صورة متداولة برخصة المشاع الإبداعي
الشيخ الحصري

مئوية ميلاد الشيخ الحصري: خير من تعلم القرآن وعلمه

منشور الأحد 17 سبتمبر 2017

في إحدى الليالي المحمدية كانت ياسمين الخيام تنشد، ومعها فرقة موسيقى الإذاعة بقيادة أحمد فؤاد حسن، أغنية "سلام الله يا طه" وهي من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان جمال سلامة. الدخول في البداية يكون للكورال، الذي يكرر كلمة "طه" بنطق الطاء والهاء مفخمتين، ثم تقول ياسمين الكلمة "طه" سليمة وصحيحة كما ينبغي نطقها؛ أي بالطاء مفخمة وبالهاء مرققة (صفات حرف الطاء عموما أنه: مجهور، شديد، مستعلٍ، مفخم، مطبق. أما صفات حرف الهاء عموما فهي: ضعيفة، مهموسة، رخوة، مرققة، منفتحة) وبالتأكيد لا المؤلف ولا الملحن ولا قائد الفرقة هو الذي أرشدها أو علمها ذلك، "ذلك" الذي فات عليهم جميعًا، بل قام بتعليمها "الذي عنده علم من الكتاب"؛ فهي ابنة شيخ عموم المقارئ المصرية، الشيخ محمود خليل الحصري.

ولد الشيخ الحصري في غرة ذي الحجة 1335 هـ، الموافق 17 سبتمبر 1917. وفي 17 سبتمبر/أيلول 2017 تحل علينا ذكرى ميلاده ومئويته الأولى. هذا الحدث الاستثنائي الذي يجعلني أكتب اليوم بعض الكلمات البسيطة عن هذا الشيخ الجليل. ورغم أني لست هنا بأهل للثناء ولا للتقدير لعلم الشيخ الحصري، لكني أكتب من باب رد الدين لكل حرف من حروف القرآن الكريم نطقت وأنطق به، ولكل حكم من أحكام القراءة والتلاوة تعلمته من تسجيلات الشيخ العديدة، سواء لقراءة حفص عن عاصم، ترتيلًا وتجويدًا ومصحفًا مُعَلَّمًا، أو (وخصوصًا) لقراءة ورش عن نافع. ولكل كلمة قرأتها في كتبه عن أحكام التجويد والقراءة، وعن شرح وتسهيل القراءات العشر من طريقي الشاطبية والدرة، وعن "معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء" في القراءة، وغيرها من كتبه وعلمه الذي نفع وينفع به كل طالب لهذا العلم. 

تعود أصول الشيخ الحصري إلى محافظة الفيوم لكنه ولد، بعد أن انتقل والده، بقرية شبرا النملة التابعة لمدينة طنطا بمحافظة الغربية. وأتم حفظ القرآن الكريم كاملًا في الثامنة من عمره، وكان يوميًا ولمدة أربع سنوات يذهب من قريته إلى المسجد الأحمدي. والتحق وهو في الثانية عشر من عمره بالمعهد الديني بطنطا ودرس وتعلم القراءات العشر للقرآن الكريم، وفي 1958 أصبح متخصصًا في علوم القراءات العشر الكبرى وطرقها وروايتها بجميع أسانيدها ونال عنها شهادة علوم القراءات العشر من الأزهر الشريف.

واصل الشيخ محمود الحصري هذا الطريق حتى تقلد منصب شيخ العموم للمقارئ المصرية في 1960. وفي 1961 سجل أول مصحف مرتل برواية حفص عن عاصم خدمة للقرآن، بدون أجر. وظلت الإذاعة تبث تلاوته للمصحف منفردًا لمدة عشر سنوات. كانت التسجيلات والحفلات والليالي في هذا الوقت تعرف قراءة القرآن الكريم مجودًا فقط، أما الترتيل فهو كان إما للصلوات أو لحلقات المقارئ أو للكتاتيب بالمساجد.  وبعد انتشار الإذاعة وصوت الشيخ الحصري الذي كان ينطلق كل صباح في بيوت المصريين والمسلمين في كل الأنحاء التي كان يصل إليها الأثير، كان صوت الشيخ الحصري وصوت الشيخ رفعت من آيات "الصبح إذا تنفس"، سجلت الإذاعة المصرية المصحف المرتل وأصبحت إذاعة القرآن الكريم تبث المصاحف الخمسة مرتلة برواية حفص عن عاصم بأصوات المشايخ: محمود خليل الحصري، عبد الباسط محمد عبد الصمد، مصطفى إسماعيل، محمد صديق المنشاوي، محمود البنا. وفي 1963 تولى الحصري منصب رئيس لجنة تصحيح المصاحف ومراجعتها بالأزهر. وفي 1967 نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم، وفي نفس العام  أصبح رئيسًا لاتحاد قراء العالم.

ومع كل هذا العلم والمجهود والتاريخ والجد والوفاء لعلوم القراءات ولكتاب الله، لم يحظ الشيخ الحصري بشهرة مشايخ آخرين أقل منه علمًا وزهدًا في "عرض الحياة الدنيا؛ فعند الله مغانم كثيرة"، وإخلاصًا للقرآن الكريم. ولعل هذا بسبب أن الشيخ الحصري كان أقل جمالًا (واعتناءً) وموهبة من ناحية إمكانيات الصوت والفن والتطريب عن مشايخ كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل. وهذا على وجه التحديد هو ما أريد أن أكتب عنه هنا؛ فهذا الرأي أدى إلى قلة شهرة الشيخ الحصري بين الناس، وفي قلة المكتوب عنه، وحتى فيما يُكتب عنه تكون  معظمها كتابات غير ناضجة كرأي الكاتب محمود السعدني في كتابه الشهير "ألحان السماء" عن الشيخ الحصري.

لم يكن الأستاذ محمود السعدني متخصصًا فى التلاوة وأحكامها، ولا فى الموسيقى ومقاماتها، إلا أنه، مع ذلك، كان متذوقًا لهذا الفن ولا أحد ينكر هذا. لكن من الخطأ والتجني أن يكتب ويقيم الكاتب قراء القرآن من باب التطريب وفقط. فقراءة وتلاوة وأحكام القرآن هي الأساس، بداية من وضوح الحروف ومخارجها وتوفيتها حقها. وإتقان أحكام التلاوة من المدود وفنونها وحُسن ودقة الأداء وتجنب اللحن في النطق.. إلخ ثم يأتي التطريب أو حتى لا يأتي، لكن تلك هي الأسس لتقييم قارئ القرآن. والسعدني يقول في كتابه متحاملًا على الشيخ الحصري: "الشيخ الحصري.. لم يكن من الطبقة الأولى بين القراء. وكان أقرب للشيخ محمد الصيفي، وكلاهما عالم في القراءات الصحيحة.. ولا يزيد! والفرق بين مصطفى إسماعيل ومحمود الحصري هو ذاته الفرق بين الأديب نجيب محفوظ وأستاذ الأدب في الجامعة وهو نفسه الفرق بين المدرب الجوهري ومحمود الخطيب.. فالأول مدرس والثاني فنان، ومن السهل إنتاج ألف أستاذ، ولكن من العسير خلق فنان واحد، لأن الفنان من صنع ربي، وليس من صنع المدرس والجامعات!". وتخيل لو أن شخصًا آخر، بنفس طريقة الأستاذ السعدني، كتب: أن مصطفى إسماعيل لا يملك نصف علم الشيخ الحصري، وأن محمود الخطيب لا يقدر على تدريب فرقة كورة شراب وليس فرقًا قومية كالجوهري، وأن نجيب محفوظ الروائي الكبير لا يستطيع أن يقوم بالتدريس لفصل ثانوي بنات مثلا.. وعبارة "لم يكن من الطبقة الأولى بين القراء" هذه جرأة وجريمة كبرى في حق الشيخ العالم الجليل، يدركها جيدًا ولا يقبلها أهل هذا الفن والقراء أنفسهم.

ظل الشيخ محمود خليل الحصري، حتى بعد أن ذاعت شهرته بين الناس، عضوًا في كورال إحدى الفرق الدينية لإنشادية، ورغم أنه لم يترك تواشيح تذكر، اللهم إلا "تعطيرة شريفة" في الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا من خلال القراءات التى سجلها، ترتيلًا وتجويدًا، يمكننا الوقوف على بعض خصائص التطريب التي تعلمها ومارسها،  فكان -رحمه الله- يتميز بشكل عام بالقراءة والترتيل المتقن للقرآن الكريم. وكان صوته يتميز بالهدوء والرزانة والخشوع. وكان أكثر القراء انضباطًا ودقة، فكان يتحرى جميع أحكام التلاوة بطريقة مدرسية قح. وهو نِعْم المعلّم وتسجيلاته مفيدة وقَيِّمَة لطالب هذا العلم، ولكل من يريد القراءة والتعلم عليه أن يسمع ويتعلم منه دون أدنى تحفظ. (على سبيل المثال الشيخ مصطفى إسماعيل –أعظم وأجمل القراء المصريين بعد الشيخ محمد رفعت والشيخ أحمد ندا- كانت لديه مشكلة حين ينطق حرف القاف، فمن يدقق السمع يجده يقوله وكأنه كاف، وسط بين القاف والكاف).

 

والشيخ الحصري في التجويد، ورغم كونه حجة في القراءات العشر ومرجعًا للعلوم فيها، لم يكن ينتقل بين القراءات أو يتغنى في القراءة بأن يعلو أو يهبط بصوته أو يمد نص حركة زيادة وكل القراء المتقنين على ذلك. وهناك من القراء من يتصرفون في القراءة بقدر، فمثلًا من المعروف أن أكبر مد في القرآن، كما تعلمناه، هو مد 6 حركات. والحركة هي مقدار قبض الإصبع أو بسطه. وبعضهم، في التجويد وهو قراءة الليالي والحفلات والمناسبات، يمد الـ 6 إلى أن يصل إلى 12 حركة أو أكثر، أو يمد الـ 4 حركات إلى 8 حركات أو يزيد، من أجل أن يصل إلى درجة جواب الجواب في الصوت مثلًا أو ليكمل الجملة اللحنية. والتزام القارئ بالأحكام في التجويد يكون عبئًا وقيدًا على الجانب التطريبي لديه. وكان الشيخ يقدم الأحكام والقواعد على الفن وهذا مما لا يعيبه أو ينقص من قدره، ولا تثريب عليه في ذلك وهو العالم الكبير وشيخ المقارئ المصرية وممن يؤخذ عنهم العلم.

وهو يقول في أحد كتبه، وهو كتابه "مع القرآن الكريم"، عن "كيفية تلاوة القرآن": "اتفق علماء القراءة، وأئمة الأداء، على أن لتلاوة القرآن الكريم كيفية مخصوصة يجبُ على القارئ شرعًا أن يلاحظها أثناء تلاوته ليُحرز الأجر الذي وعد الله به القارئين، فإذا أهملها أو قصَّر في مراعاتها كان من الآثمين. وهذه الكيفية هي تجويد كلماته، وتقويم حروفه، وتحسين أدائه، بإعطاء كل حرف حقه، ومنحه مستحقه، من الإجادة والإتقان، والترتيل والإحسان". وهذا من اللزوميات التي ألزم نفسه بها. كان الشيخ لا يعمد إلى التطريب ولكن كان يترك نفسه أثناء القراءة لما يجود به إحساسه وقريحته في وقتها دون الإخلال بالأحكام. وكما كان الشيخ لا يقرأ بأكثر من قراءة للآية الواحدة في الجلسة الواحدة، كان أيضًا، والغالب على تسجيلاته وقراءاته، أنه متى استقر على طبقة صوت واحدة وأيضا مقام واحد، كان يبقى عليهم إلى آخر القراءة ثم ينزل إلى طبقة القرار ليقفل ويختم القراءة. ومعظم قراءاته كانت بمقام النهاوند وهو مقام يتميز بالعاطفة والحنان والرقة والخشوع، والبعد عن الزخارف الموسيقية. ولهذه الطريقة جانبها الإيجابي، فهي تعطي الفرصة للمتلقي أن يتدبر المعاني ويسمع النص بشكل عقلاني، وليدرك هذا الخيط الناظم بين الآيات بشكل مسترسل غير متقطع، وعلى البقاء في نفس الحال والوجد النفسي. كانت قراءة الشيخ الحصري قراءة بلا زخارف ولا بهرجة، بها جلال ووقار، وفي ذات الوقت بها سكينة وبساطة وصوفية. كانت قراءته أقرب للتحزين ذي الوتيرة الواحدة الذي نجده في أغاني الرثاء والعديد والجنائزيات.

كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، والشيخ الحصري هو خير من تعلم القرآن وعلمه، يبتغي بعلمه وعمله مرضاة الله، فلم يتعلم أو يُعلِّم القرآن لأجل عرض أو حاجة زائلة، بل كان زاهدًا بما في أيدي الناس، عفيف النفس، صابرًا ومحتسبًا، وأدى أمانته ورسالته في خدمة القرآن وعلومه، "وأن سعيه سوف يرى".  ويذكر الزركلي في ترجمته للشيخ، في "تتمة الأعلام" 2/244، أنه قد "تبرع بثلث تركته لإنفاقها في أعمال الخير والبر وحفظ القرآن الكريم، إلى جانب بنائه لمسجد ومعهد ديني ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم بمسقط رأسه في طنطا، ومثلها بمقر إقامته بالعجوزة"، وتم بناء مسجد كبير باسمه في مدينة السادس من أكتوبر. توفى الشيخ محمود خليل الحصري في مساء يوم الإثنين 16 محرم 1401 هـ، الموافق لـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1980. رحم الله الشيخ الجليل وطيب ثراه وجزاه كل الخير وأجزل له كل العطاء بما قدمت يداه.