
رحلة التعليم المصري من الماء والهواء إلى إراقة الدماء
ما إن فُتِحَت مغارة ماما نوال الدجوي وتفجرت جنباتها، حتى شعرتُ وكأن مشرط جراح يدب في خراج ظل مكتومًا لسنوات، ليندلع قيحًا وصديدًا. فبين أفواه مفغورة وهي تتساءل باستنكار "شايلة في بيتها كام؟"، وعبارات متسامية تتصنع الخلق القويم والرضا بالمقسوم، وهي تحث الناس على تجنب الحسد، وترك الناس في حالها. حكم ومواعظ في غير موضعها، تفاقمت نقاشات حول مصادر هذه الثروة التي يشيب لها الولدان، ومتابعات لمقتل/انتحار الحفيد الذي كان يطالب بـ"حقه" المثير للجدل.
هذه قصة سينمائية متكاملة الأركان، يمكن لأي كاتب سيناريو أخذها كما هي، دون بذل أي جهد في حبكتها، وتقديمها في فيلم أو مسلسل قد يظن من لا يعرف قصة ماما نوال أنه فانتازيا خيالية، وميلودراما.
إلا أنني رأيت القصة من زاوية تتعلق بقصة التعليم المصري الذي بدأ كالماء والهواء وانتهى إلى إراقة الدماء في حلبة الصراع على المليارات. لا أعرف ماما نوال ولا أبناءها ولا أحفادها، ولست معنية بشخوصهم. لكنهم مثال صارخ على ما حلَّ بالتعليم المصري من استغلال وتطويع لغريزة الشره للمال والمال فقط. والشيء بالشيء يُذكر، فلمَ لا نتحدث أيضًا عن الصحة؟
لديَّ الكثير لقوله وروايته، عن التعليم المصري وتاريخه ورواده وتطوره وتأميمه ثم تخصيصه، لكنني سأؤجل تلك القصص، وحديث مطول ضاقت بي المنصات والمنافذ للتعبير عنه، غير أنني سأحاول، بادئةً من دعوة الكف عن "الحقد الطبقي" و"عدم البص" في أرزاق الناس ربنا يزيدهم لأن "طبيعي يبقى عندها الفلوس دي وهي بتشتغل بقالها سبعين سنة".
هل العملية التعليمية سبيل لكسب المليارات باعتبارها "رزقًا حلالًا"؟ هل من الطبيعي أن تؤول هذه الثروة الطائلة إلى جيب المعلم؟ كم مواطنًا عمل لسبعين عامًا بكدٍّ وجدٍّ مثل ماما نوال ونجح في تحصيل ربع هذه الثروة؟ هل نحن حاقدون بالفعل حين نراجع مصادر ثروة ماما نوال، أو غيرها من أساطين التعليم الخاص؟ وهل يليق بالأساس وصف المتربحين من مستقبل النشء بـ"الرواد"؟
الربح.. وجريمة السعي إليه
يحظر قانون الجامعات الخاصة، الصادر عام 2009، أن يكون غرض الجامعة الخاصة الرئيسي تحقيقَ الربح. وحظر أن يكون تحقيق الربح هدفًا للجامعات الأهلية من الأصل. ورغم العوار الذي يعاني منه القانون كونه يفرِّق بين الجامعات الخاصة والأهلية، فإنه بحالته الآنية لا يتيح التربح حد المليارات من الاستثمار في التعليم.
يؤكد القانون أن الهدفَ الرئيسيَّ من وراء إنشاء جامعات خاصة أو أهلية تقديمُ الخدمة العلمية وتطويرها من أجل "النهوض بأعراضها في التعليم والبحث العلمي والتنمية وخدمة المجتمع". وخدمة مجتمع يعاني ثلثه من الفقر متعدد الأبعاد، لا تُمكِّن من يتصدَّى لها من تكوين ثروات مليارية، خاصة وأن القانون يسمح بقبول التبرعات وينظمها، والمتبرعون لا يقدمون أموالهم لمن يسعون لإدراج أسمائهم في قوائم فوربس.
من المفترض، وفقًا للقانون، أن تراجع وزارة التعليم العالي ميزانيات الجامعات، للتأكد من الإنفاق الملائم على العملية التعليمية.
بعملية حسابية بسيطة، فإن الالتزام الأمين بنص القانون وروحه، لا يؤدي إلى تسمين أصحاب تلك الجامعات بتراكم ثرواتهم، فالمصروفات التي يدفعها أولياء الأمور، ينبغي إنفاق جلها على العملية التعليمية وتطويرها كما هو وارد بنص القانون. صحيحٌ أن القانون لا يحدد هامش الربح، وهو عوار أرجو مراجعته، لكن من نافلة القول أن ولي الأمر يدفع تلك المصروفات الباهظة كي يحصل لأبنائه على أفضل تعليم متاح، وهو ما لا يحدث، وليس أدل على ذلك من انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في الجامعات الخاصة.
أين المشكلة إذن؟
المشكلة أننا في مصر؛ الدولة العربية الإفريقية المنتمية إلى العالم الثالث، ويعاني أكثر من ثلث سكانها من الفقر النقدي وحوالي ثلث السكان من الفقر متعدد الأبعاد وهو الفقر الذي يُحرم فيه المرء من الخدمات الأساسية. ونسبة الأمية تصل إلى 16% ونسبة التعليم الجامعي تصل إلى 37% وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر في مارس/آذار 2024.
كما تعاني مرافقها وخدماتها من فقر الكفاءة، وتردي المستوى التعليمي، وأتذكر أنني في فترة من حياتي درَّست فتيات ضمن مبادرة لمحو الأمية في إحدى المناطق العشوائية، كان من بينهن طالبات حصلن على شهادة الإعدادية من مدارس حكومية، ولا يُحسِنَّ سوى كتابة أسمائهن فقط، وبعضهن كنَّ يُخطئن في كتابتها.
لا يجدر بدولة تتمتع بهذه الأوضاع أن تترك مشاريعَ استثماريةً تهدف للاتجار في مستقبل النشء دون قيود وضوابط ومحاسبة دقيقة. والثروة المتراكمة من هذه التجارة ليست "رزقًا حلالًا"، ولو أننا افترضنا إجازة التربح من هذا القطاع، فلا يجوز أن تصل نسبة الربح 500% و600%.
يد المدرسة في جيوب الناس
القطاع التعليمي بالأساس قطاع خدمي، لا يقدم منتجًا يمكن بيعه أو تصديره، لا يُدخِل للبلاد أرباحًا أو عملةً صعبةً، لا يحدث رواجًا في الأسواق أو البورصة، يجمع ماله من جيوب المواطنين الذين يعملون ساعات طوالًا للإنفاق على تعليم أبنائهم، وبعضهم يسافر تاركًا أسرته سعيًا خلف الرزق، فقط لضمان تعليم جيد وخدمة صحية آدمية.
على صعيد آخر، فإن المؤسسات التعليمية الخاصة لا تنفق ربع ما تتقاضاه من أولياء الأمور على تطوير العملية التعليمية، ولو أنها أنفقت نصف المصاريف المدرسية وتربحت من النصف الآخر لما تمكَّن أصحاب هذه المدارس من تكوين هذه الثروات الطائلة.
نحن دولة تنتمي إلى العالم الثالث، لسنا جاذبين للاستثمار، ولا توجد لدينا بيئة مناسبة لتكوين الثروات عبر اقتناص الفرص. ولكن حتى دول العالم الأول، التي تتراكم فيها ثروات رجال الأعمال من عوائد المطاعم أو الفنادق أو أدوات التجميل أو الأدوات الطبية أو حتى الأقلام والمساطر والبرايات، لم نسمع فيها عن معلم وصل إلى قائمة أغنى الأغنياء من عائد سلسلة مدارس، رغم وجود قطاع خاص في مجال التعليم.
إن مشاريع التعليم لا تخدم سوى المواطن، ولا تحصل على أموالها سوى منه، ولا يجدر ولا يصح ولا يليق أن تصبح مليارديرًا من جيوب المواطنين، فأنت بذلك شأنك شأن "المستريح" في القرى، الذي يجمع مدخرات الناس ليتحول إلى الثراء الفاحش، فالهدف من التعليم أن يصل بجودة عالية إلى جميع المواطنين، لا أن يتحول إلى مصباح علاء الدين.
على الدولة، إلى جانب ضمان أن ترجع أموال أولياء الأمور بالعائد المناسب على تعليم أولادهم، أن تتدخل بشكل مباشر لتثمين نفقات العملية التعليمية وتطويرها وتحديد هامش ربح عقلاني لصاحب المشروع، بما يضمن عدم استغلال أولياء الأمور وإشقائهم بتعليم أبنائهم، مع تحسين جودة التعليم الحكومي، وفرض الضرائب التصاعدية لتتناسب مع دخل كل مواطن.
أما عن ثروة ماما نوال التي أججت كل تلك النيران في الصدور، فتجدر الإشارة إلى أن نوال الدجوي، التي لم تحصل على درجة الدكتوراه، بدأت حياتها المهنية بجمع تبرعات من بوابة ليلة القدر بمؤسسة أخبار اليوم، وخصصت الدولة لها فيلا كانت تحت الحراسة، أي مِلك للشعب، من أجل تولِّي مشروع خيري لرعاية الأطفال أثناء انشغال أمهاتهم، بأجر رمزي. فكيف ينتهي مشروع بدأ بالتبرعات وتخصيص ممتلكات الدولة إلى كل تلك المليارات المتنازع عليها؟
ينقلنا هذا إلى الخلل القيمي الذي حلَّ بالمجتمع، فيجد المواطن نفسه يدعم الفساد والتربح من مخصصات الدولة وتبرعات الشعب من حيث يريد هو أن يتخلق بالخلق الحميد، بل وينصح غيره باتباع نهجه في هذا البله الأخلاقي، وأصبح لا يعرف ما يليق وما لا يليق، والفرق بين المحاسبة والحقد، وما يجوز وما لا يجوز، ثم يرفع حاجبيه ويغمض عينيه متمثلًا الحكمة وهو يردد في بله "سيبوا الناس في حالها دي أرزاق.. دي رائدة التعليم الخاص.. ما تروحوا تشوفوا الممثلين والمغنين والرقاصين والنينينينيني".
لا يا سيدي الأخلاقي المحترم، الممثلون والمغنون والراقصون يتقاضون أجورهم من مُنتِجٍ يتربح مما يقدمونه، والمنصات والقنوات والمواقع التي تبث هذا الإنتاج تحصل على أموالها من إعلانات شركات كبرى، وأنت كمواطن لا تتكلف سوى وقتك الذي تخصصه للمشاهدة والسمع. لا شك أن هذه المنظومة الرأسمالية لها أضرار طالت المحتوى المقدم وجودته وفحواه، لكنها لم تمس جيبك بشكل مباشر، ثم إن الممثلين والمغنيين والراقصين يقدمون سلعة ترفيهية، يمكنك الاستغناء عنها، أما التعليم فلا يجني ماله سوى من جيبك، ولا يمكنك الاستغناء عنه، لأنه خدمة أساسية وحق من حقوق الإنسان، وأنت تعاني من خلل قيمي تحتاج فيه مراجعة نفسك.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.