تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
ميساء مع رضيعها.. في مواجهة غزة ما بعد الإبادة

ميساء وحدها تحت سماء الإبادة.. عامان لم ينجُ منهما سوى الحكاية

منشور الأحد 14 كانون الأول/ديسمبر 2025

"عيناي مفتوحتان لكني لا أبصر الطريق"؛ تصف الصحفية الفلسطينة ميساء جبر رحلةَ عامين قضتهما تحت الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، واضطرت خلالهما للتنقل بين أكثر من مكان نزوح وعانت من فقدان زوجها لتصبح أرملة وحيدة تعول أطفالًا ثلاثة.

لا ترى ميساء ولا تتذكر أي تفصيل من هاتين السنتين "غير تقطع السبل"، كما تقول لـ المنصة فـ"طريق النزوح طويل وشاق جدًا فمن يجر وجعه وفقده لا يمكن أن يحفر بذاكرته غير ذلك".

تحكي ميساء قصتها منذ غادرت بيتها بمشروع بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، وكيف أفقدتها الحرب زوجها و15 فردًا من أسرته في قصف على المنزل الذي يعيشون فيه، لتحيا هي وأطفالها شاهدًا على مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

نجت ميساء التي توقفت عن ممارسة عملها الصحفي من الحرب التي كان الصحفيون في طليعة من يستهدفهم جيش الاحتلال، إذ قتلت آلة الحرب الإسرائلية 257 صحفيًا في أعلى حصيلة يسجلها أي نزاع مسلح ضد الصحفيين عبر التاريخ.

أثرًا بعد عين

درست ميساء الصحافة في الجامعة الإسلامية بغزة وعملت بعد تخرجها في التحرير الصحفي، مركزة على قضايا النساء بشكل خاص.

تزوجت في عام 2016 من إياد أبو صالح، الذي كان يملك محلًا لبيع أسماك وطيور الزينة "رزقت بكنان بعد عام من زواجي وغيث بعد ثلاثة، كان بيتنا دافي وحياتنا هادية، ما اتوقعت لو للحظة أنني هابقى لوحدي، وإن طفلي الثالث راح يتولد يتيم".

استمر ذلك حتى غيّرت حرب الإبادة كل شيء فتبدد الاستقرار وهُدم البيت على رؤوس ساكنيه.

في غزة يعمل نحو 2000 صحفي، وفق إحصائية للجنة حماية الصحفيين (CPJ) تحت ظروف قاسية ما بين قتل واستهداف وإصابة وتضييق وحصار وجوع ومنع. 

تضم ميساء صغيرها "فجر" إلى صدرها محاوِلة تهدئة بكائه، وتكمل سرد قصتها "بعد بدء الحرب بأسبوع نزحت أنا وأسرتي الصغيرة إلى الجنوب، بالتحديد إلى مخيم النصيرات في وسط القطاع حيث يسكن شقيق إياد، لكن لم نبق سوى أسبوع لنعود بعدها إلى مشروع بيت لاهيا".

بسبب قسوة النزوح، قررت ميساء وزوجها البقاء في شمال القطاع مهما كلف الثمن "لم أكن أعلم حينها أن الثمن سيكون زوجي وما تبقى من أمل في الحياة".

"مرت أيام الحرب ثقيلةً جدًا، حاولتُ الصمود في مشروع بيت لاهيا شمالًا، مرت المجاعة الأولى في شهر مارس/آذار 2024 حينها كنا في شهر رمضان أيضًا، كنت أتألم على أطفالي، فالكبار يعلمون ويفهمون ماذا تعني المجاعة ويستطيعون التحمل أو إخفاء وجع أمعائهم الخاوية، لكن الصغار لم يفهموا لماذا حرموا من الطعام"؛ ينضم الصغير كنان، 8 أعوام، إلى والدته منصتًا لحديثها. 

في ظل الحرب التي أثرت على شبكة الإنترنت والاتصالات، فقدت ميساء قدرتها على العمل. كانت تعمل فريلانسر في مركز الإعلام والتنمية المجتمعي "حاولت جاهدة أواصل عملي الصحفي، لكن الوضع في شمال القطاع كأن كل شيء هناك يحاول انتزاع روحك".

ليست ميساء وحدها من قلصت الحرب قدرتهم على العمل الصحفي، إذ وثقت المنصة اعتمادًا على استطلاع رأي إلكتروني شارك فيه 169 صحفيًا وصحفيةً، من المشاركين في تغطية العدوان على قطاع غزة، أن 92.5% منهم فقدوا معداتهم الصحفية خلال التغطية.

أكتوبر/تشرين الأول 2024، اقتحم جيش الاحتلال مشروع بيت لاهيا، وأمام عدسات الكاميرات، حاصر مستشفى كمال عدوان، وبدأ بقصف المربعات السكنية المحيطة، من ضمنها منزل ميساء.

بدأ القصف عشوائيًا بالدبابات. ليلتها قررت ميساء وزوجها النزوح "بعد ليلة قذائف عمياء، كان لمنزلي نصيب منها، وأصيبت والدة زوجي، رحنا على بيت خالي في محاولة للابتعاد عن الخطر". فيما قرر والدا ميساء وإخوتها النزوح من الشمال إلى وسط القطاع، "لم يتبق لي سوى أسرة زوجي".

لم تبتعد الأم المكلومة عن الخطر بالقدر الكافي في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. توقفت فجأة عن الكلام وسبقتها الدموع قبل الكلمات "لم أكن أعلم أن الحياة تنتهي بالتدريج، كأن قلبي غرفة وانطفأت، في ذلك اليوم وبعد خروجي من المنزل بثلاثة أيام، قرر زوجي إياد العودة للمنزل ليطمئن على والدته المصابة وأخوته، وأخد معه ابن خالي، ذهبوا ولم يعودوا إلى اليوم".

قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المنزل على من فيه. علمت ميساء بالخبر، بقي لديها أمل في أن يكون زوجها تعطل في طريقه فلم يطله القصف، لكن أملها لم يدم طويلًا. 

نزوح بلا روح

تضع الأرملة الشابة صغيرها في سريره وهي تضيف "لأول مرة أسير بلا هدف. أجر طفليَّ الاثنين وثالثهما كان في أحشائي دون أن أعلم إلى أين، لم تشرق شمس ذلك اليوم ولكني لم أفقد الأمل".

أجبرت الأوامر جميع سكان مشروع بيت لاهيا على الخروج بعد ثلاثة أيام من المجزرة، ما اضطر الزوجة للمغادرة، "رغمًا عني غادرت أردت أن أبحث عن زوجي ربما كان مصابًا ولم يستطع اللجوء لأحد، ربما ما زال حيًا تحت الأنقاض".

لم يُسمح لأحد بالعودة، وسمعت ميساء من شهود رأوا زوجها يدخل المنزل قبل قصفه، ففقدت الأمل، وتأكدت من وفاته "كان آخر كلامه قبل أن يغادرنا انتبهي لحالك وللأولاد يا ميساء أنا مش مطول".

تنهمر الدموع من عيني الطفل كنان، يحاول إخفاءها بيديه. صمت جديد يخيم على المشهد لا يكسره سوى نداء ابن الجيران ليخرج كنان له، تكمل ميساء "خرجنا من بيت لاهيا عبر حواجز شيدها جيش الاحتلال خصيصًا لفلترة السكان من الرجال، لا يعبر سوى النساء والأطفال نحو غرب مدينة غزة، أما الرجال فقد أعتقلوا جميعًا إلا من كان حظه يفلق الصخر".

 لجأت الأم بأطفالها إلى المدارس التابعة للأونروا الموجودة غرب مدينة غزة في مخيم الشاطئ. حاولت مرة أخرى العودة للعمل الصحفي "لأساعد نفسي وأطفالي والانشغال ممكن يخفف عني شوية وجع".

لكن الإمكانات غير متاحة، "شبكة الإنترنت ما زالت غير موجودة إلا في أماكن معينة وقليلة جدًا وجميع الظروف حالت دون ذلك".

كما أن الصغار يبطئون حركتها ويعوقون حرية انتقالها لأماكن تتوافر فيها شبكة الإنترنت، ولم يكن أمامها سوى الاعتماد على مساعدات العائلة.

في محاولة لمساندتها اتصل بها والدها الذي كان نازحًا مع بقية أسرتها في جنوب القطاع؛ "فعليًا كنت لوحدي".

بدون وسائل اتصال ولا كهرباء، لا يستطيع الكثير من الصحفيين التواصل مع مصادرهم أو حتى إرسال تقاريرهم. في مثل هذه الظروف لا يصبح العمل الصحفي صعبًا فحسب بل شبه مستحيل. ما كان يُمكن تأكيده في ساعات صار يستغرق أسابيع أو شهورًا، وأحيانًا قد لا يُتاح التأكيد مطلقًا.

لم تتمكن ميساء من الاستفادة من المساعدات البسيطة التي تقدمها نقابة الصحفيين الفلسطينيين ومنها معدات بديلة للعاملين في الميدان وحقائب إسعافات أولية.

عاد أهل ميساء من الجنوب في 26 يناير/كانون الثاني 2025 بعد بدء سريان الهدنة ، لتنضم إليهم مع صغارها في مشروع بيت لاهيا حيث أقاموا خيمة بالقرب من ركام منزلهم؛ "شعرت أن جزءًا من روحي قد رُد لي بعد عودة أهلي، ظننت أنني سأستطيع رؤية ولو حتى رفات زوجي، ولكن ركام منزل من أربعة طوابق كيف لنا أن نتنشل من هم بداخله، حتى مع توجهي للمؤسسات وللبلدية، لم أجد لسؤالي مجيبًا".

استهدفت آلة القتل الإسرائيلية أفراد أسر الصحفيين الفلسطينيين وأقرباءهم، ودمرت المنازل فوق رؤوسهم، إضافة لسياسة التهجير القسري لمن نجا من القصف بالطائرات الحربية والمسيرات والصواريخ والقذائف المدفعية وهو ما يُفقد الصحفي كغيره روابطه الأسرية والاجتماعية ما أسماه عالم الاجتماع أورلاندو باترسون/Orlando Patterson الموت الاجتماعي للفرد وهذا يمثل أحد وجوه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.

بعد شهرين فقط من بدء الهدنة الأولى عادت الحرب، لتعاود ميساء النزوح مرة أخرى، وصلت مخيم الشاطئ  في20 مايو/أيار 2025، ووقتها "بدأ حملي بالاكتمال، وبدأت أشعر بالثقل الشديد، أشعر بالإعياء دائمًا مع انقطاع الطعام ودخول غزة بالمجاعة".

وفي 18 يوليو/تموز وبينما بلغت المجاعة مداها "رزقت بفجر بعد مخاض عسير"، لم يتوقف الألم عند هذا الحد "استمر بعدها نتيجة نقص الغذاء بجسمي".

لم تدمر الحرب على غزة البيوت، ولم تقصف الأرواح فقط، لكنها قطعت الطريق على الصحافة باعتبارها جسرًا بين الواقع والعالم الخارجي. ميساء، التي فقدت بيتها وعملها، خسرت جزءًا من الذاكرة الجماعية والإعلام الذي يوثّق للجريمة ويرفع صوت الضحايا.

"لم نستقر كثيرًا. جرَّب فجر النزوح للمرة الأولى بعد شهرين من ولادته"؛ الوجهة هذه المرة كانت مخيمات الإيواء في مدينة دير البلح يوم 12 سبتمبر/أيلول، حيث تستقر الأسرة إلى اليوم.

تبحث ميساء عن قلمها من جديد، "أبحث في هذه الأيام عن عمل في المجال الصحفي. بعد فترة عصيبة مررت بها ليس من السهل العودة، ولكني أحاول، كما أحاول العيش أنا وأولادي كل يوم".