صفحة المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية على فيسبوك
اجتماع بريكس بلس في كازان الروسية، 24 أكتوبر 2024

ما الذي أعادنا إلى شعار "صنع في مصر"؟

منشور الثلاثاء 23 كانون الأول/ديسمبر 2025

من جديد، عاد مصطلح السياسة الصناعية ليتردد في الكتابات البحثية مرادفًا للتنمية بعد أن انقلبت ضده الدوائر الأكاديمية منذ الثمانينيات تحت تأثير صعود الفكر النيوليبرالي، الذي يرى فيها نوعًا من التوجيه الاقتصادي للدولة يجب التخلي عنه لترك السوق حرة تفعل ما تشاء.

منذ أزمة جائحة كوفيد-19، وما تلاها من توترات جيوسياسية واضطرابات متعددة في النظام التجاري والاقتصادي العالمي، تبنت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استراتيجيات لاستعادة دورها القيادي في الصناعة. تجلى هذا الميل بشكل واضح في السياسات الحمائية التي تبنتها الإدارة الأمريكية الحالية، وخاضت في سبيلها حربًا تجاريةً مع العالم كله.(1)

المقصود بالسياسة الصناعية هو وضع أهداف مستقبلية لنمو هذا القطاع، تقدم الدولة في سبيلها السياسات والمحفزات التي تضمن تحقيقها، وهو ما لا يقتصر على المراكز الرأسمالية الكبرى فقط، لكنه انتقل مؤخرًا إلى دول الجنوب النامي. 

وكتب أساتذة اقتصاد سياسي من الهند والمكسيك والبرازيل ومصر مقالاتٍ حول تجارب ومشروعات إحياء السياسة الصناعية في دول الجنوب، صدرت عن مشروع مسارات لما بعد النيوليبرالية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نقدمُ قراءةً نقديةً في خمسة منها.

ما فعلته بنا النيوليبرالية 

خلال العقد الأخير ظهرت في الهند مبادرات تحمل اسم "صنع في الهند" و"الهند المعتمدة على ذاتها"(2)، وهي شعارات تشبه ما تردد في مصر أيضًا تحت اسم صنع في مصر، ومبادرة تطوير الصناعة المصرية ابدأ.

تستعيد هذه الشعارات حلم التصنيع الذي كان تطلعًا مهيمنًا على عالم الجنوب النامي في حقبة ما بعد الاستقلال(3)، وقت أن كانت مصر ترفع شعار صناعة من "الإبرة إلى الصاروخ" بديلًا عن الاستيراد من الدول الغربية (المستعمر القديم).

لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي دخل نموذج الدولة التنموية وسياسات إحلال الواردات مرحلةً من الأفول في ظل صعود نجم النيوليبرالية، بالدفع من مؤسسات دولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمفوضية الأوروبية.(4)

ارتكز المشروع النيوليبرالي في هذه الدول على التخصص في سلع محددة وتصديرها بدلًا من صناعة كل شيء، أو ما كان يُطلق عليه "الاكتفاء الذاتي".

في هذا السياق أصبح اصطلاح "السياسات الصناعية" كلمةً سيئةَ السمعة، باعتبارها من مخلفات سياسات "التخطيط المركزي" التي ثبت عدم جدواها اقتصاديًا وصارت لا تتوافق مع عالم التجارة الحرة النيوليبرالي.

وصل هذا الفكر بدول الجنوب إلى انتكاسة أعادتها للنموذج الاقتصادي السائد وقت الاستعمار، حيث وقعت فيما يُسمى "فخ السياسات الاستخراجية الجديدة"، وباتت مُصدرًا للمواد الخام للاقتصادات الأقوى، مع ما يتطلبه هذا الإفراط في استخراج الموارد الطبيعية وتصديرها من تدمير متعمد للبيئة، وهو ما يظهر بوضوحٍ بشكل خاص في حالة تدمير غابات الأمازون في البرازيل.(5)

خلال العقود الأخيرة، أصبحت السياسات الاستخراجية الجديدة محلّ نقد عنيف من تيار صاعد يُعرف باسم "التقدميين الجدد"، الذين يرفضون النيوليبرالية، من دون الدعوة إلى استعادة نماذج الماضي. إذ يدرك هذا التيار أنه يتحرّك داخل عالم مختلف، وأن تحقيق أهداف الاستقلال القديمة بات يتطلب أدوات وسياسات أكثر عصرية. في البرازيل، على سبيل المثال، يتزعّم هذا التوجّه الرئيس اليساري الحالي لولا دا سيلفا.

نحو نهضة صناعية جديدة في دول الجنوب

لم يخل نموذج "السياسات الصناعية" القديم من سلبيات، يتطلع التقدميون الجدد إلى تجاوزها في عالمنا المعاصر. إذ يشير الباحث البرازيلي ماركوس نوبر  إلى أن التخطيط الاقتصادي اقترن بتبني نهج سلطوي لا يعبأ لا بالأثر البيئي الضار لبعض الصناعات، ولا بالمساواة في توزيع ثمار النمو على مستوى المناطق الجغرافية داخل هذه البلدان نفسها، وذلك على الرغم من رفع تلك التجارب لافتات "اشتراكية". الأمر الذي يجعل التقدميين الجدد يشددون على تجاوز هذه السلبيات في النموذج الجديد.(4)

خلافًا لتجارب ما بعد الاستقلال، فإن النهضة الصناعية الجديدة يجب ألا تمثل حالة صدام بين الدولة والقطاع الخاص. وفقًا للباحث الاقتصادي عمرو عادلي، ينبغي استهداف توسيع مفهوم القطاع الخاص بحيث لا يقتصر على أصحاب النفوذ والثروة من الشركات الكبرى، وإنما القاعدة العريضة من المنتجين والمستثمرين الصغار الذين تعمل غالبيتهم الكاسحة ضمن القطاع غير الرسمي.(5)

قيود وتحديات في المواجهة

غير أن هذه الأهداف تصطدم بقيود متنوعة، بعضها خارجي تفرضه الأطر التنظيمية المختلفة للتجارة الدولية التي تحظر علنًا استخدام عدد من أدوات السياسة الصناعية، خصوصًا فيما يتعلق بمنع حكومات دول الجنوب من تقديم دعم مالي تفضيلي أو حوافز مخصصة للشركات المحلية لتعزيز قطاعات صناعية بعينها.

تُضاف إلى ذلك قيود داخلية مهمة، أبرزها أن عقودًا من إعادة الهيكلة النيوليبرالية لدول ومجتمعات الجنوب العالمي أسفرت عن حالة من تفكيك المؤسسات الحكومية من بنوك وهيئات ووزارات، فضلًا عن القضاء على الخبرات والكوادر الإدارية، التي من شأنها قيادة وظائف التخطيط الاقتصادي ورسم السياسة الصناعية باستخدام أدوات التخطيط القطاعي.

يرتبط ذلك بتحدٍ آخر، فـالكثير من دول الجنوب كانت تعتمد على توافر اليد العاملة الرخيصة فحسب لجذب الاستثمارات الصناعية، في حين أن إحياء الصناعات وجذب الاستثمارات في الوقت الحالي يتطلبان وجود قوى عاملة عالية الكفاءة والتدريب المهني والفني والتكنولوجي، وهو ما يعني أن التخطيط لإحياء السياسة الصناعية ينبغي أن يتضمن رسم سياسات تعليمية أكثر فاعلية.

أيضًا يُعدُّ التضخم الهائل في القطاع غير الرسمي في دول الجنوب من أكبر التحديات التي تواجه إحياء السياسة الصناعية في هذه الدول، إذ يعتبر مؤشرًا على ضعف الكفاءة المؤسسية للدولة وضعف قدرتها على توجيه التحولات الإنتاجية. ومصر بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل عام، مثال صارخ على هيمنة الاقتصاد غير الرسمي ومن ثم محدودية قدرة مؤسسات الدولة والحكومات على تنفيذ سياسات صناعية فعالة.

نظرة نقدية على المشروعات البحثية

لكون الأوراق المعروضة في هذا المقال مقدماتٍ مختصرةٍ لنقاش أوسع وأشمل، فهي بقدر ما تطرح نقاطًا مهمةً لا تزال تفتقر لتغطية العديد من النقاط الأخرى المرتبطة بهذا الموضوع.

على سبيل المثال تستند هذه الأوراق لمفهوم الجنوب العالمي، وهو اصطلاح يهدف لجمع البلدان النامية في بوتقة واحدة لإبراز التحديات المشتركة التي تواجهها في منظومة الاقتصاد العالمي التي هندستها دول الشمال بهدف تحقيق مصالحها بالأساس. من هذه الزاوية يقدم هذا الاصطلاح رؤية تقدمية، لكن ما يعيبه أنه يجمع كل هذه البلدان على اختلافتها تحت اسم واحد.

ثمة تفاوت هائل في معدلات التنمية الاقتصادية والتطور المؤسسي بين البلدان التي يتم إدراجها تحت هذا الاصطلاح؛ حيث تختلف الأوضاع في مصر بشكل هائل عن نظيراتها الهند التي تعد من أكبر القوى الاقتصادية عالميًا في الوقت الراهن، أو في البرازيل والمكسيك اللتين تشهدان ديناميكيات سياسية بين تيارات يسارية ويمينية فاعلة ومؤثرة في إطار من تداول ديمقراطي "ولو مأزوم" للسلطة.

 من أوجه النقد التي يمكن توجيهها لهذه الأوراق أيضًا هي أنها في بعض الأحيان تبدو مغرقة في التحليل الفني من منظور تكنوقراطي، كما لو أن المشكلة بالأساس تتعلق بالمؤسسات الحاكمة للاقتصاد، وهي بذلك تغفل الاقتصاد السياسي في الدول محل البحث، أو بتعبير آخر صراعات القوى داخل هذه البلدان وفي المنطقة الإقليمية الواقعة فيها.

يجب أن تكون العودة للتصنيع جزءًا من مشروع تحرري أوسع نطاقًا، مثلما كان الحال في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ففي عالم يعيش انتهاكًا صارخًا لقوانينه الدولية مثلما رأينا في حرب غزة، لن تتحقق الصحوة الصناعية إلا في إطار مشروع سياسي كامل يستهدف إتاحة مجال أكبر لدول الجنوب في عالمنا اليوم.


1) خولين بيراسالوسي إيثا، تحديات أجندة السياسة الصناعية في الجنوب العالمي، مسارات لما بعد النيوليبرالية: أصوات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

2) ر. ناغاراج، كيف يمكن استعادة المسار الصناعي للهند؟ الحاجة إلى إعادة تشكيل السياسات، مسارات لما بعد النيوليبرالية: أصوات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

3) كالاراياسان أروموغام، مغامرة الهند مع السياسة الصناعية،  مسارات لما بعد النيوليبرالية: أصوات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. 

4) عمرو عادلي، إحياء سياسات التصنيع: إعادة طرح النقاش في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مسارات لما بعد النيوليبرالية: أصوات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

5) ماركوس نوبر، الجنوب العالمي وصراعات ما بعد النيوليبرالية، ، مسارات لما بعد النيوليبرالية: أصوات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.