الاعلامي معتز دمرداش - برنامج 90 دقيقة

فتاة كوبري العباسية.. خطايا الإعلام والمؤسسات الاجتماعية

منشور الخميس 6 يوليو 2017

على مدار الأسبوع الماضي ظهرت  آلاف المشاركات لمنشور على فيسبوك يُظهر فتاة تجلس أسفل كوبري العباسية في القاهرة، بدا مشهد الفتاة مختلفًا، فطبيعة ملابسها رغم اتساخها أوحت أنها كانت تعيش في ظروف طيبة، وأن لجوءها للشارع حديث نسبيًا. بدأت المنشورات المتداولة آنذاك كمحاولة للفت نظر المؤسسات الخيرية المعنية بإيواء الحالات الإنسانية التي دفعتهم ظروفهم إلى اتخاذ الشارع كملاذ للعيش. 

استجابت للمنشورات مؤسسة تحمل اسم "معانا لإنقاذ الإنسان"، ومهتمة بإيواء المشردين في الشوارع، وتوجهت إلى مكان تواجد الفتاة أسفل كوبري العباسية، وأعلنت المؤسسة اتخاذ الإجراءات القانونية المتبعة بإيداع الحالة المؤسسة بعد الحصول على إذن من النيابة العامة. أعقب ذلك احتفاء من مستخدمي فيسبوك والمواقع الصحفية للاستجابة السريعة من المؤسسة الخيرية. 

ولكن من داخل المؤسسة بدأت تظهر أخبار ومقاطع فيديو للقاءات مع الفتاة التي تبلغ من العمر 22 عامًا، لتبدأ المواقع في نشر أخبارها بعناوين مثيرة من نوعية "شاهد الفتاة بالفيديو".  كل ذلك دفع برنامج "90 دقيقة" على قناة "المحور"، إلى استضافة الفتاة مساء الثلاثاء، وذلك بصحبة مدير مؤسسة "معانا لإنقاذ الإنسان" بالإضافة إلى شقيق الفتاة. وسمح البرنامج، الذي يقدمه معتز الدمرداش" بالمداخلات التليفونية من أفراد عائلة الفتاة، وأيضًا للجمهور للتعليق وإبداء الرأي والنصائح.  

 

 

لم يكتف البرنامج بكل ذلك، بل سمح لمدير المؤسسة بتشخيص حالتها "على الهواء"، وعرض "استطلاع رأي" ليسأل المشاهدين "هل توافق على عودة سلوى أم بقاءها في دار الرعاية؟"، وأضاف للحلقة عناوين مثل "مواجهة مباشرة بين فتاة العباسية ووالدتها تليفونيًا". 

بعد الحلقة نشرت المؤسسة اعتذارًا رسميًا عبر صفحتها على فيسبوك عن محتوى الحلقة، وزعمت المؤسسة في بيانها أنه منذ استقبال الحالة مُنعت كل وسائل الإعلام من تداول أي معلومات تخص حياتها الشخصية. ولكن بالبحث البسيط يمكن أن نجد تقارير فيديو تم تصويرها داخل أروقة المؤسسة، التي سمحت، قبل برنامج "90 دقيقة"، لجريدة اليوم السابع أن تجري معها حوارًا بدون وجود وسيط. إلى جانب قيام مدير المؤسسة بتوصيف الحالة النفسية للفتاة قبل يومين من استضافة الفتاة في التلفزيون، إذ وصف محمود حالة الفتاة أنها حالة "ضغوط نفسية، وانهيار عصبي شديد" على الرغم من تأكيده في الفيديو ذاته بأنه "مش دكتور"، وأردف محمود أن التقرير النهائي لم يصل بعد من الدكتور المعالج إذا كانت "مريضة نفسية أو تعاني من صدمة". وهو الأمر الذي يتنافى مع منشور رسالة الاعتذار الذي نشرته المؤسسة عقب حلقة برنامج "90 دقيقة".   

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Ftogethertosaveahuman%2Fposts%2F1797294647267367&width=500

على الرغم من أن أغلب المؤسسات العاملة في الإيواء تفرض على موظفيها قواعد أخلاقية في التعامل مع الصحفيين والإعلاميين، فيما يتعلق بنزلاء تلك المؤسسات، ولكن بدا أن تلك القواعد غابت عن مؤسسة "معانا"، مما يعطي انطباع أن المؤسسة لا تضم مختصين بالصحة النفسية، هذا الذي يشير إليه تولي مدير المؤسسة مهمة الظهور الإعلامي والحديث عن حالة الفتاة. 

ينتقد المعالج النفسي د. علاء مرسي ما حدث في البرنامج ويقول: "تشخيص أو تحليل دوافع شخص بشكل علني غير مسموح في القواعد الأخلاقية والمهنية في الطب النفسي في أي مكان في العالم. وكان لا بد أن يتعامل مع الحالة المختصون، وذلك بشكل سري يحفظ خصوصية الأفراد". ويضيف مرسي "على الأقل كان على البرنامج أن يخفي وجه الفتاة". 

يتفق د. أحمد عبد الله، أستاذ الطب النفسي مع هذا الرأي، ويقول: "كل ما يخص المريض أو  أي بيانات خاصة بعلاج المرضى أو  بزائري الطبيب النفسي هى معلومات سرية لا يجوز الإفصاح عنها إلا أمام القاضي فقط"، ويؤكد عبد الله على أن ما حدث في البرنامج بعيد كل البعد عن القواعد الأخلاقية الحاكمة في التعامل مع من يُقدِمون على طلب الاستشارات النفسية". وأضاف أن: "التمويل العلاجي أو رعاية المؤسسة لنزيل ما لا تُخوّل للمؤسسة إفشاء أسرار علاجه النفسي أو التفاصيل المتعلقة بسلامة الصحة النفسية الخاصة بالنزيل".

وعن الانطباعات الشخصية التي تداولها البرنامج لوصف الحالة التي تمر بها الفتاة بدءًا من توصيف مدير المؤسسة، والمداخلات الهاتفية من المشاهدين، يقول دكتور أحمد عبد الله: "ليس من حق الأطباء النفسيين تحليل أو تحديد السمات الشخصية لفرد على الملأ". مضيفًا بأن الأطباء النفسيين حول العالم يحاولون إزالة الوصمة المجتمعية عن العلاج النفسي والذهاب إلى الطبيب النفسي، إلا أن ما شاهدناه في البرنامج يرسّخ لتلك الوصمة المجتمعية. 

وفيما يتعلق بحقوق المريض يقول عبد الله أن هناك قانونًا أقره  مجلس الشعب المصري عام 2008 يمنع تداول معلومات المريض النفسي. والقانون الذي يشير إليه عبد الله هو  القانون رقم (71) لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسي، والذي اعطى الحق للمريض في الموافقة على تلقيه العلاج والإقامة في مؤسسات الصحة النفسية، إلى جانب نص القانون على حماية سرية المعلومات التي تتعلق به وبملفه الطبي، وعدم إفشاء تلك المعلومات لغير الأغراض العلاجية إلا في الحالات القضائية أو احتمال حدوث ضرر خطير للمريض، أو إمكانية أن يؤذي الآخرين. 

ولكن القانون قد لا ينطبق على مؤسسة "معانا" التي حصلت على الإشهار من وزارة التضامن الاجتماعي. 

 

حالة سوزان بويل   

الحفاظ على الخصوصية والحفاظ على المعلومات الشخصية للمرضى أمر منظَم قانونيًا في العديد من أنحاء العالم، ففي الولايات المتحدة تحظر القوانين الفدرالية على المستشفيات والمراكز العلاجية إفشاء أي معلومات تخص المريض الذي يُعالج من الكحول أو تعاطي المخدرات، وكذلك يضم التنظيم أمراض مثل الإصابة بفيروس نقص المناعة، وذلك بخلاف الأمراض النفسية. 

في عام 2009 ثار جدل في الصحف البريطانية عقب تداول تقارير صحفية تشير إلى أن سوزان بويل، نجمة برنامج اكتشاف المواهب الغنائية "Britain's got Talent"، نزيلة إحدى المصحات النفسية، لأن إشاعة الحالة النفسية لمريض يمكن أن يؤدي إلى مضافة الضرر النفسي على الأفراد. 

وفي مقال كتبه الصحفي جون بوب في موقع مركز دارت للصحافة والصدمات النفسية، أشار إلى أن العديد من الصحفيين لا يحلمون بالحديث مع المرضى، ويكتفون فقط بالحديث مع الطبيب المعالج، لأن المبادرة بالحديث مع المريض تطرح العديد من الأسئلة، فمن الممكن أن يكون المريض واقعًا تحت ضغط معالجه، أو أنه يشعر بأنه مضطر لإجراء الحوار كجزء من علاجه، وإذا لم يكن الطبيب حاضرًا للمقابلة من الممكن أن تتضاعف آثار المرض. ورغم بوب في مقاله كان يشير إلى أنه لا بد أن تكون هناك مساحة في العمل الصحفي للحديث مع المريض، إلا أنه يشير إلى ضرورة التعاون مع المعالجين النفسيين في ذلك، بالإضافة إلى ترك مطلق الحرية للمريض لقبول الحوار أو لا. 

غياب هذه القواعد المنظمة للعلاقة بين الإعلام والمرضى أو المضطربين أو الذين يمرون بأزمات في مصر، وكذلك غياب النقاش الكافي حولها، يجعل طبيعة العلاقة مبهمة، ويؤدي لاختلاف طرق التعامل باختلاف المؤسسات الإعلامية من جهة واختلاف المؤسسات النفسية والاجتماعية من جهة أخرى.