برخصة المشاع الإبداعي: i support street art
جرافيتي لدونالد ترامب

عاد ليستخرج!

منشور الأحد 26 يناير 2025

في حفلٍ صاخبٍ بهيجٍ جرت وقائعه الأسبوع الماضي في واشنطن، نُصِّب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة لدورة رئاسية ثانية، قطعت صلتها بالدورة الأولى أربعُ سنوات شغل فيها شبح جو بايدن المنصب، قبل أن يذوي وتأكله الرياح فور انتهاء الحفل.

لكن شتان بين تنصيب ترامب الأول في 2016، وتنصيبه الثاني والأخير.

ففي الأول؛ كان ترامب وحده إلى حد كبير. رجل أعمال ضلَّ طريقه إلى السياسة بلا سابق خبرة، وبلا حلفاء موثوق بهم داخل أجهزة الحكومة الفيدرالية ودوائر رأس المال الكبير، بل وربما حتى داخل حزبه الجمهوري نفسه.

أما اليوم؛ فـ"الموقف اتغيَّر يا برايز"، إذ يعود ترامب بقوة، ومعه الحزب الجمهوري وقد أعاد تشكيله على هيئته، ومعه سياسيون وقضاة ورجال أعمال، شكّلوا غلافًا كثيفًا يحيط به في إدارته التي سيشغلون فيها مناصب سياسية مختلفة. 

وربما كان أكثر ما يلفت الانتباه، هو الحضور المكثف لكبار رجال الأعمال من الأمريكيين وغير الأمريكيين الذين أصبحوا أمريكيين، مثل الملياردير الجنوب إفريقي الأبيض ثقيل الظل إيلون ماسك الذي جاور في الصف الأول، متقدمين الساسة والقضاة، حيتان الأعمال جيف بيزوس مالك أمازون، ومارك زوكيربرج مالك ميتا (فيسبوك سابقًا)، وأغنى رجل في آسيا الملياردير الهندي موكيش أمباني، والملياردير الفرنسي برنارد آرنو، في مشهد دال على تحولات وتحورات الطبقة الرأسمالية الكبيرة (بل والكبيرة جدًا) في العقدين الماضيين.

فمن ناحية، بلغ تركز الثروة في يد أشخاص بعينهم درجة تشبه كثيرًا ما كانت عليه الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين، عندما كان عمالقة المال والأعمال أمثال جون روكيفيلر وجي بي مورجان وأندرو كارنيجي يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام. ولكن في نسخةِ مطلعِ قرننا، يمثِّل هؤلاء الأشخاص، الذين يُعدَّون على أصابع اليدين، طبقةً رأسماليةً متجاوزةً للجنسيةِ والقوميةِ، بما يشهد على عقود من العولمة وحرية حركة رؤوس الأموال.

ومن ناحية أخرى، فإن هؤلاء الأشخاص بالغي الثراء والنفوذ والسطوة كأفراد مالكين، لا كشركات أو هيئات أو مؤسسات، يتركزون في قطاعات تُجسِّد التحول إلى ما بعد الصناعة إلى حد كبير، إذ يعمل أغلبهم في مجالات الاتصالات والتسويق والمبيعات وتكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية، التي يقال إنها تتمحور حول "الإبداع" وإنتاج التقنيات العالية.

https://www.youtube.com/watch?v=vYfZXgIyrf8

التكنولوجيا لا تقوم على الإبداع فقط 

قد يبدو حضور ممثلي هذه القطاعات ممَّن خف وزنهم وغلا ثمنهم، متناقضًا مع توجهات ترامب وإدارته المخلصة للصناعات الاستخراجية كالفحم والبترول، فالرجل ما إن وطأت قدماه المكتب البيضاوي، حتى أعلن الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، للمرة الثانية بعدما فعل الشيء نفسه في 2016، في ترجمة لمواقفه المُنكرة جملةً وتفصيلًا للتغير المناخي الذي يحرق كاليفورنيا ويُغرق فلوريدا.

ويضاف إلى توجهات ترامب الاستخراجية، حديثه المتواصل عن التوسع الإقليمي من كندا إلى جرينلاند، الجزيرة الغنية بالموارد الطبيعية التي، والفضل للتغير المناخي، قلَّت تكلفة استخراجها في السنوات الأخيرة، مع ذوبان الجليد نتيجة ارتفاع درجة حرارة الأرض.

فهل هناك مصلحة مباشرة لأثرياء المال والتقنيات والإبداع، في توجهات ترامب الاستخراجية؟

الإجابة البسيطة والمباشرة: نعم.

لقد كذب الذين قالوا إن قطاعات التقنية المرتفعة وما ترتبط بها من خدمات، لا تعتمد على الاستخراج الكثيف للموارد الطبيعية؛ سواء الوقود الأحفوري الذي يشمل الفحم بجانب البترول والغاز، أو المعادن الثمينة الجديدة مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل والنيوبيوم والتانتالوم وغيرها، وبعضها متوفر في جرينلاند. فصناعة الأجهزة والآلات ذات الصلة بالتكنولوجيا المتطورة في أجهزة الكمبيوتر تعتمد على هذه الخامات، التي تُستخدم كذلك في صناعات الرقائق والعدسات والموصلات وبطاريات السيارات الكهربائية وغيرها.

ولا ينحصر الأمر هنا في رغبات الولايات المتحدة التوسعية والاستحواذية، إنما ينسحب كذلك على الوعي المتزايد لدى منافسيها، خاصة الصين، بأهمية النفاذ إلى تلك الموارد الطبيعية، سواء داخل الصين أو في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، لضمان استمرارية القدرة على إنتاج "الهاردوير" الذي سيُمكِّن المستخدمين من التمتع بالإمكانات التكنولوجية الجديدة المتطورة.

باختصار، من قبيل الأساطير أن نصدَّق أن الصناعات كثيفة التقنية ليست استخراجيةً، بل هي كثيفة الاستخراج، على النحو الذي حدا ببعض المحللين إلى اعتبار النمط الاقتصادي الحالي بمثابة نوع من الاستخراجية الجديدة أو الاستخراج الرقمي، الذي ينطوي على الكثير من الاستغلال المدمر للطبيعة وللمجتمعات المحلية المحيطة بمواضع الاستخراج.

إنه حقًا مبهر!

يتميز ترامب عن سابقيه بتبني خطاب سياسي واعٍ ينكر التغير المناخي

بجانب احتياج الصناعات التكنولوجية القوي لِما نستخرجه من باطن الأرض، هناك التنافس العالمي على موارد الطاقة التقليدية، الذي لا يزال على أشده، رغم كل الصخب حول دور الطاقة المتجددة. فنصيب البترول والفحم والغاز من مزيج الطاقة العالمي لم ينخفض منذ عام 1971 إلا بنحو 5.5%، عندما بلغ 81% عام 2019، قبل أن تضرب الجائحة ضربتها.

لا يعود الاستهلاك القوي للطاقة التقليدية فحسب إلى الولايات المتحدة، التي أصبحت خلال العقدين الماضيين أكبر مستهلك للبترول في العالم، بل يُعزى أيضًا إلى الصين التي باتت أكبر مستورد للبترول في العالم، كونها في أشد الحاجة لتشغيل طاقتها التصنيعية الهائلة.

طالما كان الاقتصاد العالمي، أو الرأسمالية العالمية للدقة، قائمًا على الاستخراج المكثف، ولا يزال. لكن ما يميز ترامب وإدارته أنه يمثل تحولًا أيديولوجيًا، بتبنيه خطابًا سياسيًا واعيًا يتحلل فيه تمامًا من أي قيد وضعته الرأسمالية الأمريكية على نفسها سابقًا، سواء كان هذا القيد بيئيًا، أو اجتماعيًا يرتبط بحقوق الإنسان ومستقبل البشرية.

هذا التحلل التام من التزامات حماية البيئة والمجتمعات، يقابله على الجانب الآخر من المشهد، حيث أباطرة المال والأعمال، ارتياحٌ بل ترحيب وحفاوة، يلخصها التصريح الذي خرج علينا به بيل جيتس، مالك مايكروسوفت، بعد لقاء دام ثلاث ساعات مع ترامب قبيل تقلده المنصب رسميًا، عندما قال: بصراحة أنا منبهر جدًا!