
ابتسامة مؤجلة.. ناجيات من غزة في معركة مع التشوه والعزلة
تحاول إسلام جبريل استعادةَ أسنانِها التي فقدتها في الحرب بعدما أصيبت هي وزوجها وطفلها الوحيد بصاروخٍ إسرائيليٍّ استهدف أحد مراكز الإيواء وسط قطاع غزة.
قُتل زوجُ إسلام وتركها وحيدةً تصارع الفقد والتشويه بعدما لحقت إصاباتٌ مباشرةٌ بمختلف أنحاء جسدها وأخبرها الأطباء أن 60% تعرَّض لحروق من الدرجة الثالثة، كما فقدت أسنانها جراء إصابة مباشرة في فكيها. وتعرض صغيرها لإصابات بالغة.
تحاول إسلام ذات الـ27 عامًا التي انتقلت إلى مصر لتلقي العلاج هي وطفلها ذو الـ7 سنوات، بكل ما تستطيع، استعادةَ بعض حياتها ومعه أثرٍ من جمالها، وإن كان هذا لا يزال عصيًّا، فترددها على المؤسسات العلاجية لا يمنحها قليلًا مما فُقد، "ما كنت أتخيّل إنو الجمال اللي حافظت عليه سنين يصير ذكرى. بلحظة قصف، راحت حياتي، وراح جمالي مع زوجي"، تقول لـ المنصة.
ليست إسلام وحدها؛ فوسط زحام القاهرة ثمة وجوهٌ لفلسطينيات يعشن في صمت ورفض وخوف، يحاولن ترميم وترقيع ما مزقته الصواريخ عبر التردد على عيادات التجميل المختلفة للخضوع لجلسات الليزر، وعلاج البشرة وزراعة الأسنان والشعر، وعلاج آثار الحروق وإزالة الشظايا.
يعرِّف هؤلاء عن أنفسهن بأنهن ناجيات من الإبادة لكنهن ما زلن يخضن معركةً قاسيةً ضد التشوه والعزلة وفقدان الهوية؛ يرقدن في غرف التجميل، ليصبحَ الترميمُ مقاومةً من نوع آخر وأحد أشكال الصمود.
حسب تقرير أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في مارس/آذار الماضي، فإن نساء قطاع غزة يتعرضن لأعباء جسيمة واستهداف ممنهج في ظل حرب الإبادة المستمرة، وتتجاوز معاناتهن القتل والتهجير لتشمل أزمات صحية ونفسية عميقة، في ظل النقص الحاد في أبسط مقومات الحياة.
علاجٌ مع وقفِ التنفيذ
ولدت نور أبو طحان، 23 سنة، بعيونٍ زرقاءَ صافيةٍ، كما تقول لـ المنصة "لما انولدت كانت فرحة أهلي كبيرة، عشان كانت عيوني بلون البحر، وهاي شغلة مش مألوفة بعيلتنا البدوية اللي عيونهم بين الأسود والبني. بس أمي دايمًا كانت تحكي لي إنو الزرقة ورثتها من سِتّها لأمها".
تضيف "كانوا ينادونني بأم العيون الزرق. بس الحرب خدت مني اللقب وخدت عيوني. إصابة مباشرة بعيني اليمين دمّرتها، وعملت عمليات بغزة بس عشان أنقذ حياتي. بعد هيك حولوني على مصر لعملية تجميل، مش رح ترجع لي النظر، بس على الأقل ترجع لي شوي من شكلي الطبيعي".
عند وصولها إلى مصر في ديسمبر/كانون الأول 2023، حوّلت إلى المستشفى الأميري بالإسماعيلية، إلا أنه تبين لاحقًا أن المستشفى لا يمتلك أي إمكانات فنية أو مادية لإجراء العملية المطلوبة، فوفر لها الهلال الأحمر شقةً سكنيةً كنوع من الاستضافة، "وخسرت فرصتي في العلاج".
لكنَّ القدر تدخل، حيث عرفت نور صدفةً بإحدى المبادرات التي تساعد الجرحى والمصابين خلال تجمع للفلسطينيين، وبعد أن روت قصتها تكفلت المبادرة بمساعدتها لإجراء عملية تجميلية لزراعة عين زجاجية تتشابه إلى حد كبير مع عينها الأخرى، بحيث لا يلحظ الناس فقدانها.
تشكل النساء والأطفال نحو 70% من ضحايا الإبادة في غزة. ووفق تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فإن الناجيات من الموت تعرضن لجروح عميقة وإصابات جسيمة غيرت مجرى حياتهن للأبد، وأفقدت آلافًا منهن أطرافهن، بينما تشوهت أجسادهن بالحروق والإصابات، تاركةً ندوبًا لا تندمل مع ندرة الأدوية والعلاج.
حسب وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، فإن النساء والأطفال يشكلون ما نسبته 47% من إجمالي حصيلة القتلى الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر. إذ قُتلت أكثر من 28,000 امرأة وفتاة، معظمهن من الأمهات، تاركاتٍ وراءهن أطفالًا وكبار سنّ بلا حماية أو رعاية. وتتكبد النساء مشقّة الحمل في ظل غياب الغذاء والماء، ويُضطررن إلى الولادة في ظروف بالغة الخطورة، من دون ماء أو رعاية طبية، وفق تقرير لهيئة الأمم المتحدة للمرأة.
وتكشف ناشطة حقوقية، فضلت عدم نشر اسمها، لـ المنصة أنها تلقت خلال الشهر الماضي فقط عشرات المناشدات من نساء غزيات أصبن خلال القصف، ويطلبن مساعدة في استكمال علاج إصابات تُصنّف على أنها "تجميلية"، ولا تندرج ضمن البروتوكولات العلاجية المعتمدة من وزارة الصحة المصرية للمصابين القادمين من غزة.
الناشطة التي شاركت منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في عدد من المبادرات الإنسانية، عملت على توجيه بعض هؤلاء النساء إلى مستشفيات ومراكز علاجية خاصة وأهلية خارج النظام الحكومي، بالتعاون مع متبرعين مصريين أبدوا استعدادهم لتقديم الدعم والمساعدة لأهل غزة.
حلم الضفيرة
طال مشوار نسمة زعرب، 21 عامًا، في عمليات التجميل من أجل استعادة ضفائرها التي فقدتها بعد إصابة مباشرة في البطن والرأس، مما استدعى نقلها إلى قسم الجراحة العامة بأحد مستشفيات غزة بشكل عاجل، وهناك خضعت لعمليات لإنقاذ حياتها، ثم جرى تحويلها إلى مصر لإتمام العلاج.
"منطقة الإصابة براسي ما عاد يطلع فيها شعر. الدكاترة حكولي إني بحاجة لزراعة شعر، ومن وقتها حولوني على مصر عشان أعمل العملية". ورغم أنها وصلت مصر في فبراير/شباط 2024 فإنها حتى اليوم لم تتمكن من إجراء العملية "انصدمت لما وصلت، واكتشفت إنو وزارة الصحة المصرية ما بتغطي تكاليف عمليات التجميل، فحولوني على بيوت الاستضافة اللي حددتها الوزارة" تقول نسمة لـ المنصة.
تلجأ النساء الفلسطينيات إلى مبادرات فردية وجمعيات أهلية أو حتى تمويل شخصي لاستكمال علاجهن في مصر
يشير الدكتور محمد ندا اختصاصي جراحة التجميل والترميم إلى أن مثل هذه العمليات التجميلية الضرورية تحتاج فترات علاج طويلة وتكاليف عالية جدًا، و"أغلب الناجيات ما يقدروش عليها خصوصًا إنهم جم القاهرة بتحويلات طبية على نفقة الدولة المصرية".
يؤكد لـ المنصة أن المستشفيات الحكومية المصرية لا تغطي تكاليف عمليات التجميل والترميم غير الطارئة، لذا تلجأ النساء الفلسطينيات إلى مبادرات فردية، وجمعيات أهلية، أو حتى تمويل شخصي لاستكمال علاجهن، وهذا يعني انقطاعهن عن العلاج لفترات متباعدة بسبب عدم توفر تكاليف العلاج.
بصمات لا تمحى
بدوره استقبل الدكتور أحمد البدري، استشاري جراحة التجميل والترميم بالمهندسين، خلال عام 2024 وحده نحو 40 حالة من غزة، غالبيتها لنساء أو شابات صغيرات، وإحداهن لطفلة لا تتجاوز العاشرة من العمر.
"للأسف الحرب تركت بصمتها على كل جزء من أجساد النساء الناجيات من غزة، وهي بصمات لا يمكن أن تمحوها عمليات التجميل والترميم في مجملها، فغالبيتها ناتجة عن إصابات مروعة لا يمكن للعقل البشري أن يتخيلها"، يقول لـ المنصة.
يذكر استشاري الترميم إحدى الحالات التي "فقدت كل أسنانها تقريبًا بسبب إصابة مباشرة في الفك، وأجرينا لها حتى الآن أربع مراحل من الزراعة والترميم، ولا تزال بحاجة إلى عام كامل لاستعادة الابتسامة فقط".
يزيد من صعوبة رحلة العلاج الوضع النفسي للمريضات فـ"الكثيرات يدخلن العيادة وهن لا ينطقن بكلمة واحدة. يرفضن الحديث عن التشوه ويرفضن النظر إلى أنفسهن، ويصدمن كون هذه العمليات الترميمية لن تعيد لهن جمالهن كما كان في السابق"، حسب البدري.
وهو ما تؤكده الدكتورة ريم حسن أخصائية جلدية وتجميل بالليزر فـ"خلال الجلسة بسمعهم بيتكلموا عن وجعهم من فقد جمالهم، وكتير منهم بيعانوا من فقدان كامل للثقة بالنفس، ونوبات بكاء متواصلة على اللي خسروه سواء أهل أو جمال"، مضيفة بأسف "كتير بقوا بتمنوا يموتوا أرحم من الألم اللي حاسين بيه".
تشير الدكتورة ريم إلى أن غالبية الحالات تحتاج إلى عمليات تقشير عميق بالليزر وإزالة الندوب وتفتيح البقع، وعلاج الحروق، مؤكدة أنها اكتشفت لاحقًا أنها ليست الوحيدة التي لديها حالات من هذا النوع، ففي إحدى الفعاليات الخاصة بالتجميل صدمنا بعدد الحالات التي تتردد على عيادات التجميل بالقاهرة.
الخوف من المرايا
لا تحصر الدكتورة هبة ظريفة، اختصاصية العلاج النفسي، وإحدى الناشطات المهتمات بعلاج الصدمات النفسية لدى النساء الفلسطينيات في أماكن النزوح منذ بداية الحرب التشوهات التي طالت وجوه وأجساد الغزيات في كونها مجرد قضية جمالية، بل هي ضربة قاسية للهوية النفسية والاجتماعية للمرأة في وقت صعب للغاية بالنسبة لهؤلاء النساء اللواتي فقدن بيوتهن، وربما أشخاصًا مقرّبين من عوائلهن.
تميل الناجيات بتشوهات ظاهرة من آثار الحرب إلى العزلة الاجتماعية بسبب الخجل من نظرات الناس أو خشية من الأسئلة الجارحة
تشير الاختصاصية النفسية إلى أن قدرات النساء اللواتي تعرضن للتشوهات خلال الحرب تختلف ليس فقط وفقًا لما تمتع به كل واحدة، وإنما يلعب حجم التشوه ومكانه في الجسد دورًا مهمًا في صحتها النفسية وطريقة تواصلها مع الآخرين، فبقدر مقدرتها على إخفاء التشوه، تكون مقدرتها على التأقلم.
وتوضح لـ المنصة أن غالبية النساء يعانين مما يُعرف بـ"اضطراب ما بعد الصدمة المرتبط بصورة الجسد"، وهو اضطراب شديد التأثير ينتج عن فقدان الثقة بالنفس، وتشوه الإدراك الذاتي، ما يؤدي إلى العزلة والاكتئاب، ونوبات بكاء متكررة.
وتتابع "قابلت نساء بيبعدوا عن الحكي والمرايا لأسابيع، وبيدخلوا بنوبات بكي كل ما يشوفوا صورة إلهم بالصدفة، كأنهم بينكسروا من أول وجديد".
وتنوه لأن أحد أهم الأسباب التي تزيد من تفاقم الحالة نفسيًا لهؤلاء النساء تأخر العلاج التجميلي أو عدم نجاعة العلاج، خاصة أن حجم التشوهات لدى الغزيات مختلف تمامًا عن كثير من التشوهات الأخرى الناتجة عن الحوادث العادية.
تميل الناجيات بتشوهات ظاهرة من آثار الحرب إلى العزلة الاجتماعية بسبب الخجل من نظرات الناس أو خشية من الأسئلة الجارحة. لكن الطبيبة التي تتطوع بوقتها لعلاج الناجيات من الحرب تستدرك أن "الناجيات يصنعن صمودهن الخاص، كونهن خسرن هذا الجمال في مرحلة المقاومة وفداءً للوطن، معتبرات أجسادهن شاهدة على حربٍ كبرى ومعركة غير متكافئة. كثيرات عبرن عن شعور غريب بالرضا، وكأن إصابتهن جزء من ضريبة الشهادة، وموقف شخصي في مقاومة الاحتلال".
تقف مئات النساء الفلسطينيات أمام مرايا غير عادلة يرين ما تركته آلة الحرب الإسرائيلية على أجسادهن ووجوههن وذاكرتهن المحملة بالوجع، وبينما تنتظر نسمة مَن يساعدها في دفع تكاليف العملية الباهظة لاستعادة ولو جزء مما فقدته بعد تجربة الموت المحقق، وتتردد إسلام على عيادة طبية متخصصة في زراعة الأسنان من أجل استعادة ابتسامتها فقط.