صفحة المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية على فيسبوك
اجتماع بريكس بلس في كازان الروسية، 24 أكتوبر 2024

ترامب وتهديدات بريكس.. التنين الصيني يحلق أبعد

منشور الأحد 31 آب/أغسطس 2025

أنهى ترامب الشهور الستة الأولى من رئاسته باستهداف أغلب الدول الأعضاء في تجمع بريكس بإجراءات اقتصادية. الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا، لكنه استثنى الصين في مفارقة لافتة بعد التصعيد الكبير ضدها فور استلام رئاسته، الذي أعقبه تراجعٌ سادتْ بعده هدنة قلقة بين أكبر اقتصادين في العالم.

لكن على عكس التعامل الحذر مع الصين، اختارت إدارة ترامب التصعيد ضد جميع الأعضاء المؤسسين الآخرين لتجمع بريكس، بينها أكبر اقتصادات العالم النامي مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. ليس فقط بفرض القيود التجارية عليها، لكن أيضًا عبر التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها، ومحاولة التأثير على علاقاتها بدول جوارها.

تحمل هذه التدخلات دلالات مهمة على الدور الصاعد لمجموعة البريكس، الذي يُشعر تناميه الولايات المتحدة بالقلق ويدفعها دومًا لتحجيمه. تبدو البريكس إذن مرشحةً لتصبح نواة تغيير مهم في التوازنات العالمية، حتى وإن بدت من الخارج مجرد منظمة تتحدث عن عملة موحدة في مواجهة الدولار لا تستطيع فرضها على أرض الواقع، على الأقل في المدى المنظور.

مدافع ترامب موجهة للبريكس

علاقة ترامب بدول البريكس مليئة بالمواجهات المتتابعة منذ تولي فترته الرئاسية الثانية، بدءًا بجنوب إفريقيا التي فرض على وارداتها 30% رسومًا جمركيةً ضمن مخططاته لكبح واردات جميع الدول وتقليل العجز التجاري الأمريكي. لكن مواجهة جنوب إفريقيا لم تقتصر على الاقتصاد، فقد كرر ترامب مزاعمه عن اضطهاد البيض هناك باستخدام صورٍ مزيفةٍ، باعتبار مواجهتها أولوية لإدارته، لدرجة أنه دعا لمنح المضطهدين المزعومين حق اللجوء.

أما البرازيل، فأخضع ترامب صادراتها لتعريفة جمركية بلغت 50%، ولم يرهن رفع هذه الرسوم بمطالب تجارية مثلما فعل مع غيرها من الدول، ولكن بإنهاء محاكمة رئيسها اليميني السابق جايير بولسونارو، شبيه ترامب، الذي يواجه تهم التورط في محاولة انقلاب!

اختار ترامب أن يكون أقل صدامية مع بكين لعدم قدرته على استخدام نفس أدوات الضغط معها

ويبدو أن لا أمل للهند في النجاة من حرب ترامب التجارية، عكس ما ذهبت إليه تحليلات توقعت قبل أشهر أن تصبح نيودلهي بديلَ الصينِ في تصنيع وتصدير المنتجات التي تحتاجها السوق الأمريكية. لكن خلال الشهر الحالي، انهارت مفاوضاتها التجارية مع الولايات المتحدة، ثم عجَّل ترامب بإصدار قراره التنفيذي بفرض 25% إضافية على الواردات الهندية، ليرفع النسبة الكلية إلى 50%.

الموقف المتشدد لترامب تجاه الهند يحمل في طياته تصورات عن قدرته على استغلال الاقتصاد أداةً للتحكم في العلاقات الجيوسياسية، فهو يتحدث صراحة عن فرض عقوبات تجارية بسبب استمرار الهند في استيراد النفط الروسي، ومن ثم إعادة تصديره.

يأخذنا ذلك للحديث عن علاقة ترامب بروسيا، وهي علاقة معقدة استغل فيها العقوبات الكبيرة التي ورثها من إدارة جو بايدن على موسكو بعد غزوها أوكرانيا، لنفس الغرض الأخير، وهو محاولة التأثير على علاقة روسيا بجيرانها، وبدأ يساوم موسكو على رفع العقوبات مقابل إنهاء الحرب.

فرصة للصين لتغيير قواعد اللعبة

مفارقة استثناء الصين من التصعيد الأمريكي وتأسيس علاقةٍ رهنَ هدنةٍ حذرةٍ، ترجّح أن ترامب اختار أن يكون أقل صدامية مع بكين من بقية دول البريكس؛ لعدم قدرته على استخدام أدوات الضغط نفسها معها، فهي قوة اقتصادية يصعب ترويضها أو السيطرة عليها، وأثبتت التجربة المبدئية قدرتها على إيقاع الأذى بالاقتصاد الأمريكي.

في المقابل، تبدو الصين كأنها تريد استغلال وضعها المتميز هذا لتحقيق تقارب أكبر مع مع دول البريكس. ينعكس ذلك في اهتمامها الواضح بإنجاح البريكس، وحرصها على التوسع في ضم أعضاء جدد له، على الأرجح فإن بكين ترى أن الدور العالمي للولايات المتحدة يتجه للأفول، وتريد أن تستغل تكتل البريكس أداة ضغط لتغيير قواعد التجارة العالمية.

جدير بالذكر أن الصين هي بالفعل الشريك التجاري الأول للهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا، التي تغلب المواد الأولية على هيكل صادراتها، مثل المنتجات الزراعية والتعدينية في حالة البرازيل، والطاقة والمعادن في حالات روسيا والهند وجنوب إفريقيا، ما يعني سهولة تكامل دول المنظمة فيما بينها؛ الأعضاء تصدر الخامات للصين، والأخيرة تحوله لمنتجات صناعية تنافس المنتجات الغربية.

تحدث كثيرون عن هذا السيناريو الذي تصبح الولايات المتحدة فيه أكثر عزلة وتنفرد الصين بدول "البريكس" لتخلق معهم تكتلًا تجاريًا جديدًا. لكن من المهم أن نلتفت إلى أن التنافس يظل حاضرًا حتى داخل التكتل نفسه، فدول البريكس الأخرى لا تريد أن تبقى مصدرًا أبديًا للخامات، وسترغب يومًا في منافسة الصين.

ربما ما يقلل من احتمالية الصدام داخل "البريكس" هو اتجاه الصين حاليًا للتخفيف من الاعتماد على الصناعات كثيفة العمالة، والانتقال لمرحلة أعلى من الصناعات ذات المحتوى التكنولوجي والمهاري، ما يعني أن علاقاتها بدول البريكس قد لا تكون صراعًا على صناعات تقليدية بل ستنتقل رؤوس الأموال الصينية لهذه الدول، لإنشاء هذه الصناعات التقليدية هناك من أجل تتفرغ بكين لما هو أهم.

لا تعدو البريكس أن تكون تجمعًا فضفاضًا لدول ذات مصالح متباينة تاريخيًا، لكن المفارقة أن ترامب بإجراءاته المتعسفة ضد هذه الدول قد يخلق الظرف المناسب لتحقيق بعض التقارب بينها، خاصة فيما يتعلق بالتجارة وربما موقع الدولار المستقبلي عملةً ذات استخدام دولي في التعاملات التجارية والاستثمارية.

سيظل مفتاح تعزيز العلاقة بين الصين وزميلاتها في البريكس هو تغيير الصيغة القديمة التي تجعل بكين مصدرًا للصناعات التقليدية والدول الأخرى مستوردًا للمنتجات الصينية لصالح علاقة تنقل شيئًا من بهاء الصناعة لهذه البلدان النامية.

يرتبط هذا بتسامح الصين مع تخفيض الفائض التجاري الذي تحققه مع دول مثل الهند، وزيادة العجز مع أخرى مثل البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا، وهو ما ستكون له تكلفة على الصين. لكن يبدو أن الوضع في الصين صار مهيئًا لهذا التحول بالنظر إلى تراجع الوزن النسبي للتجارة الخارجية في الاقتصاد الصيني في العقدين الماضيين.