تصميم: يوسف أيمن- المنصة

حكاية فاتن زكي ومرام أسامة.. عدالة مبتورة للنساء

منشور الخميس 23 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في مساء عادي من صيف 2024 في قرية كفر يعقوب بمحافظة الغربية، جلست فاتن زكي البالغة من العمر 14 عامًا أمام طبق من المكرونة لتأكل بعد يوم طويل من العمل المنزلي، من دون أن تعلم أن ذلك الطبق سيكون الأخير في حياتها. 

حين عاد زوجها وأهله من الخارج، استشاط غضبًا لأنها أكلت قبلهم ولم تنتظر إذنه. لحظات، وتحوّل الغضب إلى عنفٍ أعمى؛ انهال عليها بالضرب، ثم كَوَى جسدها بالمكواة، قبل أن يضربها بعصا غليظة على رأسها، ويسحبها إلى سطح المنزل ويلقيها منه.

نُقلت فاتن إلى المستشفى في حالة حرجة، لكنها فارقت الحياة بعد ساعات.

حادث مروع لم يكن استثناءً، بل حلقة جديدة في سلسلة من جرائم العنف الأسري التي تضع النساء في مواجهة الموت داخل بيوتهن.

الزوج الذي أحالت محكمة جنايات طنطا أوراقه إلى المفتي، في خطوة إجرائية تسبق إصدار أحكام الإعدام، عادت محكمة استئناف طنطا، في 13 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وخففت الحكم عليه إلى السجن سبع سنوات.

بعد الجريمة الأولى بأشهر، في ديسمبر/كانون الأول، وقعت جريمة تعذيب مميت أخرى، في التجمع الخامس هذه المرة، لزوجة على يد زوجها. إذ لقيت مرام أسامة العماوي، وهي أم لطفلتين، حتفها بعد قيام زوجها معتز هنداوي بخنقها، ما أدى إلى إصابتها بقطع في البلعوم بطول 8 سم وسحجات حول الرقبة.

ورغم حالتها الحرجة، احتجزها زوجها في المنزل تصارع الموت وحدها لمدة 5 أيام دون تقديم أي مساعدة طبية، وبعدها تم نقلها إلى المستشفى وهي في حالة حرجة، وخضعت لعدة عمليات جراحية، لكنها فارقت الحياة نتيجة الإصابات والنزيف.

في مايو/أيار 2025 أصدرت المحكمة حكمًا بالسجن المشدد 7 سنوات للزوج القاتل معتز هنداوي المتهم بقتل زوجته مرام أسامة (32 عامًا) بدلًا من السجن المؤبد؛ العقوبة المقررة لجريمة القتل العمد، بعد أن اعتبرت المحكمة ما حدث ضربًا أفضى إلى موت، ليشكل الأمر نمطًا لافت التكرار.

من يحمي النساء؟

العنف ضد المرأة

تكشف هذه الأحكام ضعف الأطر القانونية التي تحمي النساء والفتيات من العنف، فـ"العدالة لسه مش واقفة جنب الستات في مصر زي ما المفروض يحصل"؛ تقول انتصار السعيد المحامية بالنقض ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون.

فيما تؤكد آية عبد الحميد، الباحثة النسوية، على أنهن يطالبن "منذ سنوات بسن قانون مواجهة العنف الموحد، والذي لم يرَ النور حتى الآن".

وترتفع وتيرة جرائم قتل النساء خلال السنوات الأخيرة؛ إذ وثقت مؤسسة إدراك للتنمية والمساواة 1195 جريمة عنف ضد الفتيات والنساء في مصر خلال عام 2024، وتصدرت جريمة القتل أعلى معدلات العنف في التقرير بواقع 363 واقعة، منها 261 جريمة قتل نتيجة لعنف أسري على يد أحد أفراد الأسرة أو الزوج أو الشريك، سواء كان حاليًا أو سابقًا، و67 جريمة على يد أفراد ليسوا من الأسرة.

وترى آية عبد الحميد أن "القضاء يعتمد في نظر هذه القضايا على مواد عامة في قانون العقوبات، رغم ما تحمله في طياتها من أشكال متنوعة من العنف" كما هو الحال في قضية فاتن زكي فهي لم تتعرض "لجريمة واحدة بل مجموعة جرائم متداخلة ومعقدة" تبدأ من التزويج القسري لطفلة لم تبلغ الثانية عشرة من عمرها؛ إذ تحظر المادة الثانية من قانون الطفل تزويج من هم أصغر من 18 عامًا، ذكورًا وإناثًا. 

لا يتضمن قانون العقوبات الذي يستند إليه القاضي في حكمه في قضية فاتن ما يجعله قادرًا على إنصافها

تشير آية أيضًا لجريمة "الضرب المستمر التي كانت تتعرض له هذه الطفلة علي يد زوجها وتجويعها كأحد أشكال العنف الأسري"، منتقدةً تمكين ممارسي العنف الأسري من الإفلات من العقاب، وفق المادة 60 من قانون العقوبات التي تستثني من "ارتكب بنية سليمة عملًا بحق مقرَّر بمقتضى الشريعة" من الخضوع لأحكام القانون، ودرجت المحاكم المصرية على اعتبار "تأديب الزوجة" ضمن هذه الحقوق المقررة.

لا تنتهي قائمة الجرائم عند هذا الحد؛ تشير الباحثة النسوية إلى أن "هناك جريمة الاغتصاب الزوجي، فلا يمكن توصيف علاقتها الجنسية مع زوجها بغير هذا، وهو غير مجرم قانونًا أيضًا".

ولا يتضمن قانون العقوبات الذي استند إليه القاضي في حكمه بقضية فاتن ما يجعله قادرًا على إنصافها، بالتالي فإن جريمة قتل فاتن، حسب آية، "تكشف بقوة، قد إيه الأطر القانونية الحالية ضعيفة جدًا في مواجهة هذا العنف!"، فضلًا عن كونه مدعومًا بالعُرف الذكوري.

كانت مجموعة من المنظمات النسوية أصدرت بيانًا في أعقاب الإعلان عن صدور الحكم بتخفيف العقوبة أشار إلى أنه "لا يوجد سوى مسارين لهذه القضية وفي الحالتين تضيع حقوق النساء".

حسب البيان، المسار "الأول والأكثر ترجيحًا هو تغيير التوصيف القانوني للقضية من قتل عمد إلى ضرب أفضى إلى موت. وهو ما يطرح التساؤل حول اتجاهات القضاء وأحكام المحاكم المستمرة لتغيير التوصيف القانوني في جرائم قتل النساء من قتل عمد إلى ضرب أفضى إلى موت، وذلك كذريعة قانونية لتخفيف العقوبة، في ظل تجاهل تام لوقائع التعنيف المتوالية التي تسبق ارتكاب الجريمة، فإزالة القصد الجنائي العمدي، تحت مظلة الأطر القانونية، في قضايا قتل النساء يؤول إلى تخفيف العقوبات على مرتكبي تلك الجرائم".

فيما يتضمن المسار الثاني الاعتماد على مواد من قانون العقوبات تساهم في تخفيف العقوبة.

سلطة تقدير القاضي

تمنح المادة 17 من قانون العقوبات القاضي سلطة تقديرية للنزول بالحكم درجة أو اثنتين، حسب الحالة الإنسانية التي تأتي لصالح الرجال في الغالب فيما يميل القاضي الجنائي غالبًا إلى التشديد، خاصة في قضايا النساء المتهمات بالقتل، حسب دراسة صادرة عن المفوضية المصرية للحقوق والحريات، وهو ما تتفق معه آية عبد الحميد. 

"مهما كان عندنا التزامات دولية ومعاهدات ودستور يحمي المرأة، في النهاية عندنا سلطة القاضي التقديرية بتلعب دور كبير قوي في الأحكام، وتساعدها النصوص القانونية التمييزية الحالية"، تقول الناشطة النسوية.

ترى انتصار السعيد كذلك في مثل هذه الأحكام انعكاسًا لثقافة محافظة أكثر من تطبيق صارم للقانون، "ثقافة بتشوف إن من حق الزوج يغلط ويتسامح، وإن العنف داخل البيت مجرد خلاف أسري مش جريمة. فاتن كانت ضحية نظام أبوي شايف البنت مِلْك الرجل، مش إنسانة ليها إرادة وحق في الحياة".

بالمقابل يتحفظ طاهر أبو النصر، المحامي بالنقض والحقوقي، على هذا التفسير، مشيرًا إلى أننا "لم نقرأ تفاصيل القضية كاملة، ولم نطّلع على أسباب الحكم النهائية. لا نعرف ما هو القيد والوصف للواقعة الذي تقدم به المتهم في أول محاكمة، وهل المحكمة التي عدَّلت الحكم لسبع سنوات بدلًا من الإعدام، عدَّلت في القيد والوصف أم لا، لأن هذا هو الفيصل الذي يجعلنا نفسر قانونيًا هل القاضي طبَّق المادة 17 أم لا؟". 

يرفض أبو النصر إلغاء المادة 17، لكنه يستدرك ويدعو لوضع قيود لاستخدامها، أهمها إلزام المحكمة بالتسبيب، وأن تُراقِب محكمة النقض مدى مواءمة استخدام المادة 17 في حكم المحكمة للواقع والقانون.

العنف ضد النساء، تعبيرية

ويتوقع المحامي الحقوق بالنسبة للحكم على قاتل فاتن زكي، وفقًا لتقديره المهني وليس الشخصي، "إنه بنسبة أكبر من 90% المحكمة استخدمت حقها في تعديل القيد والوصف، إلى ضرب أفضى لموت وبكده المحكمة حكمت بالحد الأقصى للعقوبة، وهو سبع سنوات وفقًا للمادة 236 من قانون العقوبات".

يستند أبو النصر في تقديره هذا على خبرته القانونية، "لا توجد إحصائيات، ولكن من خلال عملي على العديد من القضايا التي تُكيَّف كضرب أفضى لموت، يمكن القول إن هناك نمطًا متكررًا، خاصة في قضايا العلاقات الزوجية"، يقول لـ المنصة.

تظل المشكلة في تطبيق القانون، حسب انتصار السعيد، "اللي بيطبَّقه جزء من نفس المجتمع الذي يشرعن السيطرة الذكورية ويتعامل مع العنف ضد النساء كأمر عادي أو أُسري".

تضيف "قد يكون القاضي أو المحقق أو المشرّع متأثرًا بنفس القيم التي تمنح الزوج الحق في تأديب زوجته، أو إن البيت ما يتخربش، والبنت لو غلطت تتحمل".

تعتقد انتصار أن هذا التأثر ينعكس على "العقوبات التي تُخفف بدعوى الظروف أو الانفعال وفي النهاية حقوق النساء تُفرّغ من مضمونها لأن القانون بيتفسَّر من خلال منظور أبوي محافظ".

هذا ما يبعث رسالة للنساء بأنهن غير آمنات في هذا المجتمع "أنا كسِت خايفة باستمرار ومعرضة للخطر، ووارد أكون الضحية القادمة سواء بسبب عنف أسري أو في عنف المجال العام، وفي الحالتين المجرم سهل جدًا يفلت من العقاب"؛ تعبِّر آية عبد الحميد عن مخاوفها كامرأة وناشطة نسوية.  

تدريب جندري

تعكس مثل هذه الأحكام أثر غياب التدريب الجندري عن المناهج التعليمية للقضاة ووكلاء النيابة، وفق انتصار السعيد؛ "التدريب هيساعدهم في فهم أن العنف الأسري ليس مشادة بين طرفين، بل علاقة قوى غير متكافئة فيها طرف يسيطر وطرف يتعرض للأذى النفسي والجسدي".

تؤكد رئيسة مركز القاهرة للقانون والتنمية على أن غياب التدريب يجعل القضاة وأعضاء النيابة غير مدرّبين على التعامل الإنساني مع الضحية "ما يعرفوش إزاي يسمعوا شهادتها من غير ما يلوموها، أو يوفروا لها بيئة آمنة، وده في النهاية بيسكِّت ستات أو يخليهم ينسحبوا من القضايا خوفًا من الإهانة أو التشكيك".

تقترح أن يتبنى المجلس الأعلى للقضاء "مدونة سلوك قضائي" تراعي النوع الاجتماعي، تساهم في تدريب القضاة ورفع وعيهم الجندري، مما يساهم في النظر لقضايا العنف ضد النساء بصورة أفضل.

يبقى الحل، وفق رئيسة مركز القاهرة، في خروج القانون الموحد لمكافحة العنف ضد المرأة، خاصة وأن المسودة الثانية منه أنجزت قبل شهور، على أمل أن يتبناها البرلمان القادم.

فيما يخفض أبو النصر من طموحه في التعديل إلى المواد الخاصة بالضرب المفضي إلى موت؛ "نحتاج إلى تعديل تشريعي يقر بظرف مشدد في العقوبة في هذه القضايا في حال ارتكابها من الزوج ضد زوجته أو الأب ضد ابنه أو بنته لإن هو نفس النموذج".

يشدد المحامي الحقوقي على أن هذه القضايا ليست مشاجرة في الشارع بين اثنين أغراب "لذا تحتاج لتكييف قانوني مختلف".

حتى تُقرّ القوانين التي تردع العنف وتكبح السلطة المطلقة داخل البيوت، ستكرر قصصٌ مثل فاتن ومرام، لتُجدّد مخاوف النساء في مصر من أن ينتهي بهنّ الأمر إلى المصير نفسه.