تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
تجربة السجن واحدة من أكثر التجارب ألمًا وقسوة في العقل الجمعي للبشرية

السجن والسجان في أغاني المهرجانات.. مقبرة الجدعان وجنة المرشدين

توثيق شعبي للقهر وانهيار الذات وقتل الإنسانية

منشور الثلاثاء 10 يونيو 2025

بالصدفةِ استمعت لمهرجان تلاتات تلاتات في حفل عيد ميلاد كان باردًا، والحضور كسولًا، وبمجرد أن أتى صوت أبو أصالة المقهور والحي، بدأنا ننسجم مع الصدى الآتي من خلف الزنزانة، وتراقصنا تلاتات تلاتات تلاتات. قبلها كنتُ بعيدًا عن أغاني المهرجانات، ولم أستطع الاقتراب منها.

أغراني تلاتات تلاتات، بالاهتمام بالمهرجانات، بالأخص التي تناولت السجن والقهر، فكيف يمكننا قراءة الانهيار النفسي للذات في عنابر السجون من خلال المهرجانات الشعبية؟ وكيف سجلت حالة سحق الفرد وقتل إنسانيته؟

قافلين على الجدعان 

 تعاطى الأدب والفن مع السجون بوصفها معادلًا للقهر والمظلومية والإخضاع. وفي أول الأمر كانت مكانًا لاعتقال الأسرى أو المحكوم عليهم بالموت، ثم أصبحت للتخلص من المغضوب عليهم أو الواقفين في طريق السلطان، وتدجينهم لصالح وجهة نظر السلطة.

"السجن والسجان.. قافلين على الجدعان.. ومكلبشين إيدهم.. م اللي أنا بشوفه.. أنا قلبي زاد خوفه"

بالمثل يتكرر حضور السجن في أغاني المهرجانات المختلفة نقدًا وتحديًا للسلطة وخرقًا لجدار القهر؛ تحكي وتصف، تيأس وتحلم، تحزن وتفرح، تمامًا كأصحابها.

يحضر السجن في المهرجانات بداعٍ وبدون، وهي ظاهرة تستحق الانتباه لها، فحتى لو كان موضوع المهرجان ليس السجن، فإن مؤلفه يستعديه بأي شكل؛ فعلى سبيل المثال حين تسمع مهرجان السجن والسجان لشيمي الجنرال، نجده يستخدم الحبس نقطة انطلاق بوصفه الشدة التي تصيب الإنسان وتُظهر له معادن من حوله، ومن خلالها يستطيع معاتبةَ الأهل والأحباب والأصحاب والكون كله "السجن والسجان.. قافلين على الجدعان.. ومكلبشين إيدهم.. م اللي أنا بشوفه.. أنا قلبي زاد خوفه".

طَعم الحياة جُوَّه

ليس للحياة طعم في السجن، بل موت إكلينيكي وفق الأوصاف المتواترة في الغناء الشعبي عامة، وفي المهرجانات خاصة.

https://www.youtube.com/watch?v=irHXtQDYY9s

في الغالب لا ينظر مؤلف المهرجان إلى السجن باعتباره صفقةً عادلةً لمن ارتكب جرمًا وفرصةً للتطهر والتأمل قبل الخروج مرة أخرى للمجتمع، لكنه يعتبره مقبرةً للأبرياء والحَبسَة الظالمة التي كلما حاول فيها الدفاع عن نفسه باغته الشاويش بشل حركته باستخدام الكلابوش، كما نرى في مهرجان السجن مش أحجار حيث يكون جزاء الرجولة 10 سنوات من الحبس، ويكون المتهم مدانًا لا يحق له الكلام تجنبًا لأن يوجع دماغ الباشا، وإن أصر على موقفه وعافر فالكلبشة مصيره.

وفي مهرجان السجن مقبرة الأحياء (صاحبي اللي ياما سندلت معاه) لمصطفى الجن وهادي الصغير، يلعن المغني كل الملتزمين بالقانون والأخلاق "جدعنتي حدفتني في زنزانتي.. ملعون أبو اللي بيمشي سليم"، دائمًا ما يشعر السجين بالظلم ويعجز عن إثبات براءته، وهو المعنى نفسه الذي عبر عنه أمين خطاب في مهرجان ياما في السجون مظاليم "ماشي في طريقي وباكل عيش.. لبسوني في حكاية كبيرة.. شلت ليلة ماتخصنيش.. لفقوا لي قواضي كتيرة.. الحديد دا مش جدع.. علشان بيقفل على الجدعان".

رغم ذلك هناك استثناءات فليس كل من في الحبس مظاليم، فهذا أبو أصالة في تلاتات تلاتات يعترف بذنبه، ويقص حكايته على المأمور وزملائه وزوار السجن التي بدأت بسرقة جيوب الناس، وتطورت لتدخين الحشيش وتعاطي الخمور وانتهت بجريمة قتل. 

ضلمة مشوفتش نور  

تعطي المهرجانات صورة للسجن من الداخل، ويساعدنا كابونجا والصورص في مهرجان هتسحب هدلدل دراعك في تصور حجم القتامة والظلام والضيق بداخل الزنانزين، فهو "محبوس في ضلمة مشفتش نور.. ولو تعبت مفيش دكتور ولا حد يزورني"، بتعبير آخر يقول الطيخا في مهرجانه "مسجون حزين مين يسمعني؟"، "هنا ضيقة مش بورتو وساحل".

يقدم حمو بيكا وأحمد قدري وصفًا لشكل السجن فهو "عندهم حديد مشدود حولك وفي يديك"، وهنا يتقاطع ما هو حديد وقهر كمكان مع زمان يستدعي الصبر حتى يفوت وينتهي.

أصعب ما في تجربة السجن أن تبقى حيًا رغم كل الآلام؛ أن تمرض من دون أن تنتظر يد طبيب تنقذك، فيصبح الموت منفذًا وحيدًا إلى الحياة، وهذا المعنى هو الحاضر في شكل السجن ومذاق اليأس فيه، وفق ما يصفه الطيخا "أوض يابا تشبه مقابر"، أو كلوشة وكابونجا "السجن موتة بالبطيء.. وأنا بموت علشان بريء.. التربة (المقبرة) من أنهي طريق، هاتو تابوت أخش فيه".

خريطة العلاقات

لا يقف تناول المهرجانات للسجن عند المظلومية والتعبير عن العجز والقهر، لكنها تدور في دائرة العلاقات بين السجين والزملاء والسجانين والأمن والمرشدين، وكيف تنشأ حياة موازية في الداخل.

في مهرجان "السجن موتة بالبطيء"، تؤسس العلاقات على مبدأ "أن تكون أو لا تكون"، يساعدك في ذلك الغل والشرر اللذان يقدحان في العيون الجريئة، ومصدرهما القهر والتخبط ما يشير إلى تعاطي المخدرات رغبةً في تغييب الوعي للهرب من مرارة الواقع، أو يولد حالة استنفار ليس فقط تحفزًا لجر الشكَل، لكن قد تكون اشتياقًا إلى الدم في هذا العالم الممل والقاسي والحزين والأسود.

السجن بيئة خصبة للمرشدين  المحبوسين في الزنزانة

في مهرجان "عندي نيابة بكرة ادعوا لي" نجد هذا التوتر واضحًا "هسحب سلاحي وهسنه.. بوظت خلقة أمه.. شاف دمه قدام منه.. وطلعت أنا الكسبان". علاقات السجن كلها خصومات. ولكي تستطيع الحياة في هذا العالم لا بد من الجبروت، لأن أساس العلاقات في السجن القوة لا الاحترام، كما يقول صاحب مهرجان السجن غربة "في السجن كله مخصم بعضه.. ومفيش صحاب ومفيش إخوات... الحبس ياد عايز المظبوط.. علشان تعيش لازم الجبروت.. ده الاحترام جوه مينفعش".

السجن بيئة خصبة للمرشدين (العصافير) المحبوسة في الزنزانة، سواء من أجل الحصول على وضع أفضل في بيئة القهر تلك، أو ضمان النجاة من خلال البقاء في الجيب الخلفي للضابط، الذي يسعى بالمقابل لكبت أنفاس السجناء، أو انتزاع اعترافاتهم أو أيًا تكن الأسباب.

في مهرجان "مسجون حزين مين يسمعني"، يعبر الشاعر عن السجن كثلاجة، والثلاجة بمفهوم السجن غرفة صغيرة جدًا يتكدس فيها عدد كبير من المحبوسين كنوع من العقاب، ويصف حملة يشنها الحراس على الثلاجة "مرشد ما بينا في التلاجة.. قوات ضاربة دي هجمة يابا.. مجندكم واحد معايا.. امبلو شغلي دول عصابة.. يا باشا عيب.. كيوف معيش.. الهجمة دي على مفيش.. اللي بلغ ضحك عليكو.. مفيش سلاح مفيش حشيش".

علاقة السجين بالشاويش، أساسية، حيث يحضر الأخير في كل مهرجان، باعتباره اليد الطولى التي تفتت و"تلطش" أي نَفْسٍ قد تخرج على نظام السجن وقهره، فوفق صاحب مهرجان "السجن غربة"، "شاويش يزعق ويلطش.. هتصيع قصاده تصبح ملطش".

أما علاقة السجين بنفسه فهي الأصعب في ظل هذا القهر والظلام، فهو في اغتراب مر، ليس اغترابًا فقط عن أهله وأمه وأصحابه، بل عن نفسه كذلك، فنجد كثيرًا من أبطال المهرجانات يتحدثون مع ذواتهم بأن لديهم حقًا لن يضيع، وهناك أمل في فتح الباب الحديد. في "السجن مقبرة الأحياء"، يكلم السجين نفسه "أنا لسه حي وفيا الروح.. أنا حقي جاي ومش هيروح".

انتقام مؤجل

السجين في الداخل يتعرض لصنوف العذاب، وتهان كرامته، ويتعاطى المخدرات، وحين يقضي عقوبته ويخرج مرة أخرى للمجتمع يعود مشحونًا بقهر متراكم، مجفف، يطلقه في أول فرصة للانفجار، وبالتالي لا يكون للسجن معنى أو هدف بل على العكس يظل تجربة صعب تجاوزها و"معلّمة ع الجلد"،"السجن مش بيعلم حد.. السجن بيعلم ع الجلد.. صدق كلامي لو اتحبست.. مش هتلاقي مكسب".

مع غياب المحاسبة في الظلام، نستطيع تفهُّم أسباب القسوة التي تتنامى في قلب السجين، ويسعى للانتقام من كل العالم، أو من أصحابه الذين لم يزوروه، أو ممن كرهوه أو ممن أرشدوا عنه. فمهما كانت الجناية أو الجنحة التي أُخذ فيها هذا السجين، فهو سيعود إلى المجتمع من جديد، بما حمله معه من قسوة وظلم وظلام.

أبلغ تعبير عن هذه الحالة مهرجان طار البطل الذي يصف عودة سجين من حبسه بأنها "طلقة مخزنة"، في استدعاء للخطورة التي يعنيها أن تعلق رصاصة داخل بندقية، وما يمكن أن تسببه من أذى لحاملها أو من هم في محيطها؛ "اللي شفته في سجني طير برج م الدماغ.. ناري تشعلل بيوتكو، جاري تصفية حسابكو، تاري (ثأري) هاخد بتاري".