برسوم يبحث عن وظيفة.. أول تحريض ثوري ناعم في عهد الملكية
صديقان أحدهما مسلم والآخر مسيحي. يعانيان من الجوع والفقر. يقودهما الحظ إلى وجبة غداء مع صاحب بنك ثري تنتهي بالقبض عليهما. هذا مختصر لقصة فيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" أواخر عام 1923، ويصنفه البعض أول فيلم مصري روائي صامت في التاريخ.
لا تقتصر أهمية برسوم على الناحية الفنية لما يحمله من توثيق بدايات صناعة السينما في مصر، بل من الناحية التاريخية إذ ينقلنا إلى حقبة زمنية لم تصلنا منها إلا عدد محدود من اللقطات المصورة؛ بماذا يخبرنا هذا الشريط السينمائي عن مصر القرن العشرين؟ وكيف يُنظر إليه اليوم؟
https://www.youtube.com/watch?v=oK9_dze_Nd0&t=8sسيرة الفن والسياسة
تتقاطع قصة محمد بيومي، مؤلف الفيلم ومخرجه ومصوره، مع محطات وطنية مهمة. فالفتى الذي وُلد في الثالث من يناير/كانون الثاني عام 1894 بمدينة طنطا، انضم في سن مبكرة إلى شباب الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، وتشبع بالأفكار المعادية للاحتلال البريطاني.
سرعان ما ظهرت نزعة بيومي التمردية بمجرد تخرجه من المدرسة الحربية فبراير/شباط عام 1915؛ ما بين تحريض الضباط المصريين في الأورطة الرابعة في السودان على رفض التطوع شبه الإجباري في حملة الدردنيل، وتحريض الضباط والجنود المصريين على رفض أداء التحية العسكرية للضباط البريطانيين، بالإضافة إلى رفض استبدال العمامة الهندية بالطربوش ما يظهر المصريين محتلينَ للسودان، وغيرها من المواقف التي ترفض استغلال السلطة والنفوذ في صفوف الإدارة البريطانية.
نتيجةً لهذا كلِّه أُحيل مؤلف برسوم إلى الاستيداع في 19 أبريل/نيسان عام 1918، ولم يمر كثيرُ وقتٍ حتى اندلعت ثورة 1919 التي انخرط فيها وتبرع بـ25 جنيهًا للوفد المصري، وشارك بأشعاره التحريضية ضد الاحتلال، ومنها هذه الأبيات التي أوردها وثائقي وقائع الزمن الضائع عن سيرة محمد بيومي:
أوعى تسمع أو تصدق قول النبي مهما قال
مصر شبعت من وعودهم مصر شبعت احتلال
مصر غضبت للحقوق مش بتطلب مستحيل
يا النبي فوق وروق انت فهمك ليه تقيل
في سبيل مصر العزيزة ورناك أكبر دليل
شوف كهولنا شوف شبابنا شوف صليبنا والهلال
مستحيل رايحين نصدق قول النبي مهما قال
يا ابن مصر اوعاك تسلم ده انت بالروح مش بخيل
موت شهيد علشان ولادك موت شريف لتعيش ذليل
للوطن واصل جهادك ضد حكم الاحتلال
وأوعى تسمع أو تصدق قول النبي مهما قال
بدأت مسيرة بيومي السينمائية بسفره إلى أوروبا لتعلم أصول الصناعة، وبعودته إلى مصر عام 1923 أطلق أسس ستوديو آمون وأصدر جريدة له بالاسم نفسه استهلت عملها بتغطية عودة الزعيم سعد زغلول من المنفى في سبتمبر 1923.
جاءت افتتاحية الجريدة شريطًا يظهر استقبال المصريين للزعيم سعد زغلول لدى عودته من منفاه الثاني في جزيرة سيشيل سبتمبر/ أيلول 1923، وتحمل اللوحة الأولى عبارة "أول شريط يقوم بإدارته وعمله مصري وطني".
تخللت رحلة بيومي السينمائية هواياتٌ أخرى مثل التصوير الفوتوغرافي والزيتي وكتابة الشعر وصناعة الملابس والآثاث، وشهدت محطات مهمة مثل المساهمة في تأسيس استوديو مصر وإنشاء المعهد المصري للسينما، وتخللها على الجانب الآخر قدرٌ كبيرٌ من الخذلان والإنكار.
هلال وصليب
خرج "برسوم" إلى النور في وقت امتلك فيه المصريون زمام المبادرة وعملوا على التخلص من النفوذ الأجنبي، حيث أدت ثورة 1919 إلى صدور تصريح 28 فبراير/شباط 1922 الذي أعطى مصر استقلالًا منقوصًا ومنح السلطان فؤاد لقب الملك فؤاد الأول، وفي العام التالي صدر دستور 1923 الذي أجريت على أساسه أول انتخابات برلمانية في يناير 1924 واكتسحها حزب الوفد.
تطغى هذه الأجواء على الفيلم، الذي يعد ثاني أعمال محمد بيومي السينمائية وأول أعماله الروائية، فنشاهد برسوم وهو يستيقظ من نومه في غرفة يحمل أحد جدرانها شعار "فليحيا الارتباط" في إشارة إلى الترابط بين المسلمين والمسيحيين.
كما نرى الشيخ متولي وهو يتصفح الجرائد أمام صورة الزعيم سعد زغلول الذي "جمع حوله بغير منازع الغالبية العظمى من الأمة على اختلاف طبقاتها وطوائفها"، كما كتب عنه المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه في أعقاب الثورة المصرية.
الجوع كافر
يتصفح الشيخ متولي الجرائد التي تلقيها امرأةٌ من نافذة منزلها في محاولة لمراوغة الجوع، ثم تظهر على الشاشة عبارة "الجوع كافر"، وبينما يغط برسوم في نومه يستولي صبيٌّ على رغيفه الذي يستقر في نهاية الأمر بيد الشيخ متولي.
تشير هذه المشاهد إلى واقع اجتماعي واقتصادي صعب تتبع جذوره الباحثة الدكتورة نسمة سيف الإسلام سعد في كتابها فقراء مدينة القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، حيث تشير إلى أن الطبقات الدنيا كانت تشكل غالبية سكان القاهرة منذ القرن الثالث عشر، وكانت تضم الباعة الجائلين والحمالين والحمارة والخدم والمتسولين وعمال اليومية، وزاد عليهم مع تولي محمد علي حكم مصر شريحة عمال المصانع الذين شكلوا البنية الأساسية لفقراء القاهرة في العقود التالية.
عانت هذه الطبقات من ضغوط اقتصادية طاحنة في عهد خلفاء محمد علي، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 تدهورت أحوال البلاد بصورة مفزعة، حيث ضرب الفقر قطاعات واسعة من المجتمع وانتشرت السرقة والاختلاس والقتل والتسول نتيجة ارتفاع أسعار المعيشة، كما فقد العديد من العمال وظائفهم وراحوا ينظمون المظاهرات التي شهدت صدامات عنيفة مع الشرطة. وبالرغم من انتهاء الحرب عام 1918 فإن نفقات المعيشة حافظت على معدلها التصاعدي الذي زاد من معاناة الفئات الفقيرة.
كما ترسم لنا الباحثة في كتابها صورةً للآثار العمرانية والاجتماعية لظاهرة الفقر في المجتمع المصري خلال هذه السنوات مثل هجرة سكان الريف إلى المدن التي أدت إلى تكون العزب والمستوطنات العشوائية على أطراف القاهرة، واتخاذ بعض الفئات المهمشة المقابر مكانًا للسكن، بالإضافة إلى الصراع على الموارد والغذاء في أوقات الأزمات الاقتصادية.
مجتمع يرتدي الأحذية
تلتقط كاميرا محمد بيومي لقطات لمصريين حفاة كانت تميزهم أعين الأجانب بسهولة في ذلك العصر والعصور التي تسبقه، ففي كتابه An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians يوثق المستشرق إدوارد وليم لين ظاهرة الحفاء بين فقراء مصر في القرن التاسع عشر، حيث يصف ملابس العامة بأن "الكثيرين أفقر من أن يكون لديهم أي غطاء رأس آخر غير الطاقية - لا عمامة، ولا حتى سروال أو أحذية".
ارتبطت هذه الظاهرة بالحالة الاقتصادية وبظروف العمل في الحقل بالنسبة للفلاحين، ونظرًا لآثارها السلبية على الصحة العامة وتسببها في عدوى الإنكلستوما، دعا الملك فاروق إلى القضاء عليها بعد شهور قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية، فتأسست اللجنة المركزية لمكافحة الحفاء في 12 فبراير 1941، ووضعت على عاتقها توزيع الأحذية اللازمة على الحفاة خاصة تلاميذ التعليم الإلزامي الذين أثبتت الإحصاءات أن عددهم مليون تلميذ وأن الحفاء منتشر بينهم بنسبة 90%.
تبرع الملك فاروق بـ2000 جنيه إلى اللجنة التي باشرت جمع التبرعات من الأفراد ميسوري الحال والموظفين والوزارات والهيئات الحكومية في حساب ببنك مصر تحت اسم "تبرعات مكافحة الحفاء"، وكانت النتيجة توزيع عدد كبير من الأحذية على شرائح واسعة. لكن هذا المشروع لم يكن كافيًا للقضاء على الظاهرة بسبب عدم قدرة المصانع المحلية على توفير كميات الأحذية المطلوبة في الظروف الخاصة التي فرضتها الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل أساسي على التبرعات المتقطعة.
قاهرتان
لا تتوفر معلومات عن أماكن تصوير "برسوم"، لكن الكاميرا تلتقط صور مبانٍ مرتفعة وشوارع واسعة تجمعُ بين الحناطير والسيارات الحديثة (الأوتومبيل) التي بدأت في الانتشار بشكل تدريجي مطلع القرن العشرين وأدت إلى تحديث شبكة الشوارع في العاصمة بالتعاون مع خطوط الترام.
يظهر أحد أعمدة الإنارة التي تشير المراجع إلى أنها انتشرت أيضًا بشكل تدريجي خلال هذه الفترة، ففي عام 1927 بلغ عدد المصابيح في الشوارع 9 آلاف و986 مصباح غاز و330 مصباحًا كهربائيًّا، بزيادة ثلاثة أضعاف عن الكمية التي كانت موجودة في عام 1902.
لكن هذا التحديث لم يتوزع بشكل متكافئ على جميع أحياء القاهرة التي انقسمت إلى أحياء وطنية تضم الطبقات الوسطى والدنيا مثل الأزبكية والجمالية والوايلي وبولاق والدرب الأحمر وشبرا والسيدة زينب، وأحياء أوروبية مثل جاردن سيتي والزمالك.
وبينما عانى عدد كبير من الأحياء الأولى من الفقر وضعف الخدمات كالصرف الصحي والإنارة وانتشار القاذورات وارتفاع الكثافة السكانية وتصدع المنازل وعدم القدرة على الانسجام مع شبكة المواصلات المتطورة، تميزت الأحياء الثانية التي كان يقطنها الأجانب وكبار رجال الدولة بالنظافة والنظام حيث كانت تكنس وترش يوميًا.
بين السينما والواقع
ينتهي الفيلم بمشهدِ شرطيٍّ يُوقظ الصديقين النائمين في الشارع بعد وجبة الغداء الثقيلة وكأنه نذير تغيير سيحصل، وهو ما لم يتحقق إلا بعد سنوات، حين سقط النظام الملكي على يد حركة الجيش المعروفة بالضباط الأحرار.
سارع بيومي إلى تأييد الحركة والاتصال باللواء محمد نجيب الذي كان يحمل له تقديرًا خاصًا لدوره في الجيش، فوعده بتكريمه ومساعدته على استرداد حقوقه، لكن مع إبعاده لاحقًا عن الحكم فقدَ مخرج برسوم الأمل في رد الاعتبار إليه.
مع اندلاع العدوان الثلاثي عام 1956، تطوّع محمد بيومي في كتائب مديرية التحرير، ثم انزوت سيرته بعد ذلك، ومضت سنواته الأخيرة في صمت خصوصًا مع تدهور صحته وضعف بصره وإصابته بالشلل النصفي ليرحل بهدوء في يوليو/تموز 1963 في العنبر المجاني بمستشفى المواساة بعد حياة حافلة وثق فيها بكاميراته ولوحاته وأشعاره عصرًا كاملًا، سواء عبر قصة برسوم وصديقه أو غيرها من القصص المسجلة على شرائط مفقودة ضاعت في زحام الأيام.



