
تفاهمات ترامب ونتنياهو.. محظورات الطوفان الجديد
لا تبيح الضروراتُ المحظوراتِ دائمًا، وفي الحالة الفلسطينية بالذات. فإذا كان وقف حرب الإبادة الجماعية وعمليات التطهير العرقي التي ينفذها العدو الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة ضرورة إنسانية وأخلاقية، فإن التهجير القسري لأهل القطاع، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وطرد المقاومة وتسليم الأسرى الإسرائيليين مجانًا هو المحظور الذي لا ينبغي للفلسطينيين ولا لدول الإقليم القبول به تحت أي ذريعة.
القبول بتلك المحظورات يعني ببساطة تصفية القضية الفلسطينية، وضياع ما تبقى من حقوق لأصحابها. بل إنه يفتح الباب أمام شتات جديد، لكن هذه المرة بمباركة الأنظمة العربية. ما يجعل عملية طوفان الأقصى التي جرى تنفيذها من الأساس لقطع الطريق على مسار تجميد القضية سببًا في نكبة جديدة.
لم يكن مضى على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران أكثر من يومين عندما كشفت وسائل إعلام عبرية تفاصيل مقترح لإنهاء الحرب في غزة خلال أسبوعين.
المقترح الذي وصفته صحيفة إسرائيل هيوم العبرية بـ"التفاهمات" نتج عن محادثة رباعية بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر من الجانب الإسرائيلي، والرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو من الجانب الأمريكي.
هذه "التفاهمات" لوقف إطلاق النار في غزة تتضمن "توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية، وفرض بعض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وطرد قادة حماس من غزة، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين".
بموجب هذا المقترح الأمريكي الإسرائيلي، تتولى أربع دول عربية بينها مصر والإمارات المسؤولية المباشرة عن إدارة قطاع غزة في اليوم التالي. وبالتزامن، تعرب عدة دول حول العالم عن استعدادها لاستقبال سكان غزة الراغبين في الهجرة من القطاع، فيما تعترف دول عربية وإسلامية رئيسية من ضمنها سوريا والسعودية بإسرائيل وتُقيم علاقات دبلوماسية معها. في المقابل تُبدي دولة الاحتلال "استعدادًا مبدئيًا" للدفع باتجاه حل الدولتين، وفق رؤيتها بالطبع.
"غزة للفلسطينيين"
بعد إخفاقه في تحقيق أهدافه من حرب الـ12 يومًا، سعى نتنياهو لتصدير صورة "نصر"، رغم إدراكه أكثر من غيره أن عجزه عن دفع إيران إلى "الاستسلام" يعني فشلًا استراتيجيًا، ومع ذلك يصر على فرض صفقة على جبهة غزة فشل على مدار أكثر من 21 شهرًا في فرضها بـ"القوة" ثم بـ"المزيد من القوة".
رحلة نتنياهو الفاشلة إلى الجمهورية الإسلامية، التي موَّلتها ودعمتها وشاركت فيها الولايات المتحدة ومن خلفها دول الناتو، لا تجيز له فرض صفقة استسلام غير مشروط على الفلسطينيين، ولا على كافة دول الإقليم، كما يخطط مع صديقه ترامب لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي بما يناسب أمن إسرائيل.
يحلم الرجلان بفرض دولة الاحتلال قوة عظمى تفرض أجندتها على الشرق الأوسط. لذلك، قرر الطاووس الأصفر إنهاء الحرب في غزة وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية "في أسرع وقت ممكن"، ليحقق إنجازًا جديدًا يُضاف إلى مسلسل "إنجازاته الانتخابية"، فالرئيس الأمريكي مهووس بالإنجازات الهائلة الباهرة الساحقة، حتى لو ثبت زيفها أو شكك فيها أقرب مرؤوسيه.
أنقذ ترامب صديقه بيبي من الخسائر والإحراج والفوضى، التي كادت تلحق به في معركته ضد إيران، والآن يسعى إلى إنقاذه من محاكمته بتهم فساد أمام المحاكم الإسرائيلية، داعيًا إلى إلغائها أو منحه عفوًا باعتباره بطلًا عظيمًا "يحب الأرض المقدسة"، ومن ثَمَّ لا يمكن السماح بتلك المهزلة (العدالة).
يرى الرئيس الأمريكي أن إبعاد شبح السجن عن نتنياهو يفتح أمامه الباب إلى القبول بصفقة تنهي الحرب، فرئيس الوزراء الإسرائيلي على استعداد للاستمرار في القتال حتى آخر فلسطيني في غزة بل وحتى آخر جندي إسرائيلي، في سبيل نجاته الشخصية.
يدرك ترامب تلك المعادلة جيدًا، لذا يسعى من جهة إلى الضغط على المؤسسات الإسرائيلية حتى تغلق ملفات بيبي الجنائية. ومن جهة أخرى بدأ في بناء مظلة سياسية لحماية الحكومة الإسرائيلية من السقوط، إذ من المتوقع أن ينسحب وزيرا الأمن القومي والمالية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من الائتلاف الحاكم لو أقدم نتنياهو على تقديم "تنازلات خطيرة" في أي صفقة تطرحها الولايات المتحدة.
الواقع الميداني لا يعطي إسرائيل أي تفويض وما يُطبخ في الغرف المغلقة لن يجد طريقه إلى التنفيذ
يغفل ترامب وصديقه نتنياهو أن نجاح مقترحهما مرهون أولًا بقبول حركات المقاومة الفلسطينية بشروط صفقة الاستسلام، وهو أمر صعب في ظل ما تحققه على أرض الميدان من نجاحات عملياتية، بعد أن أوقعت خسائر بالغة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي باعترافه، وهو ما يجعلها أكثر تمسكًا بموقفها القاضي بإنهاء الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
حماس، أعلنت منذ شهور استعدادها للتخلي عن الحكم في اليوم التالي لوقف الحرب، وأبدت مرونة تجاه المبادرة المصرية التي تقضي بإسناد السلطة في القطاع إلى "لجنة إسناد مجتمعي"، لكنها رفضت بوضوح نزع سلاحها أو نفي قادتها، وفق ما أكده قيادي بالحركة لكاتب المقال.
المقترح لا يراعي الحقائق على الأرض، فالجيش الإسرائيلي لم يحسم المعركة، بل غرق في وحل غزة، والمقاومة صامدة لم تُهزم بعد، وسكان القطاع لا يزالون يلتفون حول من تبقّى من أبنائهم في الميدان.
يفترض المقترح الصهيو/أمريكي أن الفلسطينيين شعب بلا ذاكرة، وأنهم سيقبلون بالتخلي عن أرضهم وسلاحهم ومستقبلهم، مقابل وقف القصف وتذكرة سفر إلى المجهول.
أما مصر فموقفها معلن "لا تهجير لسكان القطاع، ولا إدارة لغزة، ولا مشاركة في مشهد قد يُترجم على أنه تصفية نهائية للقضية"، وهو ما أعاد التأكيد عليه مصدر مطلع، قال لكاتب هذه السطور إن القاهرة أبلغت العواصم المعنية أن "غزة للفلسطينيين، ولن نحكمها نيابة عن أحد، ولا نريد الدخول في مواجهة مع شعب جريح يرى فينا سندًا لا شريكًا للاحتلال".
وحذر المصدر من أن "دخول أي قوة عربية إلى القطاع قد يُفهم على أنه احتلال جديد، وسيفتح بابًا للثأر والدم، بدلًا من أن يُغلق جراح الحرب".
إذًا، الواقع الميداني لا يعطي إسرائيل أي تفويض. ورفض حماس وموقف مصر وغضب الشارع العربي كلها عوامل تقول إن ما يُطبخ في الغرف المغلقة لن يجد طريقه إلى التنفيذ.
هذه ليست تسوية، بل محاولة لتصفية القضية بشكل ناعم مُغلف بالحديث عن السلام مع دول بعضها وضعت شروطًا للتطبيع والبعض الآخر تنتظر موعد القفز في القطار إرضاءً للسيد الأمريكي.
يريد ترامب أن ينهي الحرب في أسبوعين، كما ينجز صفقاته العقارية. ويريد نتنياهو أن ينجو من السجن بصفقة سياسية على جثث الغزيين. لكن هذه الصفقات التي يسعى أصحابها إلى فرضها بالقوة لا تحمل بذور حياة. وكل محاولة لتمريرها على طريقة هوليوود حتمًا ستقودنا إلى طوفان جديد، لا يعلم أحد متى وكيف ينتهي.