تنبعث أصوات النغمات الموسيقية من أحد منازل قرية شطانوف في مركز أشمون بمحافظة المنوفية؛ إنها جلسة للتدريب على عزف الأرغول. يفترش الصغار أرضية قاعة الضيوف، يمسكون الآلة وينفخون بحماس، بينما عيونهم معلقة بمدربهم، العازف أمين شاهين مؤسس مشروع صوت الأصيل، لاتباع توجيهاته.
القرية القديمة، التي كانت تعد رأس الدلتا حين كان نهر النيل يتفرّع عندها إلى أن اتصلت جزيرة دروة في منتصف القرن السادس عشر فأصبح النيل يتفرع عند القناطر الخيرية، تعيد بعث واحدة من أقدم آلات النفخ الشعبية المصرية القديمة، التي سجلت جدران المعابد عزف المصريين القدماء عليها.
بمرور الزمن، بات استخدام الآلة نادرًا "للأسف مستقبل الأرغول في خطر مثل كل آلاتنا الشعبية"، يحذر العازف أمين شاهين ويوضح أن الأرغول نوعان؛ الطويل والصغير "الأول اختفى تمامًا ولم يعد موجودًا بوفاة عمي الذى كان يعزفه ولم يتبق سوى الصغير، وهو ما دفعني لتأسيس مشروع صوت الأصيل للحفاظ على الأرغول آلة موسيقية مهددة بالاندثار"، يوضح شاهين لـ المنصة.
تعليم جيل جديد العزف هو وسيلة شاهين للحفاظ على تراث الأرغول، الذي قل عدد عازفيه وصنّاعه، فضلًا عن تقدم أعمار العازفين الحاليين.
نداهة الأرغول
كان طفًلا صغيرًا عمره لا يتجاوز السبع سنوات عندما جذبت أمين نداهة العزف على آلة الكولة التي كان يحترفها والده "كنت براقبه كل يوم الصبح وهو يُنظف ويضبط آلاته الموسيقية بعد رجوعه من ليلة طويلة قضاها في إحياء أحد الموالد أو الأفراح".
"كنت بحاول أمسك واحدة وأعزف عليها لكن كان بيرفض. كان عايز يحميني وخايف على طفل في سني من شقا السهر واللف على الموالد والأفراح"، يشير شاهين إلى مخاوف والده حينها "حياة قاسية".
يضحك أمين "لم أيأس. أخدت واحدة أثناء نومه وبدأت التجريب والعزف عليها خارج البيت، لحد ما وافق في مرة يديني كولة قديمة من عنده". مرت السنوات، كبر شاهين وزاد تعلقه بالعزف "خاصة مع تشجيع شباب القرية لما كنت بعزف لهم".
عرف شاهين عالم الأرغول من خلال عمه وانضم لفرقة النيل للآلات الشعبية
دخل شاهين عالم الأرغول من خلال عمه "رحت لعمي لبيب، كان يعزف الأرغول، طلب مني أروح معاه للعزف في أحد الأفراح على الكولة، وكسبت أول أجر، تلاتة جنيه، وكان عمري وقتها 14 سنة".
"جنب عزف الكولة، جذبتني الأرغول، ومع تدريب عمي لبيب، كنت بعلّم نفسي وباتمرن ساعات طويلة، لحد ما اجتزت اختبار للعزف المنفرد بالأرغول أمام الراحل عبد الرحمن الشافعي مدير فرقة النيل وقتها. وافق على انضمامي للفرقة بأجر 80 جنيه، دا كان رقم كبير لعازف عمره 18 سنة"، يحكي شاهين عن تجربته مع فرقة النيل للآلات الشعبية، التي تأسست عام 1955.
تقدير عالمي وإهمال محلي
25 عامًا أمضاها شاهين، الذي بلغ عمره 43، في العزف على الأرغول، سافر خلالها شرقًا وغربًا لإحياء الحفلات، وحضر عشرات الورش الموسيقية مع موسيقيات وموسيقيين من دول مختلفة. يشير أمين إلى الاهتمام الذى يحصل عليه العازفون على آلات شعبية تراثية في الحفلات والمهرجانات بالخارج "باشعر بغيرة على تراثنا.. عكس الإهمال اللي بنواجهه في مصر. بصراحة بدون الحفلات، وشغلي مع الأجانب، كان زماني باتسول قدام جامع. ودا اللي دفعني للتفكير فى مشروع صوت الأصيل".
"الحفاظ على آلة موسيقية من الاندثار حاجة مش سهلة، ومش هقدر أنفذها لوحدي. دا مشروع ضخم يحتاج مؤسسات"، استعان شاهين بقطاع البرامج الثقافية بمعهد جوته الألماني بالقاهرة لدعم مشروعه، والعمل على تدريب أجيال جديدة على الآلة التي أوشكت على الاندثار.
بدأ المشروع بعشرين متدربًا ورفضت عائلات كثير من الفتيات استمرار بناتهن في التدريب
يوضح شاهين "قدمت كتير على منح لدعم مشروعي الفني منذ سنوات، وسعدت باختياري ضمن منح برنامج خارج حدود العاصمة التابع لجوته، خاصة أنه متوجه للناس خارج القاهرة ومهتم بالشراكة مع مواهب جديدة متعطشة للموسيقى والفن في المحافظات. ودا اللي لمسته من خلال جولاتنا بمشروع صوت الأصيل على مدارس قرية شطانوف وتفاعل التلاميذ مع الآلة والعزف، وانضمام بعضهم للورش بعد كدا".
بدأ شاهين ورش تعليم العزف على الأرغول في مارس/آذار الماضي. كانت البداية مع 20 متدربةً ومتدربًا، من أعمار تتراوح بين 10 و18 سنة. يتوقف أمام عقبة استمرار الفتيات "بنات كتير رفضت عائلاتهم استمرارهم فى التدريب، خوفًا من إنهم يشتغلوا بعد كدا في مجال الموسيقى. مش حابين بناتهم تزمر أو تطلع على مسرح أو تسهر في حفلة".
"حاولت إقناع أمهات كتير باستمرار بناتهم، واديت مثل قد إيه أنا فخور بمشاركة وتدريب بنتي اللي عمرها 16 سنة في الورش والعزف، ولكنهم رفضوا بحجة إن مِسيرها للجواز والبيت، مش العزف يا عم أمين"، يستكمل شاهين.
يستعد شاهين ومعه 10 عازفين من خريجي ورشة صوت الأصيل لإقامة حفلة موسيقية ختامية للمشروع في مركز شباب شطانوف، "أسعى لاستضافة أصدقائي من الموسيقيين الشعبيين المحترفين؛ مغنٍ شعبي، عازف على الإيقاع، وآخر على الربابة لمرافقة ودعم الشباب في ظهورهم لأول مرة على المسرح".
التراث في "الفيل الأزرق" و"Moon Knight"
تختلف الأرغول عن غيرها من آلات النفخ الأخرى كالكولة والناي "الآلة مصنوعة من الغاب/البوص، صوتها شجي وجميل وقريب للقلب، وتصدر صوتين كأن فيه اتنين عازفين بيعزفوا عليها وليس صوتًا واحدًا كالكولة أو الناي"، يوضح شاهين.
"الآلة مصنوعة من قصبتين مربوطتين واحدة جنب التانية، القصبة الموجودة من اليمين مثقوبة ستة ثقوب للتلحين بمقام معين، وأما الأخرى فهي من أجل استمرار اللحن وضبطه. لكل واحدة من القصبتين مبسم لإصدار الصوت"، يتوقف أمام سحر الآلة التي تُدهش الموسيقيين الأجانب "لأنهم يعتمدون على آلات كهربائية دائمًا مش مصنوعة من مواد طبيعية زي الأرغول".
لا ترتبط الأرغول بأشكال الغناء الشعبي كالموال، ولكنها تنبض بالحيوية يمكن توظيفها في مؤلفات موسيقية معاصرة كموسيقى الأفلام والمسلسلات "شاركت بالعزف على الأرغول في الموسيقى التصويرية لفيلم الفيل الأزرق، ومسلسل Moon Knight اللي ألف موسيقاه هشام نزيه، وكنت محظوظ بالعزف في موسيقى مسلسل المصراوية مع الراحل عمار الشريعي، ومؤخرًا عزفت في موسيقى مسلسل جزيرة غمام في مقطوعة من تأليف الموسيقار عمرو إسماعيل".
أحلام عازف الأرغول أمين شاهين كبيرة لمستقبل الآلة وأمله فى الحفاظ عليها "المشوار طويل، وحلمي استمرار مشروع صوت الأصيل وتحويله لمدرسة دائمة للعزف على آلة الأرغول وغيرها من الآلات الشعبية".
يأمل شاهين أن يكون المشروع نواةً لعودة الاهتمام بالموسيقى الشعبية، يتذكر زيارته للصين عندما زار هناك متحفًا يضم الآلات الشعبية الموسيقية للبلد"، يتساءل "هل يمكن أن يكون لدينا متحف مثله فى مصر؟".