برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
الكاتب والأكاديمي المغربي عبد الفتاح كيليطو في ستراسبورج، فرنسا. أبريل 2010

تأملات في كتابة عبد الفتاح كيليطو

منشور السبت 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

الكاتب والروائي والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو واحد من أكثر الأكاديميين العرب الذين تحول على أيديهم التراث الحكائي العربي إلى حكاية ممتعة، مليئة بالرموز والعبر والإسقاطات، ولا ترتبط فقط بالماضي، بل تمتد إلى الحاضر، بفضل تأويله الخلاق له.

أقرأ له منجذبًا لهذه الروح والرؤى والزوايا الجديدة التي يبثها أثناء تفسيره وتأويله لهذا التراث الحكائي، كأنك تقرأ نصًا سرديًا يقع بين النقد والشعر والفلسفة والتأمل، وبإيجاز شديد، حتى أن أغلب مقالاته وكتبه صغيرة الحجم متسقة تمامًا مع أسلوبه الإيجازي الرشيق في التعبير. ينهي فقراته وفصوله وكتبه عند لحظة معينة، مفتوحة، كأنها حكاية مسلسلة، يظهر منها فقط الجزء الطافي من جبل الجليد، ويترك الباقي المخفي لما سيأتي.

مع كيليطو أصبح لهذا التراث الحكائي أوجهٌ جديدةٌ في التناول، ليست ناقدة أو متماهية معه، لكنه يوسِّع نطاق تأويله، فتتحول "ألف ليلة وليلة" على سبيل المثال إلى إحدى الحكايات التاريخية التي تكشف خيال الأمة التي أنتجتها.

وسع عبد الفتاح كيليطو من مجال هذه الذات الجمعية، وقوَّى بها عنصر الخيال، وجعلها لينة مرنة، ومنفتحة لا تتصلب أمام الآخر. لأن التراث النقدي الذي نشأ على نقد الاستعمار، وتشرب وعينا به، لم يمس سابقًا هذا الجانب البريء من الخيال داخل هذه الذات الجمعية، التي تعبر عنها الحكاية المتساوية في نظره مع إلياذة وأوديسا هوميروس. يكتب في كتابه الحكاية والتأويل أن "ألف ليلة وليلة بالنسبة للعرب كالإلياذة والأوديسا بالنسبة للإغريق". 

ثوري في ثوب أدبي

تشعر وأنت تقرأ تأويلاته للحكايات القديمة بأن هناك جزءًا نافرًا، وربما صراعيًا، في وعيك قد هدأ، فأصبحت تطل على الحكاية بنظرة كونية الكلُّ فيها متساوٍ، ليس فيها مستعمِر أو مستعمَر، ولا فضل لحكاية شعب عن حكاية شعب آخر. ربما هنا جدارة كيليطو؛ أنه حرر هذه الذات أثناء القراءة وحجب عنها تعصبها، ومنحها لذة الاكتشاف والغوص في التاريخ الحكائي.

المنهج الذي يتبعه في تفسير التراث الحكائي استلزم منه أن يكون ديمقراطيًا أو ثوريًا غير جذري، أنتج معه قارئًا حرًا وليس رقمًا في عداد جمهورية القراءة

يستخدم كيليطو قالب الحكاية نفسه في تأويله للتراث الحكائي، كأن التحليل بدوره يتحول إلى حكاية جديدة مُشوقة عن الحكاية القديمة، وبسبب هذا يدخل في مسارات جانبية تشويقية أحيانًا، بعيدًا عن الحكاية الأصلية، ثم يعود، مُنبهًا القارئ في حواره الممتد معه، إلى النقطة التي توقف عندها سابقًا، ليستأنف حكايته. تمامًا مثل حكايات والدتي المسائية، لو دخلت في سكة جانبية تعود منها منبهةً إياي بهذه الجملة المفتاح "نرجع مرجوعنا.."، ثم تستكمل الحدث الذي توقفت عنده.

ربما بسبب هذا التأويل الجديد الديمقراطي والعادل للتراث، منحنا كيليطو كقراء، أو منحني كقارئ عام، أو مواطن عادي في جمهورية القراءة يوليه أهمية خاصة في أي خطاب أو مقال، دورًا في إنتاج المعنى. يحدد الميزان الذي يقيس به المفسر الحكاية "المفسر لا ينبغي أن يغري بتفسيره ويقدمه على أنه التفسير الوحيد للنص، القراءة الناجحة هي التي تكون متواضعة، ليس بمعنى الخضوع للنص، وإنما بالتركيز على نسبيته، ونسبية القارئ".

الحكاية قطعة نسيج

أحيانًا يتدخل كيليطو في مصير أبطال الحكايات، ويتخيل نهايات أخرى لهم، في زمن ما بعد نهاية الحكاية، كأنه فيلم مستمر خارج الكتاب/الشاشة. يعيد ترميز كل فعل وإخضاعه لفكرة جوهرية تتخلل كتابته دائمًا، وهي سلطة الكتابة أو التدوين أمام الشفاهة، كطبقة أولى من طبقات السلطة داخل الحكاية. يجول في هذا النسق الحكائي مُنقِّبًا ومتسائلًا عن مصدر السلطة وأشكالها، سواء سلطة النص، الوثيقة، الأرشيف، التاريخ، أمام سلطة الدولة أو من يمثلها داخل الحكاية. فالحكاية، أو النص، بشكلٍ ما عبارة عن أركيولوجيا معرفية.

في تفسيره لأي نص حكائي قديم يدخل بين ثناياه يتأمل تفاصيله الدقيقة ويواجهه بأسئلة حالية عابرة للزمن

هذا المنهج الذي يتبعه في تفسير التراث الحكائي، استلزم منه أن يكون ديمقراطيًا، أو ثوريًا غير جذري، أنتج معه قارئًا حرًا، وليس رقمًا في عداد جمهورية القراءة: أن يعيش الكاتب والقارئ معًا لحظةً متحررةً أثناء قراءة النص. هذه الحرية التي توفرها ديمقراطية الخيال والتفسير تجمع بين مخيلة الكاتب والقارئ ضمن سياق كوني، يتجاوز السياق الاجتماعي، ولكنه لا ينساه.

وربما لم يتحقق هذا إلا بامتلاكه لأسلوب خاص "إن إحدى مهام الكاتب هي أن يتبنى نبرة، ويحتفظ بها، ويجعل القارئ يتقبلها".

في تفسيره لأي نص حكائي قديم، قد يكون حكايته الشخصية أو سيرته الذاتية كما سنرى، يدخل بين ثناياه، يتأمل تفاصيله الدقيقة، ويواجهه بأسئلة حالية عابرة للزمن، كأن الحديث يواجه القديم، أو يُضمِّنه بما لم يفكر به هذا القديم. فأي حكاية قديمة مثل قطعة نسيج، الخيوط تخرج من أطرافها، فيشد أحدها إلى أقصى تفسير له، حتى يصل إلى قضية إنسانية عامة تضم الماضي والحاضر معًا. يصير هذا الحدث القديم، داخل الحكاية، جزءًا من هذه الذات الجمعية التي يوسع من حيزها بإعادة تأويلها بهذه الأسئلة الحديثة، أو الاستطرادات الجانبية.

هذا التأويل يمنح الحكاية القديمة صيرورة، تربطنا كأُمة حديثة تتحدث العربية، بهذا التراث الأدبي، عبر إعادة تأويله حتى لا يلتهمنا أو يُعطل حركتنا، بل نأخذه معنا إلى حاضرنا. أبطال حكاياته وهمومهم ورمزيتهم صاروا جزءًا من حاضرنا، ومن قضايا اللغة والقراءة، وهنا أهمية كيليطو في رأيي: النظر للتراث كمادة حية ممتدة من الماضي إلى الحاضر، وإعادة تأويله يعيد تجديد الروابط بين أعضاء هذه الجماعة الإنسانية التي تتكلم العربية، كأن الماضي أصبح مرآةً نرى فيها أنفسنا أبناءَ أمة واحدة.

ما وراء الحكاية

رسم للفنان الإنجليزي فرديناند كيلر لشهرزاد وشهريار. الصورة: ويكيميديا

منح كيليطو "الحكاية" حصانة علمية كونها وثيقةً تاريخيةً ليست للتسلية فقط، ولكنها أرشيف يحفظ التاريخ. ومع هذا هناك تعامل نقدي متسامح، من ناحيته معها، كأنها إحدى البديهيات التي لا تحتاج للشك في قوتها، في قوة الخيال وفاعليته. كأن النقد يكمل رحلة الحكاية، ويظهر معدنها ومراميها وحكمتها، كما يحدث في كتابته عن الليالي حيث قارب في تأويلاته بين مفهوم الحكاية التراثية، ومفهوم السردية، والحكايات الكبرى والميتا حكايات، التي كتب عنها الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار، وأصبحت جزءًا من حقل الدراسات الفلسفية الحديثة، وجاء كيليطو ليوظفها عربيًا في كتاباته عن ألف ليلة وليلة ومقامات الحريري وغيرهما، وأيضًا في حكايته الشخصية. بجانب تلك المسحة الميتافيزيقية التي منحها لها، كأننا نتأمل جسمًا مقدسًا له أصداء أبعد منه تتردد في الزمن.

في روايته خصومة الصور، يحيط أحد فصول كتابه المعنون "الحمام" بغيامة ميتافيزيقية. تدور الأحداث داخل أحد حمامات الرباط، وبطلها هذا الطفل عبد الله الذي كانَهُ، فيؤكد الكاتب على هذا الجزء اللامرئي من الحمام، حيث هذا الرجل الذي يمد الحمام بالمياه الساخنة مخفيًا خلف جدار. مثل عامل السينما أيضًا في فصل آخر من الرواية. هذا البطل غير المرئي من النص، يمثل جبل الجليد المغمور فيه.

يبحث كيليطو في أي نص حكائي عمن يقف وراءه، ويتعداه، سواء كان القارئ، أو الكاتب، هؤلاء الذين أنشأوا فعل القراءة والكتابة. هو معني بفكرة البداية ومتى نشأت الحكاية، تمامًا كالبحث فيما وراء الحياة، بوصف الحكاية هي الحياة، والكون، واكتشاف عناصرها المحركة والمؤسسة لها تضعها في هذا السياق الفلسفي، الذي يجعلها دومًا مكان تساؤل أبدي كالحياة.

الحكاية كون موازٍ

هناك توازٍ بين خلق الحكاية، وخلق الكون، فالنص بالنسبة له كون مواز. في "العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة"، يُسمي كيليطو "الليالي" بالحكاية الإطار. تشعر بتقديسها بسبب مركزيتها، وبوصفها كتابًا يطرح سؤال الأصل والنشأة والمؤلف الخالق. فهي، كالدنيا، موجودة على الدوام قبل أبطالها. يقول إنها "كانت موجودة على الدوام، متدلية مثل فواكه يانعة من شجرة أزلية".

ويضيف في كتابه عن هذه الأزلية شبه الإلهية التي يمنحها للحكاية "الحكاية كتبت قبل أن تُروى، قبل أن يعيش البطل مغامراته، بل حتى قبل أن يولد، الحكاية مسجلة في كتاب أصل هو منبع ومصدر لكل ما يتم إنتاجه في العالم، وجميع الكتب تنبثق منه. كل شيء مسجل ومنقوش في هذا الكتاب اللامرئي واللامقروء، والذي يعمل على إنجاز النص وتمظهره بوساطة الأحداث والحكايات".

قلق الانتظار قرين المتعة والخروج من الحكاية الممتعة هو المصير النهائي لهذا القارئ

هذه الذات الجمعية المختزنة داخل هذا الكتاب القدري الذي وجد قبل ظهور القارئ، ستنقسم بعدل على الأجزاء/الأفراد التي تكونها:  كل شخصية من الليالي تحمل على جسدها موجزًا من هذا الكتاب الأولي، من هذا النص الذي يحدد مصيرها، ويتحكم في أبسط حركاتها، ولا تقدر قراءته لأن العين عاجزة عن قراءة المكتوب على الجبين.

كأن هذا الكتاب كالقدر، مكتوب فيه الزمن والمستقبل لكل أبطاله وتابعيه. ربما نلحظ هنا إحالة للنص الديني ولكنه لا ينافسه بالطبع، بل يمنح هذا الكتاب الأزلي الذي بلا مؤلف أصالته.

فالمؤلف جزء من صيرورة، كما يشير في كتابه "الكتابة والتناسخ". شخص يأخذ عن آخر أو ينسخ كتابة آخر، كأنه مؤلف مؤقت، والكتاب واحد بأسماء متعددة، فالنسخ يُلغي أو يقلل من أهمية المؤلف/الكاتب لصالح هذا النص الكوني الجمعي، الذي يُستعاض عنه بصوت الراوي للحكاية، أو قراءتها مطبوعة.

هذا المؤلف المجهول يعاد بعثه من جديد في صوت راوي الحكاية بالنسبة للطفل؛ "يعتقد الطفل أن الحكايات تروي ذاتها، وأنها لا تكون في حاجة، كي تصل إليه، إلا لصوت الراوي، أو للورقة المطبوعة".

قلق الانتظار

في "خصومة الصور"، التي تشكل في غالبيتها سيرة ذاتية لعبد الله الذي يمثل طفولة الراوي/الكاتب؛ يُنظِّر الراوي حول مفهوم القراءة والقارئ، وهذا إحدى سمات أسلوب كيليطو؛ يتداخل المتن السردي مع الجزء التنظيري، فيتكلم بوصفه ناقدًا داخل سيرته الذاتية، التي لا تسلم من رغبته في الحديث عن الماضي وتفكيكيه.

لا شك هناك تداخل بين قراءة كيليطو للحكاية وحكايته الشخصية فهو ربما هذا القارئ المصدوم في روايته "خصوصة الصور" التي يتبع فيها المنهج القديم في الحكي

يحكي في "حصان نيتشه" عن صدمة بطله عند نهاية قراءته لإحدى القصص التي كان يصاحبها متعة خارقة، ولكن في الوقت نفسه يلازمها قلق، فقلق الانتظار قرين المتعة، والخروج من الحكاية الممتعة هو المصير النهائي لهذا القارئ "إن القارئ، طوال الحكاية منجذب نحو البقية، مثلًا عواقب عراك، حل لغز، لكن هذا الفضول المحمول يسوق حتما نحو نهاية السرد. نهاية مرغوبة بقدر ما هي مرهوبة، إذ بإعادتها للنظام المشوش، بإرجاعها الأمور إلى نصابها، تجعل القارئ يصطدم بذاته، ويلفي نفسه من جديد في عالمة المألوف المبتذل، والمنحط بالضرورة مقارنة بالعالم البطولي الذي اختفى".

في مكان آخر من "الليالي" يرصد كيليطو هذا القلق الخلاق لبطليها "فن الحكي عند شهر زاد، طريقة رواية الحكايات وأن تكون الحكاية عجيبة وغريبة، تنقل المستمع من عالم المألوف إلى العالم الغريب. فتخلق شهر زاد إحساسًا من الانتظار القلق، إذ أن نهاية الحكاية لا تتطابق مع نهاية الليلة، وهكذا على الملك أن يترقب كل فجر، استكمال الشمس لمسيرتها اليومية".

أرشيف الدرب الممتد

لا شك هناك تداخل بين قراءة كيليطو للحكاية، وحكايته الشخصية، فهو ربما هذا القارئ المصدوم في روايته "خصوصة الصور"، التي يتبع فيها المنهج القديم في الحكي، حيث يقوم بأسطرة الشخصيات العادية، ومنحها ما فوق واقعيتها، مثل حكاية "زوجة ر"، التي تقف على باب بيتها تستدرج الأطفال والنسوة لتسمع أسرارهن، فهذه الشخصية لها نظير في التراث الأدبي، وهي المؤرخ أو صاحب الأرشيف، أو جامع الأحاديث، ومدقق التاريخ، وسماها في حصان نيتشه "محافظ أرشيف الدرب الممتد".

هذه الزوجة لها وجه آخر مثل شهرزاد، فلم تكن تنقل الأسرار لأحد، ولكن تحتفظ بها لترويها لزوجها عند عودته في المساء من العمل، الزوج هو المقصود بما تخزنه، لأنه عندما مات لم تعد تقف خلف الباب لتستوقف أحدًا. وهنا بالطبع يظهر إعادة تمثل دور شهرزاد ضمن ذكرياته.

في هذه الرواية يدخل كيليطو طفولته ضمن سياق أكبر وأوسع من الحكايات والأساطير التي يعيد نسخها، في صور جديدة، مثل قصة "ثريا" التي يسرد فيها قصة حبه لفتاة تكبره بأربع سنوات حين كان في الثالثة عشرة، وعلاقتها بحكاية مجنون ليلى. عندها يلجأ عبد الله لقراءة الكتب ليكتسب خبرة الحب، فالكتب والحكايات تعمق علاقته بالحياة وتجعلها أصيلة، رغم حداثة سنة، فيرى نفسه داخل هذا التاريخ الحكائي كأنه مرآة له. يرى الأزمنة مجتمعة داخل هذه الحكاية، وإمكانية التنقل بينها، وقطف خبراتها.

وهكذا تنسخ الحكاية الحياة، ثم تعود إليها بعد سنوات محملة بالخبرة والتجربة في حكاية جديدة.