تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
صعوبة عملية الإبلاغ تمنع النساء المعنفات من تحرير محاضر.

محاضر عدم التعرض.. وهم الحماية من القتل

منشور الاثنين 8 أيلول/سبتمبر 2025

"أنا خايفة، ومش عارفة أرجع شقتي أنا وبناتي"؛ كأنَّ محاضرَ عدم التعرض التي حررتها هناء عبد العزيز (*) ضد طليقها وشقيقه لم تكن، ما اضطرها للهرب إلى مدينة بعيدة هربًا من بطشهما والاعتداء عليها، ورغم ذلك عادت التهديدات مرة أخرى.

قبل أربع سنوات قررت هناء، أم الطفلتين، التي تعيش في مدينة طنطا، وتبلغ من العمر 34 سنة، الانفصال عن زوجها، والانتقال برفقة ابنتيها للإقامة في شقة العائلة، التي تزوج فيها شقيقها قبل ثلاث سنوات. غضب الأخير وحاول إعادتها لزوجها وأمام رفضها أساء معاملتها وتعدى عليها بالضرب أمام بناتها.

وسط لوم العائلة والأقارب؛ استنجدت هناء بالشرطة، وحررت محضرين، أحدهما ضد طليقها والآخر ضد أخيها، لكن شيئًا لم يتغير؛ بقي الوضع على ما هو عليه. 

تعكس أزمة هناء واقع آلاف النساء في مصر ممن يلجأن إلى القانون طلبًا للحماية، ليجدن أنفسهن في مواجهة إجراءات بيروقراطية معقدة وثقافة مجتمعية لا ترحم، تنتهي غالبًا بمحضر عدم تعرض يُحفظ في الأدراج، بينما يظل الخطر يتربص بهن في كل زاوية، وربما يصل الأمر للإيذاء والقتل.

المحضر نذير شؤم

العنف ضد النساء

على مدار السنوات الماضية، شهدنا حوادث فتيات فقدن حياتهن لأن بلاغاتهن لم تُؤخذ على محمل الجد، من بينهن الطالبة بجامعة المنصورة نيرة أشرف، التي قُتلت على يد زميلها أمام بوابة جامعتها في وضح النهار، رغم أنها سبق وحررت محاضر ضد القاتل قبيل تنفيذ جريمته على أمل إنقاذها منه، لكنها لم تمنعه من ارتكاب الجريمة التي هزت المجتمع المصري.

وجاء في حيثيات المحكمة في الحكم بإعدام القاتل أنه "جراء رفضه وتحرير محاضر عدم تعرض ضده، تولدت لدى المتهم الرغبة في الانتقام من المجني عليها واستمر في تهديدها بالقتل حتى اليوم الأول من شهر يونيو/حزيران 2022، حيث اشترى سكينًا وانعقدت إرادته على تنفيذ جريمته".

ما حدث مع نيرة تكرر مع منار الأعصر، لكنَّ قوة السوشيال ميديا حالت هذه المرة دون أن تلقى مصيرها، إذ حررت محضرًا بواقعة ملاحقة استمرت 5 أعوام من شخص يدعى هشام محمود وصدر خلالها ضده حكم من محكمة بني سويف الاقتصادية بغرامة 20 ألف جنيه والتعويض 5 آلاف جنيه.

بالإضافة إلى ذلك، قدمت منار مذكرة رسمية للمجلس القومي للمرأة بتاريخ 17 يوليو/تموز 2024، توضِّح فيها ملخص ما واجهته من تشهير وابتزاز وتهديد طوال هذه الفترة، ورغم كل هذه الخطوات القانونية التي اشتملت على تقديم المحاضر، ومرفقات من رسائل تهديد وتسجيلات، والحكم الصادر ضده، لم يحاسب الشخص إلا بعد أن نشر أخوها مصطفى الأعصر الصحفي القصة على حساباته على السوشيال ميديا.

عنف متكرر 

يعتبر عمر محمد، المحامي في مبادرة حقي الحقوقية، محضر عدم التعرض أداةً قانونيةً وقائيةً مهمةً، ويوضح لـ المنصة أن "الهدف منه يكون إثبات تعرُّض شخص لمشكلة تتعلق بالتعدي على ممتلكاته أو سلامته داخل أو خارج الأسرة، بالتالي يطلب من الشرطة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع أي تعرض جديد".

 سُجلت 34 محاولة انتحار لفتيات ومن بين الأسباب التي دفعتهن لفعل ذلك العنف الأسري بأشكاله المختلفة

وتشير المحامية الحقوقية انتصار السعيد، رئيسة أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون إلى أن تلك المحاضر رغم كونها "مجرد فعل رمزي أكثر منه واقعي"، لكنها في بعض الأحيان تكون رادعة خاصة للأشخاص الطبيعيين الذين يخشون التعرض لتجربة السجن، "بس مؤخرًا ما بقاش ليها تأثير"، كما هو الحال مع "هناء" التي لم تكشف عن اسمها الحقيقي خوفًا من تفاقم التهديدات.

فالمحضران اللذان سبق لها أن حررتهما ضد شقيقها لم يُجديا وعادت التهديدات أكثر شراسة، ورغم أنها تركت المنزل، واستأجرت شقة مستقلة لتربية طفلتيها، "بعت لي تهديدات إن مينفعش أعيش لوحدي ببناتي، وهددني بالخطف والقتل وإنه هيأجر ستات ياخدوني يودوني لبيت العائلة غصب عني"، تقول لـ المنصة.

وتدعو عزيزة الطويل، المحامية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، المؤسسات التي يُستغاث بها للتحرك فورًا والتحقيق في جدية ما تحويه هذه المحاضر من ادعاءات، حيث ترى أن المشكلة تكمن في عدم التعامل بـ"التقدير" المناسب مع هذه البلاغات و"الاستخفاف" بها حتى تحدث الكارثة، كما في حالة نيرة أشرف التي "ربما لو تم التعامل بجدية مع محاضرها كان زمانها لسه عايشة" تقول لـ المنصة.

ووثّقت مبادرة صوت لدعم حقوق المرأة نحو 252 حالة عنف ضد النساء والفتيات في مصر خلال النصف الأول من عام 2025، ارتكب الأزواج والأقارب 70% منها، وذلك في نشرة نصف سنوية اعتمدت على توثيق ما نشرته صحف إلكترونية مصرية.

وقالت المحامية نهى سيد، المديرة التنفيذية للمبادرة لـ المنصة حينها إن الأرقام تعكس استمرار ارتفاع معدلات الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في المجالين العام والخاص، وهو ما يشير إلى ضعف الردع القانوني، على حد قولها، مشيرةً إلى أن "الأعداد الحقيقية قد تكون أكبر بكثير نظرًا لعدم الإبلاغ عن حالات عديدة أو عدم نشرها".

فيما يشير المسح الصحي للأسرة المصرية الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2022 إلى أن نحو ثلث النساء اللاتي سبق لهن الزواج في المرحلة العمرية بين 15 و49 سنة تعرضن لإحدى صور العنف الزوجي، كما تتعرض 25% من النساء داخل نطاق الأسرة للعنف الجسدي، و22% للعنف النفسي، ونحو 6% يتعرضن للعنف الجنسي.

ووفقًا لتقرير مرصد جرائم العنف الموجه ضد النساء والفتيات في مصر لعام 2023، الصادر عن مؤسسة إدراك للتنمية والمساواة، سُجلت 34 محاولة انتحار لفتيات، ومن بين الأسباب التي دفعتهن لفعل ذلك العنف الأسري بأشكاله المختلفة من الضرب المبرح والاحتجاز والخلافات الزوجية إلى الإجبار على الزواج، هذا إلى جانب العنف المجتمعي من ابتزاز وتنمر وضغط نفسي قد ينتج من ضغوط مختلفة بينها الامتحانات خلال الدراسة.

إجراء شكلي؟

تؤكد انتصار السعيد، وهي واحدة من المحاميات اللاتي شاركن في لجنة صياغة مسودة مقترح قانون موحد ضد العنف، على أن القوانين المصرية لا تحوي نصًّا على محاضر عدم التعرض، و"عند توجه الشاكي أو الشاكية إلى قسم الشرطة لتحرير هذا المحضر يتوقف الأمر على تقدير فرد الشرطة الذي يحرر المحضر".

"يعني أوقات أقسام الشرطة بيوافقوا يعملوا المحاضر دي من باب إنه يكون في ردع يعني للمشكو في حقه أو تخويفه إن هو ما يضايقش الشاكي أو الشاكية تاني"، توضح لـ المنصة.

وتضيف "إحنا أحيانًا لما بنروح نعمل محضر عدم تعرض بنواجه صعوبة لأنه بيترد علينا؛ أنتوا عارفين يا أساتذة إنه ما فيش حاجة اسمها عدم تعرض"، لافتةً إلى أن هذه المحاضر تجتذب بعض الأهمية حال وقع المشكو في حقه على المحضر "لكن في النهاية الأمر يتوقف على تقدير القاضي"، مشددةً على أن الفيصل في قضايا الضرب أو العنف هو التقرير الطبي والإصابة التي حدثت نتيجة الاعتداء.

فيما يشير المحامي عمرو محمد إلى أن "الضحايا غالبًا ما يعانين عند تحرير هذا المحضر لأسباب كثيرة، منها عدم التعامل بجدية مع شكواهن، بخلاف الإجراءات المرهقة لذلك".

 يُطلب من المبلغة تقديم إثبات وهذا يكون صعبًا في بعض الحالات

يشرح المحامي في مبادرة حقي أن الضحية تُجبر على سرد تفاصيل الواقعة المؤلمة مرارًا وتكرارًا لعدة أفراد داخل القسم، قبل أن تحصل أخيرًا على موافقة الضابط المسؤول لتحرير المحضر.

وتكمن العقبة الأكبر، حسب عمرو، في طلب الإثبات، "بالأغلب، يُطلب من المبلغة تقديم إثبات، وهذا يكون صعبًا في بعض الحالات، خصوصًا لو كان العنف داخل الأسرة، فكيف يمكن لامرأة مهددة من شقيقها داخل منزل مغلق أن تأتي بشهود أو دليل مادي على تهديد شفوي؟ هذا الشرط التعجيزي غالبًا ما يؤدي إلى حفظ المحضر كمحضر إداري دون أي متابعة، أو حتى عدم تحريره من الأساس".

بالإضافة إلى ذلك، هناك ما يبدو أنه تعطيل متعمد أو تزهيق للمبلغة، على حد قول المحامي، عبر إطالة ساعات انتظارها في القسم وأحيانًا يصل الأمر إلى تهديدها وتزويدها بمعلومات قانونية غير صحيحة لتخويفها ودفعها للتنازل.

تنازلها عن حقها بدعوى الخوف على الروابط الأسرية

هنا تدفع الإجراءات المعقدة، التي يصفها الكثيرون بأنها "تطفيش متعمد"، العديد من الضحايا إلى التراجع عن الإبلاغ، فـ"المنتشر أن هذه المحاضر آخرها الحفظ، ولا يتم التعامل معها بجدية، ولا التحقيق فيها، ولا متابعة سلوك المشكو في حقه للتأكد من التزامه بعدم التعرض"، حسب عمرو محمد.

وتنوه انتصار السعيد لأزمة أكبر تواجه المعنفات هتتمثل في تنازلها عن حقها بدعوى الخوف على الروابط الأسرية، و"ولادها هيلومها عشان حبست باباهم أنا عندي كذا حالة، فيه حالات كان بيحصلها عاهات مستديمة بسبب الضرب، بيخشوا عمليات يغيروا مفاصل أو أو يدخلوا حتى عناية مركزة في بعض الأوقات، تفضل بقى تتناقش معاها في إنها لازم تاخد إجراء قانوني تقولك ما أنا مش هحبس أبو عيالي".

ليست قضية جندرية

لا ترى عزيزة تفرقة على أساس النوع في التعامل مع محاضر عدم التعرض، "هناك عمومًا استهانة بتلك المحاضر سواء مقدمها رجل أو ست أو ترانس وغالبًا ما يتم حفظه". ففي مايو/أيار 2023 قتل شخص بسبب خلافات مع جيرانه على أولوية البيع، ورغم أنه كان قد حرر محضر عدم تعرض له إلا أن خمسة من جيرانه تبرصوا بجارهم وأطلقوا عليه النار.

بل أحيانًا ما يكون محضر عدم التعرض نفسه هو سبب التعدي على مقدمه، حيث قُتل شخص بمنطقة حدائق القبة بالقاهرة، انتقامًا منه لقيامه بتحرير محضر عدم تعرض ضد المتهم لحماية ابنة عمه بعد أن شهّر بها.

تتجلى أهمية المحضر حسب عزيزة "في إثبات حالة التعدي سواء كان لفظيًّا أو جسديًّا، وهو يساعد في حال تكرار التعدي بعد ذلك إذ يثبت أن الجاني كان متعمدًا إيذاء الضحية".

وتلفت إلى أن المحضر قد يعد دليلًا على سبق الإصرار والترصد، بالتي تغلظ العقوبة على المتهم، فوفقا لقانون العقوبات نصت المادة 240 أن عقوبة جريمة الجرح أو الضرب المفضى إلى عاهة مستديمة هى السجن من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، وتشدد هذه العقوبة في حالة ما إذا كانت الجريمة مقترنة بسبق الإصرار أو الترصد فتكون السجن المشدد من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات.

لكن على أرض الواقع، يبدو أن هذه المحاضر تفقد أي تأثير حقيقي أو قوة ردع، فهي كما يقول عمر محمد "مجرد حبر على ورق".

آلية الخط الساخن المجاني لتلقي جميع شكاوى النساء غير مفعلة على أرض الواقع وكثير من النساء لا يعرفن عنها شيئًا

لا تضع رئيسة أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون أملًا على مثل هذه المحاضر  في حماية النساء من العنف، وتؤكد على ضرورة العمل بشكل عاجل على إصدار القانون الموحد لتجريم العنف ضد النساء والفتيات، و"أن تكون هناك منظومة قانونية متكاملة تحمي الستات، يكون فيها دعم نفسي، و فيها بيوت آمنة، فيها تعويضات وجبر للضرر، وكذلك إعادة التأهيل".

ورغم إعلان المجلس القومي للمرأة في 7 ديسمبر/كانون الأول 2015 بدءَ تشغيل الخط الساخن المجاني 15115 لتلقي جميع شكاوى النساء حول العنف وقضايا الأحوال الشخصية والمواريث، فإن انتصار ترى أن هذه الآلية غير مفعلة على أرض الواقع والكثير من النساء لا يعرفن عنها شيئًا، مشددة على ضرورة الإعلان بشتى الطرق عن هذه الخطوط والخدمات التي تقدمها.

بعد تجدد التهديدات، عادت هناء مرة أخرى إلى قسم الشرطة، وحررت محضر عدم تعرض جديدًا، متمنيةً أن يضمن لها السلامة هذه المرة ولا تعيش في خوف دائم، وتستطيع العودة إلى شقتها.


(*) أسماء مستعارة بناء على طلب المصادر