
وقال له "يا ولد"
الطائفية في خدمة إسرائيل
في يوم 23 أغسطس/آب 1982، انتُخب بشير الجْمَيِّل، الزعيم العسكري الماروني للطائفة المسيحية، الموحَّدة قسرًا تحت سلطة ميليشياته "القوات اللبنانية"، رئيسًا للجمهورية. كان المشهد دالًا على عدد من الحقائق، من بينها هشاشة الديمقراطية اللبنانية ونظامها النيابي الطائفي واعتمادهما في تلك اللحظة على توازنات عسكرية متغيرة بطبيعتها بين الطوائف المختلفة، وكذلك ما يخص مستقبل المنطقة كلها؛ حيث تزامن خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان، مع انتخاب الرمز الأبرز للعلاقات المشبوهة بإسرائيل رئيسًا لهذا البلد العربي.
كان بشير الجميل مُجبرًا على زيارة رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن سرًا، ليدفع ليس فقط فاتورة دعم ميليشياته وتمويلها وتسليحها، والتدخل لصالحها خلال الحرب الأهلية، بل ومعها كذلك فاتورة الوصول للرئاسة بخريطة طريق إسرائيلية/كتائبية احتاجت سنوات من العمل والمجازر والتحالفات والانقلابات داخل الطائفة، وتضمنت غزو بلاده مرتين، وحصار نصف عاصمته وتدميرها وتجويعها.
ذهب بشير لإسرائيل بعد أسبوع من انتخابه، ليل 1 سبتمبر/أيلول، سرًا، وكانت زيارته الأخيرة. خرج منها مرتبكًا وعلى درجة عالية من التوتر والخوف، مُدركًا أن ما يطلبه بيجن قد يكلفه حياته؛ التوقيع على ورقة سلَّمها إليه، تتضمن نصَّ معاهدة سلام بين إسرائيل ولبنان، وتعهدًا من قِبَل بشير بتوقيعها رسميًا خلال الأسبوع الأول من توليه الرئاسة.
حاول بشير التملص والمراوغة، كأي فهلوي يجد نفسه أمام مأزق أكبر منه، وعلى أعتاب المرحلة الأصعب من حياته. طرح حجته؛ استلام منصبه رسميًا أولًا، ليوقع اتفاق السلام مع إسرائيل باسم الدولة التي سيرأسها، لا باسمه كفرد، أو قائد مسيحي، فكان نصيبه الإهانة. تعامل معه بيجن، حسب الكثير مما نُشر عن هذا اللقاء الأخير، باستعلاء وغطرسة، كأنه يعمل عنده، كأنه لا يزال ذلك الشاب الميليشياوي الطموح والمغامر، المُموّل من إسرائيل، وليس رئيسًا منتخبًا لبلد.
بعد هذا اللقاء بأسبوعين، تحديدًا في 14 سبتمبر، يُغتال بشير الجميل، وعدد من قادة ميليشياته بقنبلة وضعت في "بيت الكتائب"، حزب أبيه، وحزبه، وحزب أخيه وعائلته من بعده. فيقتحم الجيش الإسرائيلي العاصمة، وينفذ بالتعاون مع القوات اللبنانية مجزرة صبرا وشاتيلا، لتبدو وكأنها الانتقام العفوي من مقتل بشير. رغم أن جهة القتل كانت معروفة؛ هناك في دمشق، عقابًا على استبداله الولاء لإسرائيل بالولاء لسوريا. وإن كان بعض أنصار بشير، وبعد مقتله، وخلال عقود، ألحّوا وهم يشككون في جهة القتل، محاولين إلصاق الأمر بإسرائيل التي لم ينصَع لها بشير؛ فيبدو بطلًا.
الدولة الحامية
حكاية زيارة بشير الجميل الأخيرة لإسرائيل تستدعي لحظة اللقاء الأول بين نواة الميليشيات المسيحية اللبنانية ودولة الاحتلال. حُكى عنها وعن مبرراتها كثيرًا، وعن كيف قررت القيادة السياسية للطائفة المسيحية مطلع السبعينيات تجاوز الخط الأحمر، وبدء علاقاتها بإسرائيل. ومثلما تتم محاولة تجميل لحظة الاغتيال وتمويهها، لتبدو كأنها عقاب لبشير على صلابته وحكمته، تُجمِّل لحظة افتتاح العلاقات السابقة عليها بسنوات، باعتبارها كانت لحظة رعب المسيحيين.
اعتاد المُنظِّرون الطائفيون المسيحيون تصوير لحظة تدشين علاقة المتحكمين سياسيًا واقتصاديًا في أبناء طائفتهم بإسرائيل، على اعتبار أن اللجوء إليها كان خطوة خاطئة ربما، لكنه ليس خطيئة، اتخذت لحماية الطائفة من المحو أو الإبادة. في حين أن الطائفة نفسها لم تكن مُهدَّدة في مواجهة الزيادة العددية السنية والشيعية، حتى بعد اتفاق القاهرة الشهير الذي سمح للفلسطينيين بامتلاك السلاح وبالعمليات الفدائية انطلاقًا من لبنان.
ما كان مُهدَّدًا هو النظام الطائفي نفسه، الذي يضمن للقيادات الإقطاعية وشبه الإقطاعية للطوائف تميّزها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وسيادتها على من ينتمون للطائفة، والتحكم فيهم. تهديد جسده مشروع الحركة الوطنية للإصلاح، التي اكتسبت ثقلًا شعبيًا ستجهضه لاحقًا الحرب الأهلية، والميليشيات الطائفية، وإسرائيل، وحافظ الأسد.
يستدعي ما حدث من مجازر وعنف طائفي في الساحل السوري قبل أشهر، وتكرر في السويداء قبل أيام وما زال مستمرًا أثناء كتابة هذا المقال، وما بينهما من تفجير كنيسة مارإلياس في دمشق وأحداث ريفها، المستوى الرمزي لبعض اللحظات الفارقة في مسار النزاعات الطائفية والحروب اللبنانية، وإن تبدلت المواقع. فتُخوَّن الطائفة الدرزية على سبيل المثال، بينما يحاور الشرع سرًا إسرائيل، ويسعى لرضاها ورضاء كتلتها؛ الخليج والولايات المتحدة. لكنه يستدعي أيضًا، هذا العامل الأساسي الحاضر في كل النزاعات الطائفية في منطقتنا، بحكم وجوده نفسه؛ إسرائيل، الدولة الدينية العنصرية بامتياز.
لا تكتفي إسرائيل بالسعي لتفكيك الدول المحيطة بها، وإضعافها إن أمكن، بل أن تصبح مثلها؛ ترتكب عمليات إبادة أصغر، وجرائم مبررها الشعور بالتهديد في حين أنها في حقيقتها جرائم كره عنصري، بأكثر أشكاله بدائية وفجاجة وصراحة ضد المختلفين عن الهوية الحاكمة. وفي الوقت ذاته تدفع الأقليات لرؤيتها ملاذًا حاميًا لهم.
الدولة المتغطرسة
تقول بعض المرويات إن بشير الجميل أغضب بيجن بتملصه من التوقيع على هذه الورقة التي أعطاها له، فخاطبه بالقول "يا ولد". حاوَلت بعض المرويات المتعاطفة مع بشير، وللحفاظ على بعض الهيبة التي ارتبطت بصورته، تخفيف حدة الإهانة، بحجة الخطأ في ترجمة المعنى المقصود. خطأ يتم إلباسه عباءة تاريخية أسطورية، حوَّلت مجرى التاريخ اللبناني، لمجرد فهم ملتبس لكلمة قيلت في هذا الاجتماع السري الليلي، إن كانت "يا ولد"، أو "يا بُنيَّ" التي اعتاد بيجن أن يخاطب بها بشير.
حضرت الغطرسة الاستعمارية في كل اللحظات الفارقة التي يختار فيها الزعماء العرب الصلح مع إسرائيل
في الحالتين، فإن "يا ولد" و"يا بُني" لا تليقان بمخاطبة رئيس منتخب، ولو في انتخابات صورية، أُجبر فيها بعض النواب تحت تهديد السلاح على الذهاب للبرلمان لإكمال النصاب. لا يجوز استخدام أيٍّ من الكلمتين في عالم الدبلوماسية والسياسة، إلا لمخاطبة بشير الجميل ما قبل الانتخابات؛ زعيم الميليشيا الأقرب في ملامحها وممارساتها للتشكيل العصابي الطائفي، الذي يلجأ إلى إسرائيل لتُسلّحه وتُموّله في مواجهة القوى الوطنية والفلسطينيين، وفي مواجهة بعض القطاعات من طائفته.
حضرت الغطرسة الاستعمارية في كل اللحظات الفارقة التي يختار فيها الحكام أو الزعماء العرب، أيًا كان مجال الزعامة أو الرئاسة؛ بلد أو كانتون طائفي صغير، الصلح مع إسرائيل، أو التطبيع والتعاون معها. ليس فقط في حالة زعيم ميليشيا مسيحية، يُصوَّر كزعيم للمسيحيين، بل مع رؤساء دول لا يشكل فيها المكون الطائفي عنصرًا أساسيًا من تكوينها أو من هويتها الوطنية الأساسية، كمصر.
حرص بيجن على إهانة مصر والسخرية من السادات ثلاث مرات في يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد في البيت الأبيض؛ بإملاء تعديلاته على الاتفاقية من جانب واحد قبل ساعات قليلة من توقيعها. وبالادّعاء خلال حفل التوقيع، وأمام الكاميرات والميكروفونات والعالم كله، أن جدوده هم بناة الأهرام. وبالسخرية من أن السادات الذي كان يحزم حقائبه غاضبًا ليعود إلى مصر، فتحها من جديد بعد دقائق، ليبقى ويوقّع.
لا تتعلق المسألة بتركيبة بيجن الشخصية، أو بعجرفته وغطرسته كفرد، أو بزَهْوِه كونه أحد هؤلاء الرواد المغامرين، المسلحين، مؤسسي هذه الدولة الاستيطانية الحديثة في قلب الشرق. بل تتعلق بطبيعة غطرسة المستعمر نفسه، بجوهر شعوره بالتفوق على الآخرين، وتعاليه على الجميع، حتى من يساعدونه، فيراهم خدمًا لا حلفاء. مات بيجن قبل عقود، لكن عقيدة الغطرسة وتوجيه الإهانات للآخرين بقيت، وبالذات إن كان الآخرون يستخدمون المكون الطائفي أو الديني، الحاضر بحكم طبيعة بلداننا، كأداة، ليخلطوه بمطامحهم ومصالحهم، فيشكل مقتلهم.
الجولاني.. يا ولد
في حالة سلطة دمشق الجديدة، الهشة، التي بدلًا من أن تحاول تجاوز هشاشتها عبر المخرج الوحيد القادر على إنقاذها؛ مشروع وطني وديمقراطي متجاوز للطائفية، تغرق في ركاكتها وخيبتها وقلة خبرتها، وتحرص على أن تكون سلطة الطائفة السنية القامعة للآخرين، المنتقمة من الآخرين، في تغيير حاسم ومغامر لجوهر الدولة السورية العابرة للطوائف، لا تملك إسرائيل سوى الاستفادة من الهشاشة والركاكة، بتغذيتهما، واستثمارهما.
لم يصدق أحد أبدًا ادعاءات إسرائيل بالقلق على سلامة وأمن مسيحيي لبنان أو مصر، أو دروز سوريا. والجميع يعلمون أن هذه الادعاءات مجرد دعاوى إعلامية تستخدم لابتزاز الأطراف الأخرى، في محاولة الاستفادة من أزماتهم، وطائفيتهم، لإضعافهم أكثر، وليُشبهها الحلفاء والأصدقاء الجدد والمحتملون. ولكن يشبهونها بركاكة؛ فلا يتخطون حاجز الضعف، أو يطمحون في جعل تنوعهم الطائفي مصدر غنى ثقافي وهوياتي، مصدر قوة.
تكررت المفارقة اللغوية "يا ولد" أو "يا بُني" في إحدى العبارات الصادرة من الوفد الإسرائيلي لنظيره السوري في لقاء أذربيجان بخصوص انتشار قوات الأمن السورية الجديدة، المُشكَّلة من ميليشيات سنية، جنوب دمشق. وهي عبارة "فليفعل ما يريد". فهل كانت سماحًا بهذا الانتشار؟ أم فخًا وقع فيه الشرع، بقلة خبرته هو ورجاله، متصورين أن إسرائيل أعطتهم الإذن للدخول للجنوب، لمناطق في دولته نفسها، ليذبح طائفة، ولتوبخه رمزيًا بـ"يا ولد"؟ ألم ينتبه إلى جهله بما تراه إسرائيل مستقبلًا لبلاده، موحدة أو مقسمة؟!
لم تعد "يا ولد" أداة للغطرسة والإهانة، مثلما كانت مطلع الثمانينيات، حين كانت إسرائيل تتوسل الأصدقاء والعملاء والمعاهدات مع العرب. إنها إسرائيل في الزمن الجديد، بكل غطرستها الإمبراطورية التي لا يوقفها أحد. فتتحول كلمة "يا ولد" لصواريخ وقنابل تضرب قوات الجولاني وقصره الرئاسي ورئاسة أركانه، تهينه، وتجبره على الانسحاب. تخبره علانية بأين يقع الخط الذي لا يُسمح له بتجاوزه، وعليه أن يتوقف قبله، الخط الذي تحدده إسرائيل، وليس الحاكم في دمشق.
ولأن التاريخ لا يخرج عن سياق المهزلة حين يتكرر، فمثلما تباهى على الأغلب الميليشياوي المسيحي بشير الجميل أمام المقربين منه بصموده الذي لم يحدث في وجه بيجن، لأن أخاه اضطر للتوقيع على المعاهدة بعد الاغتيال، يعلن ميليشياوي جبهة النصرة، الجولاني، في خطاب منتصف الليل، انسحابه من السويداء كي لا يورط سوريا في حرب مع إسرائيل.
في الحالتين، الإمبراطورية قادرة على أن تضع الضعفاء غير القادرين على التخلص من ركاكتهم كل في حجمه؛ كولد، أو كقائد ميليشيا، أو كرئيس منتخب، أو كرئيس مفروض على شعبه برضاها هي تحديدًا. وسواء وقع معها باسمه، أو باسم الدولة السورية، فهو يعرف جيدًا أنه لن يكون الطرف الذي سيقرر مصير بلده.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.