تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
تسليع العدالة

العدالة الباهظة: أكل عيش المحامين رهن رسوم الميكنة

إفقار المحامين مقابل تحديث خدمات المحاكم

منشور الاثنين 16 يونيو 2025

انضمت المحامية هناء أحمد إلى صفوف الرافضين لقرار تحصيل رسوم جديدة تحت مسمى "الميكنة"، إذ ترى مثل كثير من زملائها أن حق المواطنين في التقاضي وحق المحامين في ممارسة عملهم وجهان لعملة واحدة، وأن فرض هذه الرسوم لا يشكل عبئًا ماليًا إضافيًا على المتقاضين فحسب، بل يحمل في طياته مساسًا بحق المواطن في العدالة.

تتحدث معنا هناء بينما تستعد للمشاركة في الجمعية العمومية الطارئة للمحامين، المقرر عقدها السبت 21 يونيو/حزيران، كإحدى الخطوات التصعيدية التي أعلنها مجلس نقابة المحامين في 14 مايو/ آيار الماضي في مواجهة الرسوم الجديدة.

"أكل عيشي معتمد على تمكين الناس من التقاضي"، تعيش هناء في إحدى قرى مدينة المحلة الكبرى، وأسست في إحدى غرف بيتها مكتبًا تستقبل فيه موكليها، وأغلبهم من محدودي الدخل "لما بقول لحد فيهم النهارده إن أتعابي ألفين جنيه بشوف في عينيه نظرة عجز".

زادت أتعاب المحامين على خلفية الزيادات المطردة في رسوم التقاضي، ومنها استحداث رسم جديد بمسمى "مراجعة الحوافظ" بواقع 33 جنيهًا عن كل ورقة في مارس/آذار الماضي بقرار من رئيس محكمة استئناف القاهرة المستشار محمد نصر سيد. بالإضافة إلى زيادة رسوم إصدار الشهادات حسب تصريحات سابقة لعضو مجلس نقابة المحامين ربيع الملّواني. فيما أكد أمين صندوق نقابة المحامين عبد المجيد أبو هارون أن "بعض الرسوم زادت من 5 جنيهات لـ500 جنيه مرة واحدة".

وتشمل الزيادات، حسب محامين تحدثوا إلى المنصة، رسوم رفع القضايا وحوافظ المستندات ورسوم الإعلانات والمحضرين واستخراج صور الأحكام ومحاضر الجلسات والشهادات وغيرها، ما يعني أن القضية الواحدة يمكن أن تستنزف آلاف الجنيهات في هذه البنود وحدها، ما يمثل عبئًا ثقيلًا على قطاعات واسعة من المتقاضين.

لذلك أعلن مجلس النقابة العامة في 8 مارس الماضي رفضه لكل هذه القرارات "لتعارضها مع المشروعية الدستورية"، ملوحًا بوقف التعامل مع كل خزائن المحاكم بكل درجاتها في عموم الجمهورية خطوة أولى في هذا الشأن.

وأكدت النقابة في بيان أن "فرض تلك الرسوم خلق مشكلات عديدة تمس حق التقاضي المكفول دستوريًا للجميع، وتنال من حقوق المواطنين والمحامين"، منتقدةً عدم إشراكها في حوار مجتمعي قبل إصدارها "باعتبار أن المحامي هو جزء من المجتمع وشريك للسلطة القضائية بنص الدستور والقانون ويؤدي رسالة سامية".

الحق في التقاضي

مظاهرة بنقابة المحامين، أبريل 2023

نظرة العجز والإحباط في أعين مُوكِّلي هناء أحمد، رصدها أيضًا المحامي السكندري محمد رمضان ليؤكد لـ المنصة أن الأزمة الكبرى في هذه الزيادة أنها تحرم الناس من حقهم الدستوري في التقاضي، وتحرم المحامين من حقهم في تقديم دفوع كافية "المذكرة هتتحسب بعدد الصفحات مش بشمولها على الأدلة القانونية الكافية لتأكيد الموقف القانوني".

وبما أن الرسوم الجديدة قد تصل إلى آلاف الجنيهات "فكل خطوة إجرائية داخل المحاكم أصبحت بمبلغ وقدره"، ما يمثل "خطرًا مباشرًا على الحق في التقاضي، مع زيادة التكلفة على المواطن"، خاصة في مراحل الاستئناف التي تتطلب خبرة قانونية وتكاليف إضافية، لتكون حكرًا على القادرين ماليًا.

ويرى رمضان أن إقرار هذه الرسوم يخالف الدستور، مشيرًا إلى المادة 97 التي تنص على "التقاضى حق مصون ومكفول للكافة"، وهو ما يصبح مهددًا مع تعميم هذه الرسوم، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها الشعب.

ويحذر رمضان من أن يصبح اللجوء إلى القضاء "خيارًا مستبعدًا للفقراء، بما يدفع البعض إلى اللجوء لوسائل أخرى لتحصيل حقوقهم، سواء العنف، أو قنوات غير رسمية زي جلسات الصلح العرفي، اللي لن تضمن للضحية أي حقوق حقيقية ولا تخضع لأي رقابة قانونية".

وفي هذا السياق، تشير هناء أحمد إلى اعتماد كثير من سكان قريتها على المجالس العرفية خارج إطار القانون، كونها "أنجَز وأرخص من القضاء الطبيعي"، حيث تُعقد أغلب جلساتها بلا رسوم ولا محامين. 

لا تقاضي لغير القادرين

يلفت رمضان إلى زاوية أخرى للأزمة، وهي توقف المحامين عن قبول القضايا الإنسانية التي لا يتقاضون عنها أتعابًا لأنها ستمثل عبئًا إضافيًا، "المحامين ساعات بيتنازلوا عن أتعابهم لما يكون الموكل غير قادر، بل وساعات بيتحملوا من جيبهم مصاريف القضية. دا هيبقى صعب بعد كده لأني مش هقدر فعلًا".

يراود هناء القلق نفسه، "تكلفة الدعوى إللي كانت ألف جنيه هتبقى 3 و4. أنا واحدة من الناس بيجيلي حالات كتير بتكون فعلًا مش قادرة تدفع.. أنا أعرفهم لأننا في القرية نعرف بعض وكنت بساعدهم على ما أقدر لكن بعد كده مش هقدر".

وبينما تستدعي هناء من المادة 98 من الدستور النص الصريح "يضمن القانون لغير القادرين ماليًا وسائل الالتجاء إلى القضاء، والدفاع عن حقوقهم"، أشارت ورقة موقف أعدتها الجبهة المصرية لحقوق الإنسان إلى حكم صدر في جلسة 7 مارس 2004 من المحكمة الدستورية العليا (في القضية رقم 64 لسنة 21 قضائية دستورية) بأهمية وجود آليات لإعفاء غير القادرين ماليًا من الرسوم، وهو ما نظمه المشرّع في المادة 23 من قانون الرسوم القضائية، كضمانة لعدم حرمانهم من حقهم في اللجوء إلى القضاء.

وفيما توصي الورقة بضرورة "ضمان فاعلية وسهولة الوصول إلى آليات الإعفاء من الرسوم لغير القادرين ماليًا"، تشير  مديرة الوحدة القانونية بالجبهة المصرية لحقوق الإنسان ومعدّة الورقة المحامية شروق سالم إلى أن المواد المتعلقة بإعفاء غير القادرين غير مطبقة على أرض الواقع.

"الناس بتدفع الرسوم المقررة حاليًا، ومع زيادة الرسوم هيكون فيه عبء كبير على التقاضي. يعني إذا كانت الرسوم القديمة رمزية وكانت الناس ممكن تقدر عليها وكانت التكلفة الأكبر إلى حد ما في أتعاب المحاماة، فدالوقت بعد التعديلات الجديدة تكلفة الرسوم في حد ذاتها عبء كبير جدًا، يمكن أكتر من أتعاب المحاماة"، تقول شروق سالم لـ المنصة.

وتشير الورقة إلى أن احتمالية بُطلان الأحكام الصادرة بناءً على إجراءات تم فيها تحصيل رسوم غير قانونية، إذا ثبت عدم قانونية هذه الرسوم، وهو ما قد يفتح الباب للطعن على الإجراءات والأحكام التي بنيت على أساسها.

معركة طويلة ضد المحاماة

مخاوف تحوّل العدالة إلى سلعة في متناول الميسورين فقط، تتقاطع مع معركة طويلة خاضها المحامون منذ عقود ضد محاولات تقييد دورهم المهني والنقابي، حسب المحامي والنقابي أسعد هيكل، الذي يرى ما يحدث الآن امتدادًا لسلسلة من استهدافات المحاماة كمهنة ورسالة، ضمن سياق أوسع من التقييد والتهميش والتضييق.

إلى جانب الآثار الاقتصادية والاجتماعية لقرار زيادة الرسوم هناك أزمة دستورية

يرصد هيكل في حديثه لـ المنصة ما وصفه بـ"استهداف المحامين" منذ 70 عامًا "مع قرار حل نقابتهم بعد ثورة يوليو 1952"، ويمتد إلى فرض الحراسة عليها في التسعينيات، والتضييق عليهم في سنوات لاحقة بقوانين متشددة كقانون مكافحة الإرهاب، والكيانات الإرهابية وغيرها "وده كله كان على حساب حالة الحريات بصفة عامة والمحامين بصفة خاصة، لأنهم هم من يدافعون عن تطبيق القانون والدستور".

يستعرض المحامي النقابي سياقًا طويلًا من الصراع بين السلطة والمحامين، مشيرًا إلى أن هذه الفئة كانت دومًا في طليعة المدافعين عن الدستور وسيادة القانون، "ما جعلهم في مرمى السلطة التي لا تقبل بوجود من يراجعها أو يحاسبها.. في ظل حالة القمع الشديد وتراجع حالة الحقوق والحريات، وتراجع كمان دور نقابة المحامين، وتولي مجالس لم تكن على قدر المسؤولية خلال هذه الفترة حتى وصل الحال إلى المساس -إن جاز التعبير يعني بشكل بسيط- بلقمة العيش أو بأرزاق المحامين وتعرضوا لضغوط مالية شديدة".

أما عن مبرر "الميكنة"، الذي يُطرح عنوانًا للتحديث وتحسين الخدمة، فيراه هيكل حجة لا تصمد أمام الواقع، لافتًا إلى أن التحول الرقمي في المحاكم لم يصاحبه تطوير حقيقي في البنية التحتية أو تسهيل في إجراءات التقاضي، بل ما زالت المحاكم تعاني من تكدس القضايا، ونقص القضاة والموظفين، وغياب أبسط الخدمات اللوجستية.

ويضرب مثلًا بأن المحامين الذين لديهم قضايا تنظرها محكمة المطرية الجزئية باتوا مضطرين الآن إلى قطع 80 كيلومترًا إضافية للذهاب إلى مجمع محاكم القاهرة الجديدة في التجمع الخامس، حيث نقلت تلك المحكمة جلساتها إليه في 2021، في تجاهل واضح لنص القانون الذي يُلزم بإنشاء محكمة جزئية في كل قسم، وتجاهل لمطالب المحامين بالنقل إلى مجمع الأميرية القريب من المطرية. 

خارج نطاق الدستور

تصميم: هشام عبد الحميد- المنصة

إلى جانب الآثار التي يرصدها المحامون والحقوقيون على قرار زيادة الرسوم، هناك أزمة أخرى تتعلق بالمبدأ الدستوري بعدم جواز تكليف أحد بأي رسوم إلا في حدود القانون.

وينظم القانون 90 لسنة 1944 بتعديلاته مسائل الرسوم القضائية ورسوم التوثيق في المواد المدنية، ويحدد أنواع الرسوم المختلفة: نسبية، ثابتة، ورسوم خدمات. كما يحدد كيفية تقديرها وتحصيلها في مختلف مراحل الدعوى القضائية.

وحسب شروق سالم، لا يجب فرض أي أعباء مالية على المواطنين بما في ذلك الرسوم إلا بموجب قانون تصدره السلطة التشريعية، مشيرةً إلى أن هذا من المبادئ المستقرة في النظام القانوني المصري، والمستمدة من مبدأ سيادة القانون.

وتوضح شروق أن "قانون السلطة القضائية (رقم 46 لسنة 1972) توجد به نصوص تنظم عمل المحاكم ورؤسائها، ولكنها لا تمنحهم سلطة فرض رسوم جديدة".

وتشرح "أقصى ما يمكن لرئيس المحكمة فعله حسب بعض اللوائح التنفيذية أو القرارات الإدارية المبنية على تفويض قانوني، هو تحديد كيفية تحصيل الرسم أو مقدار الرسم النسبي في ضوء القانون، أي تقدير قيمة الدعوى لأغراض حساب الرسوم، لكن ليس فرض رسوم جديدة".

وتشير شروق في هذا السياق إلى حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر عام 2004، الذي يوضح السلطة التقديرية للقاضي، بالإضافة إلى حكم قضاء إداري حصل عليه محامو المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بإلغاء قرار قضائي بفرض رسوم إضافية على استخراج واستلام الأحكام والشهادات في نيابة الأسرة بالمنصورة، مستندًا على أن قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 يخلو من نص يخول رئيس المحكمة هذا الحق.

"حق رئيس المحكمة القانوني في تحديد الرسوم، يُقصد به حقه في تقدير قيمة النزاع. يعنى على سبيل المثال القانون بينظم إن الدعوى المدنية تُفرض عليها رسوم نسبية قدرها 7.5% من قيمة النزاع، رئيس المحكمة قد يقدّر أن قيمة النزاع مائة ألف جنيه، وبالتالي يحتسب الرسم 7500 جنيه. لكن لا يجوز له أن يقرر رفع الرسم إلى 10% أو أن يُنشئ رسمًا جديدًا زى رسومات الخدمات المميكنة، اللي هى أساس المشكلة، بدون سند من القانون"، حسب شروق.

أما قانون 90 لسنة 1944 نفسه فجرى تعديله أكثر من مرة آخرها عام 2009 وكانت التعديلات تتعلق في أغلبها بفرض رسوم جديدة على التقاضي، وهو ما يؤكد الطرح الذي تقدمه شروق سالم.

وحسب أسعد هيكل المرشح السابق على مقعد نقيب المحامين يقترب عدد المحامين من 700 ألف، لكنَّ هذا العدد يشمل كلَّ من انضم إلى النقابة منذ إنشائها، أما أعضاء الجمعية العمومية المعرضون للتأثر فعليًا بهذه القرارات فعددهم وفقًا لآخر انتخابات أجريت في مارس 2024 كان نحو 322 ألف عضو.

وبينما ينشغل الكثيرون من المحامين والحقوقيين بشرح خطورة المبالغة في الرسوم القضائية على سير العدالة، تجاهد هناء أحمد في تبسيط هذه المفاهيم لموكليها، بينما تترقب بقلق تأثير النتيجة النهائية على "أكل عيشها".