تصوير نورا يونس، المنصة
مئات المتضامنين الدوليين مع غزة يعتصمون أمام بوابة الإسماعيلية، 13 يونيو 2025

برًا وجوًا وبحرًا.. عناصر أجنبية أم متضامنون مع غزة؟

لماذا تركت مادلين حياتها الهادئة في بورتلاند وجاءت إلى الإسماعيلية؟

منشور السبت 14 يونيو 2025

مثلي مثل كثير من المصريين، أنبهر بفيديوهات المظاهرات التي تجوبُ عواصم العالم حيث يحملُ الآلاف أعلام فلسطين وينادون بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لا مجرد وقف الحرب. فلسطين قضية عادلة وها هي شعوب العالم تتخلص من هيمنة الخطاب الصهيو-أمريكي وتتحدى الاتهامات الوهمية بمعاداة السامية، كل هذا حَسن جدًا، أليس كذلك؟

ولكن، ومع تواتر أخبار اعتقال إسرائيل للنشطاء الدوليين الذين سعوا لكسر حصار غزة بحرًا من على متن القارب مادلين، ثم منع قوات حفتر الليبية تقدم قافلة الصمود الآتية إلى مصر برًا من تونس عبر الحدود الليبية، وانتشار سردية "دول الإخوان المسلمين من تونس والمغرب"، بدأت كذلك أخبار ترحيل القادمين جوًا عبر مطار القاهرة ضمن المسيرة العالمية نحو غزة.

بدأ الترحيل بثلاثة جزائريين، ثم امتد إلى مشاركين من وفود قادمة من هولندا والنرويج والمغرب وألمانيا وبلجيكا. ولكن في لحظة ما، سُمح للوفد اليوناني بالدخول، ولم يعد الموقف المصري واضحًا؛ يُقال تارةً إن مصر لن تسمح، وتارة إن هناك مفاوضات جارية والسلطات بدأت تتفهم. إلى أن سرت معلومة نجاح بعضهم في الوصول إلى بيت شباب الإسماعيلية. 

اتجهتُ نحو الإسماعيلية بصحبة زميلي مصطفى بسيوني في محاولة لمعرفة مَن هم هؤلاء الأجانب، وما هي دوافعهم، ورصد كيفية تعامل السلطات معهم، والسؤال الأهم هل سينجحون فيما فشل فيه المصريون؟ فالذين حاولوا التضامن مع غزة قبل عام فُضَّت مظاهراتهم، والعشرات منهم ما زالوا محبوسين حتى الآن.

الطريق إلى الإسماعيلية

إلى يمين بوابة تحصيل الرسوم الأولى في بداية طريق القاهرة-الإسماعيلية الصحراوي شاهدنا مجموعةً قدَّرنا أفرادها بالعشرات؛ يحملون أعلام فلسطين فيما تحيط بهم قوات من الأمن. على البوابات نفسها كان رجال أمن بزي مدني يقفون واحدًا على كل حارة ينظرون داخل السيارات، فإذا بدا أن الركاب مصريون يسمحون لهم بالمرور. كان ذلك حوالي السابعة مساءً. 

قررنا عدم التوقف واستهداف المجموعة التي وصلت إلي الإسماعيلية بالفعل. لاحقًا عرفت أن المتحدث باسم المسيرة سيف أبو كشك، كان ضمن المجموعة التي تحمل الأعلامَ محاطة بالأمن، وأنه جرى توقيفه لبعض الوقت، وأن المجموعة تعرضت لعنف شديد حتى بعد استقلال الأوتوبيسات المتجهة للقاهرة. 

عند وصولنا إلى بوابات دخول الإسماعيلية نحو الساعة الثامنة كانت الفيديوهات انتشرت عن إحكام السيطرة الأمنية على بيت شباب الإسماعيلية، وحَمْل الناس قسرًا إلى سيارات تقلهم إلى القاهرة، ولكن حتى الآن ليس معروفًا إن كان ترحيلهم تم بالفعل أم لا.

بعد إغلاق Circle K على من فيه من المشاركين في المسيرة العالمية إلى غزة، اصطفوا في طابور الدفع وتعرفوا على بعض لأنهم أتوا إلى هذه النقطة فرادى

اكتظ متجر Circle K المجاور للبوابات بالعشرات ممن يرتدون الحطة الفلسطينية، بمجرد دخولي أغلق أفرادُ أمنٍ بزيٍّ مدنيٍّ الباب وقال أحدهم "خلاص closed"، توسل العاملون "سيبنا نسترزق يا باشا" لكنَّ أحدًا لم يستجِب له. اشترى الناس مياهًا وقهوة واستخدموا الحمامات وشحنوا هواتفهم، واصطفوا في طابور طويل بطيء لدفع الحساب.

خارج Circle K اصطف طابور طويل آخر حول دورات المياه الملحقة بجامع صغير أُوصدت أبوابُه جيدًا. وبعد الجامع افترش مئات المتضامنين قطعة أرضٍ ترابيةً ربما كان مخططًا لها يومًا أن تكون حديقة.

جاء هؤلاء من فرنسا واليونان والولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا و.. و.. ولكن دهشتي الكبرى كانت حين التقيت باثنين يلعبان الموسيقى، قادِمَين من نيوزيلاندا بآلات وترية صغيرة، قاطِعَين ما يزيد عن 16 ألف كيلومتر عبر المحيط الهندي.

ليسوا مرتزقة كما وصفتهم صفحات إنفلونسرز ومواقع صحفية تابعة للدولة، على العكس حكى لي مَن تحدثت معهم أنهم يتظاهرون في بلدانهم بانتظام من أجل غزة، ولكن ثبت لهم أن هذا ليس كافيًا. "الإبادة مستمرة ولا يمكننا مشاهدتها تحدث ونقف مكتوفي الأيدي" قال أحد الفرنسيين. 

جميع من تحدثت إليهم جامعيون تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والخمسين، ولديهم وظائف أخذوا إجازات منها لينضموا للمسيرة، قليل منهم أتى بتذاكر طيران one way دون حجز عودة، والغالبية حجزت عودةً قابلةً للتعديل في حدود الـ20 من يونيو/حزيران الجاري. ولكن كيف حدث كل هذا؟

تقول ميلاني، 41 عامًا، وهي ضمن الوفد الأمريكي، إنها عرفت عن المسيرة العالمية عبر موقعها على الإنترنت، وملأت استمارة أونلاين، وبعدها فحص المنظمون حسابات السوشيال ميديا وبياناتها، ثم أجروا معها مقابلة شخصية. حسب قولها "إنهم يستبعدون أي شخص لا يؤمن حقًا بالقضية أو ليس له نشاط سابق في الدفاع عنها". تردد ميلاني كلمة "القضية" كثيرًا، وتقول إنها منخرطة في النضال منذ خمسة سنوات، وحين سألتها هل تقصدين القضية الفلسطينية؟ قالت "الإنسانية بشكل عام".

الطريق إلى المسيرة العالمية

كانت ميلاني تعيش حياة عادية إلى أن قتلت الشرطة الأمريكية امرأة سوداء من حيّها قبل خمس سنوات، لتبدأ نشاطًا انتهى بها لمحاولة كسر الحصار عن غزة

قبل خمس سنوات كانت ميلاني تحيا حياة عادية إلى أن قتلت الشرطة الأمريكية امرأة سوداء من الحي الذي تعيش فيه، وهنا انخرطت في الحركة المناهضة للعنصرية. ولأنها ترى أن كل شرور العالم تتصل ببعضها بشكل ما، وأن بلدها ضالعة ومتورطة فيها بشكل مباشر، كانت تسافر من بورتلاند حيث تقطن في ولاية أوريجون على الساحل الغربي إلى واشنطن العاصمة شرقًا، لتشارك في المظاهرات والفعاليات المناهضة للحرب على غزة.

وبعد قبول طلب انضمامها، أخذت إجازة من وظيفتها في واحدة من كبريات شركات الصناعات الدوائية، وقطعت على نفقتها تذكرة ذهاب فقط إلى القاهرة، من بورتلاند المطلة على المحيط الهادي عبر ترانزيت في لندن.

ولكن ماذا يحدث لو أنك اعتُقِلتِ هنا، أو لم تعودي إلى عملك في الوقت المحدد؟ قالت بهدوء "الوظائف ليس لها معنى الآن، هناك إبادة، شعب بأكمله يتم القضاء عليه، يجب أن يفعل أحد شيئًا وإن عجزت الحكومات هنا يأتي دور الشعوب، والشعب الأمريكي تحديدًا يتحمل مسؤولية كبيرة لأن أمريكا تدعم إسرائيل. نحن نناهضها هناك أيضًا في واشنطن".

صنعت قوة أمنية مكونة من شباب صغير السن طوقًا بشريًا حول المتضامنين الدوليين الذين افترشوا الأرض بحقائبهم. تحدثنا مع مجموعة من هؤلاء العساكر، أغلبهم من أبناء محافظة الشرقية والتحقوا حديثًا بالتجنيد. كان عدد المتضامنين كبيرًا يتجاوز الخمسمائة فانبرت مجموعة في الغناء وأخرى في الهتاف. وانتشرت أعلام فلسطين وأعلام أخرى، وبدا أنهم يستعدون لمبيت الليلة في مكانهم إلى أن ينضم لهم الباقون أو تأتيهم تعليمات مغايرة من المنظمين.

كنت أتحدث مع أحد المشاركين حين سمعت قائدًا من خارج الطوق الأمني يقول "ضيَّق.. ضيَّق"

كانت الأمور هادئة، فدلفنا داخل الحديقة الترابية التي كانت ما زال لها مداخل ومخارج متاحة، للتحدث مع الناس.

لماذا هنا على مشارف الإسماعيلية؟ "الهدف هو التجمع معًا خارج القاهرة حتى لا نشكل أي ضغط أو نسبب أي قلق للسلطات في مصر، نحن لا نهدف إلى تعبئة الجماهير المصرية ونعرف أن السلطة هنا لا تحب التجمعات، لذلك قررنا التجمع خارج العاصمة وبدا لنا أن الإسماعيلية مدينة بها عدد من الفنادق يمكن أن يستوعبنا جميعًا" قالت إحدى المشاركات ضمن الوفد الفرنسي.

يقدّر المشاركون من استطاعوا دخول مصر حتى الآن بألفين على الأقل، ويقولون إن الخطة كانت التحرك كمجموعة في أوتوبيسات معدة لهم من القاهرة إلى الإسماعيلية، ولكن الشرطة بدأت في مداهمة الفنادق التي يقيمون بها، والحافلة التي استقلها بعضهم بشكل جماعي فاضطروا للتحرك بشكل فردي نحو الإسماعيلية، وكانت هذه بداية النهاية.

تفرَّق المشاركون عن المنظمين، وانقسموا إلى مجموعات صغيرة مبعثرة، وهو ما أدى إلى تفرقهم في مجموعة بيت الشباب ومجموعة بوابات القاهرة ومجموعة بوابات الإسماعيلية، وآخرون ظلوا في القاهرة، وبعضهم محتجزون في الفنادق، وغيرهم على الطريق.

"افتح بنموت".. وترومات أخرى

بلطجية بالجلاليب يعتدون على المشاركين في المسيرة العالمية إلى غزة بهدف كسر الحصار الإسرائيلي بعد تطويقها عند بوابات الإسماعيلية. 13 يونيو 2025

كنت أتحدث في الحديقة مع أحد المشاركين حين سمعت قائدًا من خارج الطوق الأمني يحمل جهازًا لاسلكيًا يقول "ضيَّق.. ضيَّق". تحرك العساكر بأجسادهم المتلاصقة لخنق المتضامنين، هتف الفرنسيون asseyez-vous (اجلسوا) مرارًا وكرروها كالهتاف، داعين الناس للجلوس على الأرض. افتراش الأرض هو أحد أشهر وسائل المقاومة اللا-عنفية في مواجهة العنف.

ولكن لم يكن الجميع قد جلسوا بعد، فبدأ الناس يسقطون فوق بعض نتيجة تضييق الخناق، وسقطتُّ أرضًا وسط حقائب، وسقطتْ امرأةٌ فوقي وسقطتْ نظارتي تحت أقدام أحدهم، وظننت أني سأموت تحت تدافع الأقدام، وفي هذه اللحظة أطفأوا الأنوار وشعرت بخوف شديد إلى أن شدني مصطفى وأنقذتُ نظارتي. 

كنت وثّقت في ديسمبر/كانون الأول 2005 الفض العنيف لتجمع سلمي للاجئين سودانيين أمام مفوضية الأمم المتحدة في ميدان مصطفى محمود. يومها أيضًا أحكمت الشرطة الخناق وأطفأت الأنوار ثم فتحت عليهم خراطيم المياه ومات العشرات في ساعات. تعاظمت التروما حين شاهدت سيارة إطفاء تأتي مسرعةً ثم تتوقف بجوار المكان. كنا في جهة الحديقة الترابية البعيدة عن البوابات، وفي الجهة المقابلة، ناحية البوابات والميكروباصات، سمعت صراخًا وهتافات. 

هناك، كان الأمن يفتح الكردون لتدخل مجموعة من ثلاثة إلى ستة رجال يرتدون الجلاليب ويغطون وجوههم بشالات، فيضربون شخصًا ويشدونه خارج الكردون الذي يعاد إغلاقه مرة أخرى. أحد المتضامنين الذين تعرضوا لذلك كان يرتدي قميصًا أبيضَ غطته الدماء كما غطت رأسه. وتوالى الصراخ وتوالت معه الاعتداءات "المدنية" المحمية من الشرطة. 

لاحقًا أسمتهم بعض وسائل الإعلام المصرية "أصحاب المزارع المحيطة" وقالت إن غضبهم من المتضامنين كان عفويًا بسبب غيرتهم على البلد. ولكن هذه البلطجة لم تكن عفوية، لأنها حتى وإن كانت عفوية فستكون مسؤولية قوات الأمن منعها، ولكن العكس هو ما حدث. 

حاولنا الخروج من دائرة العنف ولكن العساكر رفضوا، "أوامر، ممنوع نسيب حد يخرج غير ع الميكروباص"، ولكن الميكروباصات التي أحضرتها الشرطة كانت في قلب منطقة الاشتباكات، القريبة من البوابات، فمَن كان سيتخذ القرار ليمر من خلال كل هذا العنف ذاهبًا إلى مصير مجهول، لا يعرف إن كان الاعتقال أو الترحيل؟

بلا تفاوض

لم تكن هناك قيادة لهذه المجموعة، لأن القيادات تم توقيفها في النقطة السابقة، وبعضهم كان غير متاح عبر الهاتف. ريما كانوا مطاردين. أثار ذلك حنق بعض المتضامنين. ولكن الأهم، أنه لم يكن هناك مَن يستطيع التفاوض أو اتخاذ قرار يلزم المجموعة.

خارج دائرة العنف كان القبض العشوائي مستمرًا، حين خرجت بعد عناء وجدت ميلاني تجلس على رصيف بعيد. سألتها هل ستعود إلى القاهرة بعد كل هذا العنف؟ كانت مُحبطة من غياب التنظيم، لم يؤهلها أحد لما حدث. قالت بإصرار "لقد أتيت هنا للسير إلى غزة. أنا محبطة جدًا. مستعدة للاعتقال ومستعدة لدفع الثمن، ولكني لم آتِ للصراع من أجل التخييم في الإسماعيلية. أريد السير باتجاه غزة، ولو لم ننجح اليوم سننتظر ظهور المنظمين ونرى ماذا سنفعل غدًا، ولكننا لم نقطع كل هذه المسافة فقط لنعود".

لم تكن للحرب التي اندلعت بين إسرائيل وإيران فجر اليوم ذاته أهمية كبيرة بالنسبة لهم، قال لي أحدهم "هناك دائمًا حدث عالمي كبير جدًا ومهم جدًا، وكل هذه الأحداث لا توقف الاحتلال ولا الإبادة، فلماذا يتوقف الضغط من أجل إنهاء هذه المأساة بسبب قرار إسرائيل شن حرب على إيران، بالعكس. هذا أدعى لإدخال المساعدات لغزة ووقف المقتلة".

سألت ميلاني لماذا تضغطون على مصر؟ ما الذي تظنون أنها تستطيع تقديمه؟ قالت "نحن لا نريد الضغط على مصر، لكننا نتعشم في أن تسمح لنا بالسير نحو رفح، كل ما نريده هو الضغط على إسرائيل وإظهار الدعم لفلسطين، لا يمكن لأحد أن يتحمل استمرار الإبادة ويقف مكتوف الأيدي".

لماذا لا تذهبون إلى إسرائيل إذن وتعتصمون في المطار؟ قالت "أغلب المنظمين على قوائم ترقب الوصول في إسرائيل بالفعل، وهناك لن يسمحوا لنا بأي شيء، لن يرانا أحد أصلًا. لدينا عشم في مصر لأن موقفها أفضل بكثير من بقية الدول العربية. نحن لا نريد إلحاق ضرر بمصر، فقط نريد دعم غزة". 

في الحادية عشرة قررنا المغادرة عائدين إلى القاهرة، قبل أن تنتهي الليلة بالفض العنيف للمئات الذين تجمعوا في الإسماعيلية، وحشرهم في أوتوبيسات وميكروباصات أعادتهم إلى القاهرة. هناك عقدت الوفود المختلفة اجتماعات أونلاين في المساء ليراجع كل وفد عدد المصابين والمفقودين، وقرروا الانتظار حتى تنتهي عطلة نهاية الأسبوع لإعطاء فرصة للمنظمين للتفاوض مع السلطات المصرية.