرا في الأسبوع الأخير الذي يسبق الجولة الأولى من الانتخابات، والمنتظر عقدها الأحد المقبل. حيث تضعه استطلاعات الرأي في المرتبة الخامسة، بعد مرشح يساري آخر هو جون لوك ميلانشون، الذي يخوض الانتخابات الرئاسية للمرة الثانية بعد 2012، وحصل وقتها على نسبة 12% من الأصوات.
بعد خلافه مع الحزب الشيوعي الذي خاض تحت اسمه انتخابات 2012، أسس ميلانشون حركة باسم "المتمردون"، وهي تكتل ذي ميل الشيوعي تؤيده كثير من المؤسسات النقابية وجمعيات المجتمع المدني اليسارية بفرنسا.
وهناك أيضا المرشح إيمانويل ماكرون، وهو وزير اقتصاد سابق داعم للسياسات النيوليبرالية، ولكنه ينحاز لتصور أقل تقشفًا وأكثر اجتماعية من مرشح اليمين فرانسوا فيون، والذي شغل منصب رئيس وزراء في رئاسة ساركوزي قبل 2012. كان إيمانويل ماكرون وزيرا بحكومة حزبه الحاكم، واستقال نتجة انحياز حزبه لسياسات نيوليبرالية، رآها مخالفة لخط الحزب الاجتماعي الديموقراطي.
بينما تظل مرشحة حزب الجبهة القومية وممثلة اليمين المتطرف مارين لوبان، متصدرة استطلاعات الرأي مع ماكرون كافة استطلاعات الرأي حتى الآن.
عاصرو الليمون
يتبني فرانسوا فيون مرشح الحزب الجمهوري وممثل تيار اليمين المحافظ مشروعًا داعمًا للتقشف وتقليص الإنفاق الاجتماعي، ويُصنَّف مشروعه الاقتصادي بأنه ليبرالي متوحش.
بعد فوزه في الانتخابات الداخلية لحزب الجمهوريين اليميني، تلوثت حملته الانتخابية بتحقيق استقصائي لصحيفة البطة المزعجة – كانار أُن شينيه- أظهرت تورط المرشح بتوظيف زوجته كمساعدة له بمرتب خيالي، دون أن تقوم فعليا بأي عمل. وقد أدى ذلك إلى فتح تحقيق قضائي تلاه عدد من التحقيقات الصحفية التي لاحقته حتي الأسبوع قبل الأخير من الجولة الأولى للانتخابات.
حدثت مناوشات داخل حزبه لدفعه للاستقالة، لكنه استطاع الصمود، ولا يزال يحتل المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي التي تلعب دورًا محوريًا في خيارات الناخبين.
يؤكد العديد من اليمينين الذين صُدموا من وقائع استغلاله للمال العام، أنهم سيصوتون له رغم ذلك، بهدف التخلص من اليسار الحاكم، وعدم السماح لليمين الأكثر تطرفًا -ممثلاً في مارين لوبان- بحكم فرنسا، ولكي تعود السياسات اليمينية المحافظة والمرتبطة بتقليص الضرائب على الأغنياء، والمحافظة علي الهوية الفرنسية، ومواجهة الهجرة وتقليص الإنفاق العام.
يُعد مصوتي اليمين هم "عاصري الليمون" في الانتخابات الفرنسية، وقال أحدهم في مداخلة تلفزيونية "سأسد أنفي عن الفضائح التي تطارد فيون وأصوت له حتى لا يمر اليساريون مرة أخرى".
القبلة جهة أقصى اليسار
جرت العادة أن يحصل الحزب الاشتراكي الحاكم علي أصوات الشيوعيين والأطياف اليسارية المختلفة في الجولة الثانية للانتخابات. هذا ما حدث مع فرانسوا أولوند الذي وصل إلى الإليزيه بأصوات الشيوعين وكافة الاحزاب والحركات اليسارية الصغيرة، بالإضافة إلى أصوات حزبه وأصوات الرافضيين لساركوزي.
هذه المرة يعد جان لوك ميلانشون - وفقا لاستبيانات الرأي- قريبًا من الوصول للجولة الثانية. فالاستطلاعات تشير إلى حصوله على 18% من الأصوات، في حين يقف مرشح الحزب الاشتراكي بونواه أمون عند 8%.
ويعود تأخر أمون إلى انسحاب بعض أعضاء حزبه لتأييد إيمانويل ماكرون، حيث يرون ماكرون "اجتماعي ليبرالي"، في حين يُنظر إلى أمون إلى أنه يمثل القسم الأكثر راديكالية داخل الحزب الاشتراكي، ويعبر عن التيار الديمقراطي الاجتماعي فيه. وقد تطور مشروعه ليصبح اجتماعي – إيكولوجي بعد تحالفه مع مرشح الخضر الذي تنازل لصالحه.
ومع ذلك فإن ميلانشون الذي يعبر عن يسار ذي نزعة قومية، صاحب كاريزما سياسية وقدرات خطابية تسببت في جذبه لانتباه العديدين، بالإضافة إلى أن فريقه الإلكتروني هو الأكثر ظهورا وفعالية علي شبكات التواصل الاجتماعي.
خلال هذه الأيام يدعوا أنصار ميلانشون كل أطياف اليسار للتصويت لمرشحهم كتصويت "فعال"، لتمكينه من الوصول إلى الجولة الثانية، والتعامل مع جولة الانتخابات المنتظر عقدها يوم الأحد المقبل، باعتبارها كالجولة الثانية الحاسمة.
تعود هذه الدعوة إلى حقيقة التاريخ الانتخابي لليسار الفرنسي، الذي عادة ما يصوت جمهوره في المرحلة الأولى لمرشحهم مهما كانت فرصته للنجاح، وفي الجولة الثانية يصوتون للأقل خطرا علي الدولة الاجتماعية.
يطالب أنصار ميلانشون إذن جمهور اليسار بالتصويت الفعال لصالح مرشحهم، رغم أن بعضهم يؤكد علي المشكلات المرتبطة بشخصية ميلانشون العنيفة والهجومية، وكذلك خلافاته الحالية مع كل قيادات الحزب الشيوعي، ومعاملة بعض أنصاره له بطريقة بها تقديس مثير للريبة لدي كثير من اليساريين الديموقراطيين من مؤيدي أمون.
وجه النيوليبرالية الناعمة
ممثل هذا الاتجاه هو إيمانويل ماكرون، الذي عمل في بنك روتشيلد الإنجليزي، والتحق بفريق الرئيس الإشتراكي فرانسوا أولوند، ثم عمل وزيرًا للاقتصاد قبل أن يستقيل لتأسيس حركته "لنسير". وبدأت حركته في النمو لتشغل المساحة الفارغة بين اليمين واليسار في فرنسا.
استفاد المرشح الذي يمثل "النيوليبرالية الناعمة" من نجاح مرشح يساري راديكالى بالحزب الاشتراكي، ونجاح مرشح يميني راديكالي أيضا بالحزب الجمهوري، ليجتذب هو الوسطيين من اليمين واليسار، ويعرض نفسه كبديل للثنائية التي سيطرت علي المسرح السياسي الفرنسي منذ منتصف القرن الماضي.
يعد ماكرون إثباتًا على أن عدم الوضوح وإرسال رسائل متناقضة وغير كاملة؛ قادر على اجتذاب عددًا أكبر من المؤيدين. بالإضافة إلى أن طريقته التي تتسم بالغموض جعلته يحتاج وقتًا أقل لإقناع الناخبين الفرنسيين. فلم يمر عام علي ظهوره على المسرح السياسي، وها هو يتصدر استطلاعات الرأي، وصار صاحب أعلى الفرص مقابل مرشحة اليمين المتطرف "مارين لوبان".
لكن البعض يرون أن ماكرون هو مجرد ظاهرة إعلامية، حيث يتمتع بعلاقات قوية مع مُلاك أكبر القنوات، ويملك مهارات تواصل مخيفة. هذه الإمكانيات يراها البعض غير فاعلة في ظل مجتمع يظل غالبيته مؤدلج (صاحب توجه سياسي)، وعادة ما ينتهي الانبهار فيه علي أبواب لجان الاقتراع. ويصوت الناس لصالح الأقرب لقناعاتهم، علي الأقل في الجولة الأولى.
الشعبوية والشعبوية المضادة
منذ أن قدمت مارين لوبان خلفا لوالدها في رئاسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، وهي تحاول أن تحسن صورة الحزب وتمسح تاريخه الطويل من معاداة السامية والتحالف مع النازيين الجدد، ومناصرة أبائه المؤسسين للألمان وقت الاحتلال النازي.
نمو اليمين المتطرف ظاهرة عالمية، وهي مرتبطة بالأساس بأزمة النيوليبرالية، حيث إن غالبية الطرح اليميني نابع عن رفض الانفتاح الاقتصادي والثقافي الذي جلبته النيوليبرالية إلى الغرب.
تتبني مارين لوبان خطابا شعبويا يجتذب قطاعًا غير قليل من الفرنسيين "الأصليين". تريد لوبان إعادة فرنسا إلى أيام كان معظم الفرنسيين شُقر الوجه زُرق العيون. لا مزيد من الأجانب، ومن يأتي من البحر يعاد إلى البحر حيث أتى. تريد الخروج من أوروبا واستعادة الفرانك كعملة وطنية وفرض رسوم جمركية علي البضائع الأجنبية الداخلة إلى فرنسا.
نموذجها في السياسة هو ترامب، وإن كانت صُدِمت بضربته لسوريا، حيث أنها تري أن الحل يكمن في التحالف مع روسيا لا مواجتها، وتري في بشار حائط صد في مقابل "الدواعش". ورغم أن استطلاعات الرأي جميعها تضعها في الصدارة؛ إلا أنها تفقد نقاط تدريجيا مع اقتراب الاقتراع. ويشكك البعض في إمكانية وصولها للجولة الثانية الحاسمة، نظرًا لتنامي شعبية ميلانشون الذي يستعمل خطاب يساري ولكنه شعبوي أيضا، وربما لا يفل الشعبوية إلا شعبوية مضادة لها في الاتجاه.
ديموقراطية استطلاعات الرأي
تعتمد هذه القراءة علي نتيجة واحد من أحدث استطلاعات الرأي المعلنة نتائجه يوم 17 أبريل/ نيسان الجاري.
وتُجري استطلاعات الرأي المتعلقة بالرئاسة الفرنسية كل ثلاثة أيام، وتسيطر علي الفضاءات العامة والأحاديث حول الانتخابات. ورغم تطور تقنيات أخذ العينة العشوائية التي يقاس عليها اتجاهات الرأي العام نحو المرشحين؛ إلا أن متوسط العينة في معظم هذه الاستطلاعات هو 1000 شخص.
كما أن المشهد الانتخابي يشتمل علي 6 مرشحين آخرين بالإضافة لهؤلاء الخمسة الكبار كما تسميهم القنوات واستطلاعات الرأي.
وتؤثر استطلاعات الرأي بشكل كبير علي توجهات الناخبين، وأيضا تحركات المرشحين، فقد تدفع بعضهم لاتخاذ موقف هجومي أو التراخي وكأنه قد وصل إلى الجولة الثانية بالفعل، وأحيانًا قد تدفع مرشحين إلى فقد الأمل نسبيا. أما الناخبين؛ فقد قالت إحداهم: "لماذا أصوت لشخص لن يصل إلى الجولة الثانية؟"، في إشارة إلى المرشح الاشتراكي أمون، الذي تظهره الاستطلاعات متأخرا عن اليساري الأكثر راديكالية "ميلانشون".
ويستخدم أنصار ميلانشون نتائج هذه الاستطلاعات للضغط على جمهور اليسار للتصويت لمرشحهم خلال الجولة الأولى، لأن فرصه -وفقا للاستطلاعات- أكبر من أمون في بلوغ الجولة الثانية للانتخابات.
هذه الاستطلاعات وإن كانت تعبر عن جزء من الحقيقة، فإنها أيضا تساهم في صناعة الواقع، وتوجيه الناخبين وتضليلهم، فلا يظل اختيارهم حرا، بل هو مُوجَّه مِن قِبل مكاتب الإحصاء ومؤسسات وشركات استطلاعات الرأي.
يتم إذن صناعة رأي عام وفرضه كحقيقة اجتماعية، تمثل عامل ضغط وتوجيه للناخبين بدرجة أكبر من برامج المرشحين أنفسهم. وتتحول الديموقراطية التمثيلية المريضة في الأساس إلى لعبة بيد مكاتب استطلاعات الرأي.