تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الكاتب الروائي الراحل صنع الله إبراهيم

صنع الله إبراهيم.. أرشيف مصر الحي

منشور الأربعاء 20 أغسطس 2025

هناك كتّاب يكتبون للترف، وآخرون يكتبون للتاريخ، وصنع الله إبرهيم من الصنف الثاني، لا تهمه أن تُجمّل كلماته الرفوف، بل أن تظل حجرًا ثقيلًا على قلب كل سلطة تخشى الحقيقة. برحيله لا نفقد فقط روائيًّا من جيل الرواد بل شاهدًا وقف في وجه النسيان. يكتب عن بلد يحبه بما يكفي ليغضب منه، شاهدًا عاشقًا عنيدًا، ظل خمسين عامًا يكتب حتى لا نصحو ذات صباح ونكتشف أن ذاكرتنا مُسحت عن آخرها، فترك لنا أوراقًا تشبهه؛ صلبة، صادقة، عاجزة عن المجاملة، أوراق لا تقول لك ما تريد سماعه، بل ما يجب أن تسمعه.

تذكرت أول مرة قرأت لـ صنع الله ومدى شعوري بأن ما أطالعه ليست مجرد حكايات، بل نداءات صغيرة لشخص يجلس في مقهى قديم بوسط البلد، يكتب وهو يراقب الشارع من النافذة. 

أغلفة روايات الكاتب صنع الله إبراهيم

تمرد هادئ

تخيّل معي قاعة ممتلئة، وجوه لامعة، تصفيق رسمي ينتظر اللحظة التي يتقدّم فيها الفائز ليتسلم الجائزة بيده ويلتقط الصور التذكارية. لكن صنع الله النحيل الصامت الذي اعتاد أن يترك كلماته تتحدث عنه، اعتلى المنصة في ملتقى القاهرة للإبداع الروائي عام 2003، وألقى كلمة قصيرة لم تتجاوز دقائق كانت كافية لتجعل القاعة تتجمّد.

شكر الحضور، ثم أعلن رفضه استلام الجائزة، معللًا بأن السلطة التي تمنحه التكريم هي نفسها التي تتقاعس عن حماية الحرية وتنكص وعودها للشعب. لم يكن احتجاجًا صاخبًا؛ هدوء مميت، هدوء رجل يعرف أن الموقف أهم من الدرع والشهادة.

كان المشهد امتدادًا طبيعيًا لمسار حياة صنع الله؛ الرجل الذي جرّب السجن مبكرًا، وعرف معنى أن تُسلب حريتك لمجرد أنك اخترت أن تفكر. لم يكن ليضع اسمه في خانة المجاملات الثقافية. كان يكتب للأحياء الذين يسيرون في الشوارع، لا لأولئك الذين يجلسون في الصفوف الأولى في المؤتمرات.

من يراه في وسط البلد جالسًا على مقهى صغير في شارع شامبليون أو متمهلًا في ممرات سور الأزبكية، لن يحسبه "كاتبًا كبيرًا" بالهيبة المعتادة لمن يعتبرون أنفسهم كتابًا كبارًا، إنما هو واحد من الناس، ليس بمعناها الكليشيهي، عادي تمامًا دون ادعاء، يبادل النادل التحية، يضحك على نكتة عابرة، ويتحدث بلهجة لا تعرف التكلّف، لهجة تحمل نبرة القاهرة القديمة.

هذا القرب من البشر إلى أنه جانب من طباعه الشخصية، هو موقف سياسي وأدبي في آنٍ؛ إذا أردت أن تكتب عن الناس عليك أن تظل بينهم، تسمعهم، وتحمل أصواتهم إلى الورق كما هي، بلا تلميع ولا تحريف.

حدث بالفعل

الكاتب صنع الله إبراهيم في جامعة ستانفورد، مايو 2013                                                                           

لأن صنع الله لم يؤمن يومًا بفكرة المثقف المعزول في برج عاجي، حرص على أن تخرج كلماته من الأزقة قبل أن تصل إلى الصفحات، وأن تحمل رائحة المقهى وضجيج الشارع، لا رائحة المكاتب المكيفة.

رفضه للجائزة لم يكن رفضًا للجوائز في ذاتها، إنما رفض لشرعية تمنحها السلطة لنفسها من خلال تكريم من تعجز عن إسكاتهم، كأنه يقول "لن أكون ورقة تين تغطي عورة نظام".

في قلب الرواية المصرية، صنع الله واحد من قلائل أعادوا تعريف معنى أن تكتب عن بلدك وأهلك، لا من بعيد ولا من موقع المُتفرّج، من قلب المعركة. كتابته ليست ديكورًا يجمّل الواقع أو قناعًا يزيّفه، هي بمثابة مشرط حادّ يفتح الطبقة العليا من الجلد ليكشف العظم تحتها، حتى وإن كان المنظر يثير قلق القارئ وامتعاض السلطة في الآن نفسه.

منذ روايته الأولى تلك الرائحة، التي كتبها بعد خروجه من السجن في أوائل الستينيات، عرفنا أننا أمام كاتب لا يكتفي بسطح الحكاية. كانت أقرب إلى صرخة مكبوتة خرجت فجأة تحمل ثِقَل الزنازين ورطوبة جدرانها في لغتها المقتضبة الباردة.

أدرك صنع الله أن تجربة السجن، بأبوابها الموصدة ورائحة العرق والعفن، وصوت القفل الذي لا يخطئه السمع، ستظل تسكنه، وستجد طريقها إلى الصفحات يومًا ما.

شرف رسّخت مكانته كصوت يجرؤ على أن يكون صريحًا 

هذا اليوم تأخر قليلًا حتى طلعت شمسُه في رواية شرف؛ عمله الأجرأ وربما الأكثر اقترابًا من حياته الواقعية، لم يقدّم السجن مكانًا لقضاء عقوبة فقط، بل مختبر مصغر للمجتمع، تلتقي فيه كل الطبقات وكل الجرائم، وتصبح السلطة المطلقة في يد قلة تمامًا كما في العالم الخارجي.

تضفّر سرد صنع الله بالأسماء الحقيقية، وبالمقالات الصحفية، والبيانات الرسمية، ليس تزيينًا للنص أو محاولة لزيادة مصداقيته، بل جزء من بنية الرواية نفسها ليقول للقارئ "هذه ليست استعارة، هذا ليس مجازًا، هذا ما حدث بالفعل".

بعد انتهائي من قراءة شرف أصابني ما أكبر من الحزن؛ ذهول بكامل تعريفاته، شعور الخطوة ما قبل الأخيرة من العجز، وسيل التساؤلات الذي لا ينتهي؛ هل هذا هو الإنسان؟ هل هذا هو العالم حقًا؟ ماذا نفعل لنبقى على قيد الحياة؟ وماذا نفعل لنبقى بكامل قوانا العقلية؟

لم تصل شرف فقط في قائمة أفضل مائة رواية عربية، بل رسّخت لصنع الله باعتباره صوتًا يجرؤ على أن يكون صريحًا حتى في المواضع التي يختبئ فيها الجميع، لم يكن يهمه التصفيق ولا المديح النقدي لذلك، لأن جوهر القصة بالنسبة له في أن هناك من قرأ وفهم، وهناك من انزعج وارتبك.

مصر التي في ذات

باسم سمرة ونيللي كريم في لقطة من مسلسل "ذات"، إخراج كاملة أبو ذكري، إنتاج 2013

عَمِل صنع الله منقّبًا في قلب الواقع، حفر طبقة تلو الأخرى حتى خرج بشظايا من الحقيقة، وضعها أمام القارئ كما هي، غير مصقولة، وغير مغسولة، فهو الكاتب الذي جعل الوثيقة جزءًا من الأدب، والمحضر القضائي مادة للسرد، والصورة الصحفية خلفية للحبكة.

بهذا الأسلوب لم يكن يبني رواية بقدر ما يبني أرشيفًا أدبيًا لمصر يلتقط ما تحاول الذاكرة الجمعية نسيانه أو ما تريد السلطة طمسه.

روايته الأشهر ذات عام 1992 مرآة هائلة امتدت من جدار بيت صغير في حي شعبي، حتى واجهات الوزارات وشاشات الأخبار.

البطلة "ذات" أكثر من شخصية روائية، فابنة الطبقة المتوسطة التي تتأرجح حياتها بين العمل والبيت، وبين الأحلام التي تتآكل ببطء تحت ضغط الواقع أطلت على مصر، منذ السبعينيات وحتى الألفية الجديدة.

هذا المزج بين الخاص والعام بين المطبخ والسياسة هو ما جعل الرواية عملًا وثائقيًا

كتب صنع الله ذات كمن يدون في دفتر ملاحظات الوطن أسعار السلع في الإعلانات، قوائم الزيجات، أسماء الأجهزة الكهربائية التي غزتْ البيوت، النشرات الإخبارية التي تمر من الراديو، ومقالات الصحف التي تتسلل بين الفصول. لم يكن "حشوًا" كما قد يظن القارئ العابر، بل نسيج الرواية نفسها.

في أحد الفصول، تقف ذات في طابور طويل لشراء أنبوبة الغاز، تتبادل الشكوى مع جارتها، بينما تمر على أذنيها أنباء عن قمة سياسية على الراديو المحمول لأحد الواقفين. هذا المزج بين الخاص والعام، بين المطبخ والسياسة، هو ما جعل الرواية عملًا وثائقيًا بقدر ما هي عمل أدبي.

اختار صنع الله فترة دخول الفيديو ومتابعة الرجال للأفلام الأباحية، واختار الخوف والهلع من سرطان الثدي وتوثيق نفسية المرأة من خلاله، واختار ومبي والعبودي وعمر أفندي (محال تجارية قديمة ذات شهرة واسعة)، فخلق الحالة الأكثر تكاملًا؛ أنك حين تقرأ أو تشاهد ذات بغض النظر عن مستواك الاجتماعي ستجد نفسك متوحدًا ومتفاعلًا مع تلك المشاهد.

التاريخ ليس حكرًا على المؤرخين بل هو ملك للروائي الذي يجيد التقاطه

وحين خرجت الرواية من صفحات الكتاب إلى الشاشة عام 2013، في مسلسل بنت اسمها ذات من بطولة نيللي كريم وإخراج كاملة أبو ذكري وخيري بشارة كانت المفاجأة أن النص الوثائقي تحوّل إلى دراما حية دون أن يفقد روحه؛ رأينا ذات على الشاشة وهي تضع الطبخة على البوتاجاز في مطبخ ضيق، وهي تنشر الغسيل على الحبل بينما يبث التلفزيون خطابًا رئاسيًا.

أعاد مسلسل ذات تقديم مصر لجمهور جديد؛ ربط الماضي بالحاضر في وجدان الناس، وأثبت أن قوة الرواية ليست في أحداثها الكبيرة، بل في قدرتها على الإمساك بالتفاصيل التي نمر بها كل يوم ولا ننتبه لها، ونجح في التأكيد على أنه ما كتبه صنع الله منذ أكثر من عشرين عامًا ما زال صالحًا لقراءة الحاضر، وربما المستقبل أيضًا.

صنع المسلسل جسرًا بين الأدب والدراما، بين الورق والشاشة، وبين أجيال لم تقرأ صنع الله وأجيال عاشت معه، والأهم التأكيد على أن التاريخ ليس حكرًا على المؤرخين، بل هو ملك للروائي الذي يجيد التقاطه من عيون أبطاله ومطابخهم وأرصفة شوارعهم.

برحيل صنع الله إبراهيم نفقد المرآة التي لم تتوقف عن ملاحقتنا بنظراتها، تسائلنا بصوت هادئ وحاد في آن من نحن؟ كيف نعيش؟ لأي غاية نواصل السير؟ ما الذي يصنع إنسانًا حرًّا في مجتمع يكره الحرية؟ هل الذاكرة ملكنا، أم هي وثيقة مسروقة يعيد التاريخ كتابتها كما يشاء؟ متى يصبح الصمت جريمة، والكلمة فعل مقاومة؟ أين ينتهي الخوف، وأين تبدأ الشجاعة؟ وما الذي يبقى منا بعد أن نرحل؟

مات الرجل الذي علّمنا أن الأدب قد يكون وثيقة، وأن الرواية يمكن أن تكون أرشيف أمة، وأن السؤال أهم من الإجابة.