تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم

تأملات في كتابة صنع الله إبراهيم

منشور السبت 13 أيلول/سبتمبر 2025

كان صنع الله إبراهيم الكاتب الذي تحرص على اقتناء كتبه رغم أنه ليس كاتبك المفضّل، فهناك مسافة ما تفصلكما. لم تعش مع كتاباته تلك التماهيات النفسية، فهو غير قابل للتماهي، باستثناءات قليلة في رؤيته الكلية لسعي الإنسان للتحرر من السلطة. لكن خطابه النفسي، بعيدًا عن السلطة وأثرها، ليس بهذا الوضوح في كتابته، وحكمته أيضًا ليست حاضرة وسط سيل المشاهد والصور، والجمل القصيرة، بل والقصيرة جدًا، ودقة التفاصيل.

رغم ذلك تشعر بأهمية ما يفعل وما يكتب، وبأهمية التجريب في رواياته، واللغة التي يطبخها من مصادر دارجة وفصيحة. بجانب الحوارات القصيرة الممتدة، المأخوذة من لعبة أحاديث يومية سيالة، تشعر معها بأن النص طافٍ أفقيًا بلا نهاية، عالقًا بين الشفاهة والكتابة. مع خاصية أصيلة؛ هذا الحس الشعري/النثري، الذي يتبلور من جذرية علاقته باللغة وطموحه تجاهها، واكتشاف أبعاد جديدة ما وراءها، فتتبقى منها شعريتها، التي تمنح النص قوة وحيوية ورسوخ. "سأحاول أن أحقق النثر ذا الأبعاد المختلفة. إن طريقي يبدأ من همنجواي وكامو".

صنع الله كاتب عسير الهضم، خاصة عندما تقرأ فصلًا كاملًا من نجمة أغسطس يجمع فيه بين علاقة حب البطل وفتاة روسية، وعملية حقن النواة الصماء لجسم السد العالي، الذي كان أعجوبة "الحفر إلى أعلى نحو قمة جبارة من الامتلاك الكامل، فعل الحب نفسه، الجماع بين النماذج الذهنية والأشكال الكامنة في الصخر".

نَفَس شعري

قرأت تلك الرائحة في سن مبكرة، لم أستوعبها آنذاك، تصارعُ الوقت حتى تُنهي هذه الفقرات المتراصة، والأصوات المتداخلة والاقتباسات، والذكريات التي تتنقل بين عربة ترحيلات لحظة القبض على البطل، ومشاهد لما بعد خروجه من السجن. أحيانًا لا تعرف من يتكلم، وهذا ليس مهمًّا، فتيار الوعي ومادته العقل الباطن، يتحول فيه النص إلى مونولوج داخلي طويل، فيه أصوات كثيرة وصور يمكنها أن تتكلم نيابة عن البطل.

تبنى نجيب محفوظ هذا الاتجاه في الطريق، التي قال عنها صنع الله في يومياته بداية الرواية الحديثة في مصر، وأنه يرى محفوظ متأثرًا فيها بجيمس جويس وفيرجينيا وولف. في ذلك المونولوج الداخلي الطويل ينشئ كتلةً نصيةً شديدةَ الاشتباك بعضها ببعض. الفقرات والأصوات والاقتباسات والذكريات لا تحتاج أي فواصل أو فراغات تُعطِّل هذا الانهمار، لكنه منضبط، له نَفَس شعري. ربما هذه الكتلة المصمتة تشكل المعادل المرئي للمونولوج اللامرئي.

خبرة الطفل ليست في تجاربه بل في التجرؤ على كشف ما لم يُتَح للآخرين مثل عملية كسر التابو

يرجع النفس الشعري هنا لتفصيح اللغة العامية؛ جَعْلها شبيهةً بلغة الكتاب المقدس، بجانب بساطة الجملة، بجانب استخدام التكرار في الحوارات "قال، قلت، قال، قلت"، و"هكذا" التي تتكرر كثيرًا. هذا الحس الطقوسي التكراري، قد يكون عيبًا بلاغيًا، لكنه هنا يمنح نصَّ إبراهيم حسَّ محاكاة النص المقدس.

يصل الحس الشعري إلى أقصاه في التلصص، مع عدم تغيير التقنيات، بتفجير الشجن الشعري بسبب عين الطفل الذي يتلصص وينقل لنا كقراء تلصصه بلغة ممسوسة بالشعر.

خبرة الطفولة ليست في تجاربه، بل في التجرؤ على كشف ما لم يُتَح للآخرين، مثل عملية كسر التابو تمامًا. هناك ما لم يتح للجماعة، يختزنه هذا الطفل الفرد. فالوثيقة هنا مسروقة عمدًا من المجتمع، مثل اللص تمامًا. تكشف الوثيقة مباشرةً عن الجرح السري لأبيه، وماما تحية، والأستاذ فهمي زوج أخته، وجميعهم متورطون في الخيانة بشكل ما.

الشكم العاطفي

في "التلصص" يستخدم صنع الله لغةَ ما بعد الإيحاء، فيظهر جزء كبير من جبل الجليد الغاطس، على عكس باقي رواياته. فالعاطفة ليست مشكومة، كما يتمناها، وكما ذكر في "يوميات الواحات"، ربما لأن هناك صراعًا أساسيًا بين الشكل والمضمون، يريده أن يكون بلغة محايدة متجاوزة العاطفة والذاتية معًا، بينما هناك مراحل عمرية، أشكال وأنظمة تفكير تحكم مسار هذه اللغة.

يستشهد أحيانا بـ طاعون كامو، كأحد النماذج العاطفية المشكومة، وأضيف أنا لها الغريب؛ نصٌّ مفارقٌ وغريبٌ يجمع العاطفة الباردة المشكومة بالمأساة. شديد القوة في إخضاع القارئ للتماهي معه.

أدرك صنع الله مفهوم الشكم العاطفي، وقرأ عن أسلوب تيار الوعي بتأثير من هيمنجواي وفرجينيا وولف وغيرهما؛ في فترة التثقيف الذاتي أثناء اعتقاله في سجن الواحات لخمس سنوات. كان السؤال الأساسي الذي يؤرقه كشيوعي ملتزم، وأيضًا كإنسان، العلاقة بين الذاتي والموضوعي. "هل يمكن أن أُوحّد الذاتي بالموضوع في كتابتي؟".

داخل تيار الوعي هناك مزج بين الأماكن والأزمنة يكسح كل ما يقف أمامه. وربما هذا جزء من أهمية صنع الله، هذا الحرص على نسبية الزمن والمكان معًا. لهذا تبدو "يوميات الواحات" وكأنها نصٌّ خضع لمونتاج في غاية الدقة، أو كأنها رواية صُنعت في غرفة المونتاج، مثلما كان المونتير الروسي الشهير دزيكا فيرتوف يقول إن الفيلم يصنع في غرفة المونتاج.

ربما حجر الأساس للتصالح مع هذا التناقض هو الرجوع للمجتمع كمصدر للخبرة والفاعلية الآنية وللذاكرة الجمعية، الماضي والحاضر معًا، وأيضا استخدام ضمير المتكلم الذي ينقل الخبرة والصدق الروائي معًا، عبر هذا الصوت الحميم. فالصدق، حتى ولو خالفت الوقائعُ الحقيقةَ، أو تبدل بعضُها، أو تلاعب بها الخيال، هو أساس فكرة السيرة الذاتية التي انتهجها صنع الله.

فهذه الدقة التقريرية -أو الإيمائية- في "التلصص"، لا تكتفي فقط برصد الواقع، بل تنظر إلى ما وراءه؛ حيث يتسامى الواقع، وينتج أفقه الشعري. فالواقع ليس هو نهاية الخبرة.

أغلفة روايات الكاتب صنع الله إبراهيم

اُلْمُس واَمْضِ

يتكرر في "يوميات الواحات" الحديث عن إرنست هيمنجواي ونظريته اُلْمُس واَمْضِ التي انتهجها في بداية علاقته بالكتابة معتمدةً على الإيحاء لإظهار قمة جبل الجليد الطافي، والتي تحولت في أعماله المتأخرة -بعد أن صار معلمًا- إلى "تَوقَّف وتأمَّل"، في إشارة لحضور التأمل والتفسير مع المشاعر، وحضور جبل الجليد الغاطس.

ولكنَّ العالمين متصلان، وهناك جبل جليد واحد، فالأهم أحيانًا هو الوصول للجزء الغاطس وكشفه حيث الوعي الجمعي المشترك، حيث يستوجب تطبيق الجزء الثاني: "توقف وتأمل"، وهو ما حدث مع همنجواي في ثلوج كليمنجارو، ومع صنع الله في "التلصص". انضم العالم الخفي ليكون ظاهرًا، على سطح النص.

ربما لم يفقد صنع الله لهاث الجمل والصور بهذه الحمولة الإضافية، ولكنه لهاث الحكيم لا المراهق. وربما بدأ ظهور هذا الحس الملحمي الذي كان يخشاه صنع الله في كتاباته والذي هو دليل بشكل ما عن كتابة فاشلة كما اقتبس في أحد يومياته.

الجرح السري

في "التلصص" امتلك الروائي الشجاعة ليكشف عن الكتلة الغارقة. هناك مشاهد وصور مبتورة للأم تطفو هنا وهناك كفلاش باك. يذكر في "يوميات الواحات" أن غيابها، ربما نجاه من الأوديبية. ولكنه ربما جعل الجنس ساحة متقلبة وغير مستقرة بالنسبة إليه. ليس عنصرًا ثابتًا في كتابته، لكن له حدته عند حضوره.

ربما بتصريحه هذا يدلُّنا صنع الله أنه كان محرومًا من هذه العلاقة الداخلية، فتوجهت العلاقة إلى الخارج، إلى ما يمس كيان المرأة، وهذا جزء من استقامة صنع الله. أن حرمانه لم يتحول إلى أداة انتقام، بل إلى موتيف جنسي يمنحه الكاتب نبرة كسر التابو.

هناك مغالاة أحيانًا في استخدام صنع الله للوثيقة. إذ تحولت إلى أحد التابوهات التي يجب أن يكشف محتواها داخل نصوصه

لا يبحث صنع الله عن استفزاز القارئ، كما استُفز يحيى حقي من فعل الاستمناء في "تلك الرائحة". لا يريد صنع الله الانضواء تحت أي شعار يقلل من أدبيته، لذا لجأ لشعارات مُركّبة، أو أقنعة، بهذه الحدة التي ينقل بها حياة أبطاله، الذين يسيرون في خط مستقيم كأن قدرهم غير قابل للتبدل.

أجد في التلصص نوعًا من التعلق الجمعي بالوالد، يجمع فيه علاقته بالأم الغائبة والأب معًا. كل مشاهد الأم مبتورة. أحدها عندما يوصله أبوه للبيت الذي فيه أمه وينتظره في الأسفل. أو عندما يراها في المحكمة، وأبوه يقف على الناحية الأخرى، وأخيرًا على أحد أسرة مستشفى الأمراض العقلية. أو عندما يتذكر لحظات شجارها مع أبيه، وتدوينها لمذكراتها في دفتر كبير.

كتب الدكتور محمد برادة مقالًا عن بحث صنع الله عن الجرح السري للطفولة في رواية التلصص، وترجم كتاب جان جينيه عن المثال الإيطالي ألبرتو جياكوميتي الذي حمل الاسم نفسه الجرح السري: مرسم ألبرتو جياكوميتي. يرى جینیه أن فن جیاكومیتي هو "اكتشاف الجرح السري عند كل الكائنات وحتى في كل الأشياء لكي یضیئها... الكشف عن الجوهر الفرید وإبرازه في ثنايا الشخوص".

خاصية الكشف أساسية عند صنع الله. يضيف برادة مُلخّصًا علاقة صنع الله بالأب بالجرح السري الذي تمثله الأم "إلا أنه إذا كان جرح الأم الغائبة عميقًا، فإن علاقة الطفل بأبيه لا تقل عمقًا لأنهما متواطئان من خلال تحمُّلهما لتصرفات الأم التي كانت تغلق عليهما الغرفة بالمفتاح خوفًا من أن يسمّمها زوجها".

تعفن الزمن

الكاتب صنع الله إبراهيم في جامعة ستانفورد، مايو 2013                                                                           

ربما صنع الله كاتب مؤمن بشكل ما، يقف في مكان إيجابي في أي ثنائية جدلية تعترضه، كالذاتي والموضوعي على سبيل المثال، ربما التداخل والتصالح بينهما حدث في سنوات الواحات، وكانت بداية الأسئلة حول الفرد والجماعة، والعلاقة بينهما.

وربما أيضًا بسبب إحساسه المبكر بالمسؤولية، فقد مات والده وهو في الثامنة عشرة. ليس هناك ترف للعب أو بعد عن هذا الشعب/النحن. فكان يصنع من نفسه الابن والأب معًا، أو يشكل نموذج الابن/العائلة. هناك دائمًا ظلال لآخرين متداخلين كما في قصة "بعد الظهر عبر ثلاثة أسرة" الملحقة برواية "تلك الرائحة"، شممت فيها حال وروح الشعب والبطولة الجماعية في عائلة عودة الروح لتوفيق للحكيم، وذلك باختلاف سياق الروايتين.

عند صنع الله جو كابوسي لنوم ثلاثة من الطبقة المتوسطة بعد الظهر في الخمسينيات: الأب والأم والابن، كأنهم ينامون في مقبرة، اتصالهم بالعالم مفقود، ورائحة الطعام تملأ غرفة النوم، فلا فرق بين مطبخ وسفرة ونوم، أو ليل ونهار. تداخلت الأماكن والأزمنة، في انتظار عودة الابن الذي يربطهم بالعالم الخارجي تشم رائحة تعفّن للمكان والزمان معًا.

الوثيقة النشطة

هناك مغالاة أحيانًا في استخدام صنع الله للوثيقة. إذ تحولت بأشكالها المختلفة إلى أحد التابوهات التي يجب أن يكشف محتواها داخل نصوصه. فاقت أحيانًا مادة الأدب وانضمت إلى التأريخ، لأنها وثيقة تقريرية وأهميتها أنها جزء من جبل الجليد الغاطس، المليء بالأسرار، والمعلومات المباشرة الخشنة غير المعالجة، التي لا تحتاج لتأويل أحيانا، فهي كلٌّ مكتمل. لذا تحولت الوثيقة إلى أداة كشف مباشرة.

"تلك الرائحة" وثيقة في طريقة كتابتها التجريبية، و"التلصص" وثيقة للقاهرة أثناء الحرب، وأيضًا للعلاقة بين الذات والمجموع عبر عين الطفل، تلك المساحة البينية بين الخارج والداخل. بيروت بيروت وذات وثيقتان التاريخ فيهما خارجي، والعلاقة بين الأنا والنحن غير متكافئة. كانت الوثيقة أحيانًا أحد الحلول المباشرة لحضور الموضوعية داخل النص الأدبي.

هناك وثيقة من نوع جديد، بها توازن بين الذات والموضوع، وبين داخل الكاتب والتاريخ، تحفظها رواية "نجمة أغسطس". هناك أنسنة لكل العلاقات: هذا التوازي في حقن النواة الصماء للسد، والعلاقة الجنسية بين البطل والفتاة الروسية، بجانب حضور كتابات مايكل أنجلو وعلاقته بالرخام ومفهومه للنحت، كأنه شاهد من الباطن على بناء السد، وعلى العلاقة، وأن صنع الله هو الشاهد الظاهر، أو قمة جبل الجليد.

ربما لا تنشط الوثيقة، لأنها ليست تاريخًا ثابتًا بل تاريخٌ يتحرك، إلا عبر جدلية تتجاذب هذه الوثيقة، نص قديم/نص حديث، السجن/الحرية، الماضي/الحاضر.. وبالطبع ستمس من قريب أو بعيد حضور الذات والجماعة، لأنها تحمل صوت الجماعة عبر الزمن.