
محروم من أهله بأمر البنزين.. ما تفعله بنا أجرة المواصلات
"هات 3 جنيه كمان"، فوجئ سعيد شلبي بطلب الكمسري بعدما ناوله الأجرة المعتادة للأوتوبيس رقم 166 من كوبري الخشب في بولاق الدكرور إلى مستشفى أحمد ماهر في حي باب الخلق. بدا الأمر غريبًا؛ لأن الأوتوبيس يعمل بالكهرباء، فلماذا يُرفع سعر تذكرته من 12 إلى 15 جنيهًا "مرة واحدة" بعد الإعلان عن زيادة أسعار الوقود في أبريل/نيسان الماضي؟
تقطنُ عائلة سعيد البالغ من العمر 52 عامًا مدينة المنصورة، لكنه يعيش في سكن متواضع بشارع ترعة زنين في بولاق الدكرور، ليكون قريبًا من المستشفى الذي يعمل فيه فردَ أمنٍ، ويعود لأسرته كلما تيسر في محافظة الدقهلية.
يمرر سعيد يومه باستعادة وجوه أبنائه الأربعة في ذاكرته، "بحس دايمًا بحالة من تأنيب الضمير، لإني بكون مش موجود في أوقات مهمة" يقول لـ المنصة.
يعول الرجل الخمسيني ابنةً وحيدةً واثنين من الذكور في المرحلة الجامعية، بينما ولده الأخير ما زال في المرحلة الثانوية؛ "سنّهم كبير آه، بس أنا أبوهم ومسؤولين مني، وفي نفس الوقت الحياة منعاني أبقى في وسطهم همّ وأمهم معظم الوقت"، بعدما أصبحت أجرة المواصلات عائقًا أمام سفره الأسبوعي المعتاد لهم.
ارتفاع أسعار الوقود رفع أجرة السيارة التي يستقلّها سعيد من الموقف الجديد بالمنصورة، حتى المؤسسة على أطراف العاصمة، إذ زادت التعريفة رسميًا ستة جنيهات ونصف إلى 49.5 جنيه، بينما يتقاضى السائقون عمليًا 55 جنيهًا عن المقعد الواحد، تصل إلى 60 جنيهًا إذا كانت محطة الوصول النهائية ميدان رمسيس لا موقف عبود.
"باضطر أنزل في الشهر مرة أو اتنين بالكتير، خصوصًا إن قرار زيادة البنزين المرة دي 2 جنيه للتر الواحد، وده كتير"، يشكو سعيد وهو يتحدث مع المنصة.
تستحوذ القاهرة الكبرى على النصيب الأكبر من الاستثمارات، ما يجعلها مركز جذب العمالة، حسب ما تؤكده دراسة عن الهجرة الداخلية بين أقاليم مصر.
سيارتك الخاص لن تحميك
لا تقتصر المعاناة على من يلجأون لسيارات الأجرة، فطارق الهواري الذي يستخدم سيارته أسبوعيًا للانتقال من قريته بالقرب من ميت غمر إلى الإسكندرية، قرر بعد الزيادة الأخيرة لأسعار البنزين ألّا يفعل ذلك، ولجأ إلى موقف الأجرة ليستقل ميكروباصًا إلى عمله، لكنه اصطدم بالسائق الذي يريد تحصّيل أجرة أعلى من التعريفة الرسمية.
بعد شِجار، حرر طارق شكوى ضد سائق الميكروباص لدى إدارة الموقف، وطُبقت عليه غرامة 600 جنيه، "بس أنا زعلت عشان عملت كده، أنا كنت عاوز أخليه يلتزم بس بالتعريفة. مش هعمل كده تاني، ما هي الدنيا معادتش جايبة همّها مع السوّاقين، قطع الغيار غليت والزيت، أنا هادفع وخلاص، ما هو بيشتكي زي حالاتي"، يقول لـ المنصة.
لدى المهندس، البالغ من العمر 32 عامًا، ابنة لم تجاوز السنتين، يشعر بـ"توتر داخلي يعصف به"، حسب وصفه، لابتعاده عن مراقبة مراحل بداية تعلمها المهارات. ولمواجهة تلك الحالة التي تُلجمه يستعيض عن الغياب بمكالمات فيديو بينه وبين زوجته والبنت التي ما زالت لم تُحسن النطق "أشوفها بس على الشاشة".
في تلك النقطة، طارق صاحب امتياز عن سعيد، إذ إن صيحة السمارت فون لم تعرف سبيلها إلى الأخير، لأسباب كثيرة، منها ضيق الحال وإيثار الأولاد بتلك الهواتف.
https://public.flourish.studio/visualisation/23351565/تخبط.. وتوابع نفسية خافية
يترك الغياب عن المنزل فتراتٍ طويلةً أثرًا على الأبناء وهو ما تظهره دراسة حديثة صدرت في مصر 2024 حول تأثير غياب الأب على التنشئة الاجتماعية، إذ إن وجود الأب في مرحلة الطفولة والمراهقة يساعد الأبناء على مقاومة الضغوطات والمشاكل التي قد يمرون بها، وهو ما تدعمه نتائج دراسة بريطانية.
ولا يَسلم الأب من تلك الآثار هو الآخر، حسب الدكتور محمد فتحي، أستاذ علم النفسي التربوي بجامعة عين شمس، الذي يحذّر من تجاهل الأثر النفسي الواقع على الأب من تقليل تواصله مع أولاده؛ من زيادة مشاعر الوحدة والاغتراب، والعيش في قلق دائم، ما ينعكس سلبًا على استقراره العاطفي وجودة حياته العملية.
وكما يؤكد فتحي لـ المنصة فإن الأب قد يشعر بالذنب والإجهاد النفسي وظهور أعراض اكتئابية، إثر انقطاعه فترات أطول، وغير معتادة، عن أسرته، وعدم قدرته على الوجود مع أطفاله ومشاركتهم تفاصيل حياتهم اليومية، خصوصًا في المناسبات المهمة، كالأعياد أو حفلات التخرج أو المشكلات الأسرية الطارئة.
ارتفاع الأسعار يُشعر الموظفين والعمال بالعجز تجاه أدوارهم الأبوية
ويحرم الغياب عن البيت الأب من الشعور بالانتماء الأسري، ويعزز الوحدة والاغتراب، ويجعله عرضةً للقلق المفرط، لا سيما حال وقوع مشاكل منزلية لا يستطيع التدخل فيها، حسب فتحي، الذي يشير إلى أن من آثار الغياب شعور الوالد بفقدان دوره داخل أسرته، ما قد يولد إحساسًا بالفشل الشخصي، خاصة في حالة الأب الذي لا يستطيع السفر لأسرته بسبب تكاليف الوقود والمعيشة، إذ يشعر بأن الفقر يهدد صلب علاقته بأسرته.
الدكتور حازم حسانين، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، يؤكد على أن زيادة أسعار الوقود ليست آثارها اقتصادية بحتة، وإنما تتجاهل قرارات التقشف التي تتخذ ضمن هيمنة سياسات اقتصادية نيوليبرالية، العدالة الاجتماعية والأثر الطبقي. فارتفاع الأسعار، وفق رأيه، يُشعر الموظفين والعمال بالعجز تجاه أدائهم المؤسسي وأدوارهم الأبوية، ويزيد نسب الطلاق، فضلًا عن تآكل القوة الشرائية للطبقة المتوسطة، ما يُضعف السوق المحلية.
وتوصلت دراسة نشرت في مجلة "البحث العلمي في الآداب" إلى أن الأزمات الاقتصادية في مصر تزيد من مشاعر الإحباط والقلق لدى الأفراد لعدم قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية، إضافة إلى زيادة الخلافات الزوجية التي قد تصل إلى الطلاق بسبب الضغوط المالية، مع عجز الأسر عن التخطيط للمستقبل وزيادة الاعتماد على الآخرين، ناهيك عن اتساع الفجوة الطبقية، إذ تزداد ثروة فئة وتسوء أحوال أخرى.
https://public.flourish.studio/visualisation/23352020/أبوكم متغرّب عشانكم
عم الصادق (48 عامًا) عامل "تراحيل". يأخذ مجلسه بين زملائه على سور حديقة مسجد يوسف الآغا في شارع بورسعيد بقلب القاهرة، ملتقطًا رزقه من بين الزبائن الباحثين عن "فواعلية".
اعتاد الأب لثلاث بنات على أن يرجع إلى قريته بسوهاج مرة كل شهر، فضلًا عن الأعياد والمناسبات. وهو ما بات لا يستطيع الوفاء به.
في مكانه الذي لا يبرحه بحثًا عن لقمة العيش يعزم عم الصادق بسيجارة كليوباترا على صحفي المنصة، يؤكد وهو ينفخ دخانه على أن أجرة ذهابه وإيابه إلى قريته تكلّفه "يوميّتين"، مشيرًا إلى أنه يفضّل إرسال "فلوس المواصلات" إلى زوجته وبناته، ويتمسك بالصبر على الاغتراب عنهنّ ليوفر لهنّ تعليمًا جيدًا.
الصادق يتعمَّد ألا يكون حاضرًا في حياة بناته الثلاث حتى ولو كان ذلك بشكل غير مباشر عبر الاتصالات الهاتفية العادية، حسب وصفه. "يا إمّا أكون موجود أو لأ.. الغربة علمتني كدا" يقول الأب الصعيدي، ويشير إلى أن معنى حضوره مع بناته اللاتي يدرسن في المرحلتين الثانوية والإعدادية أن يكفيهن ما يرسله لهن من مال يغنيهن عن سؤال الناس، بينما على الأم/الزوجة أن تخبرهن أن "أبوهم متغرّب عشانهم".
لا يقتصر العبء الذي يحمله الصادق على زيادة الوقود الأخيرة "الكبيرة أوي"، وإنما هناك توابع ذلك، من غلاء الطعام و"كوباية الشاي"، "اوعَ تفتكر إن البنزين غلي وخلصت، لا يا باشا، هتلاقي كل حاجة زادت، ومطلوب منك تتأقلم، أنا أقلّ حاجة مواصلات 30 جنيه من السيدة عيشة لهنا كل يوم، قول ألف في الشهر وضيف معاهم 40 فطار بالشاي، كدا هيكون 2200، مش هقول لك إن فيه غدا وعشا".
يرتب المهندس طارق لاصطحاب زوجته وابنته معه للسكن بالقرب من عمله بالإسكندرية، بدلًا من "الشحططة كل أسبوع دون جدوى في المواصلات"، أما الصادق فيفضّل عدم العودة إلى بلدته بسوهاج إلا حينما تقتضي الضرورة وفي الأيام "اللي تكون فيها الحالة نايمة"، وهذا، حسب قوله، لا يرتبط بالعطلات، وإنما بمواسم الأعياد والامتحانات، بينما لا يهمه إلا رجاء واحد "نفسي البنات يبقوا حاجة حلوة.. إحنا بنشقى عشانهم".
وبتقليله الزيارات إلى بيته وأسرته، يوفّر سعيد مبلغًا يستعين به على غلاء السلع والطعام والشراب والمواصلات الداخلية في القاهرة، لكنه لا يحسّن من معاناته التي تلعب زيادة أسعار البنزين الدور الرئيسي فيها.