تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الأمن القانوني واحدٌ من الأسس والغايات التي يهدف القانون إلى تحقيقها في مختلف المجتمعات

زلزال "الإيجار القديم" وتبِعات غياب اليقين القانوني

منشور الاثنين 4 أغسطس 2025

كتبت هذه السطور وملايين المُلّاك والمستأجرين ومحاموهم وغيرهم من الأطراف ذات الصلة بالملف تنتظر إصدار القانون الذي أقره مجلس النواب في 2 يوليو/تموز الماضي، لتنظيم فترة انتقالية لمعالجة آثار حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بعدم دستورية تثبيت الأجرة في عقود الإيجار القديم.

منحت الدستورية العليا الدولة ممثلةً في مجلس النواب سلطةً تشريعيةً، والحكومة سلطةً تنفيذيةً، فترةً زمنيةً طويلةً نسبيًا امتدت لنهاية الدورة البرلمانية 2024-2025 لإعمال أثر حكمها، وأرجأت تطبيقه حتى فض تلك الدورة انطلاقًا من حرصها على استقرار المراكز القانونية وحماية المستأجرين تحديدًا من اضطرابات قد تؤدي إلى حرمانهم من سكن يؤويهم.

لكن وكما رأينا، لم تبادر السلطة التشريعية بتقديم مشروع قانون، أو مناقشة ما قد يترتب على تطبيق الحكم، ملقية العبء بالكامل على الحكومة التي بدأت مبكرًا في دراسة آثار الحكم، وكيفية تنظيم فترة انتقالية، ثم تأخرت في تقديم مشروع القانون حتى ظهرت النسخة الأخيرة منه في "الوقت بدل الضائع"، بآخر أيام دور الانعقاد، وتوالت الأحداث بين شد وجذب ورفض عارم ثم قبول بأغلبية تقارب الإجماع، وسط معارك ضارية خاضها أصحاب المصلحة على السوشيال ميديا، وتشويش هائل ببث معلومات مضللة وشائعات بلغت حد فبركة أحكام وإسنادها للمحكمة الدستورية.

الفراغ التشريعي.. لماذا؟

اجتماع اللجنة البرلمانية المشتركة لمناقشة تعديلات قانون الإيجار القديم 5 مايو 2025

لم تضع الموافقة النهائية من البرلمان على القانون حدًا للمشكلة، بل تعقدت أكثر بفض دور الانعقاد دون إصداره. فأصبح حكم "الدستورية العليا" واجب النفاذ من 10 يوليو/تموز الماضي، وضرب الجميع أخماسًا في أسداس؛ المُلّاك رأوا في الظرفِ فرصةً لتوجيه إنذارات للمستأجرين تمهيدًا لإقامة دعاوى ضدهم لرفع الأجرة إلى الحدود السوقية أو الإخلاء واسترداد الوحدات، والمستأجرون سارعوا إلى إيداع الأجرة في المحاكم بغية تثبيت الوضع القائم. وفي أوساط القضاة والمحامين ترددت عشرات الأسئلة والحالات المحتملة دون إجابات يقينية.

المؤسف أن حالة الفراغ التشريعي الناشئة عن دخول الحكم حيز النفاذ دون إصدار القانون الجديد ليست جديدةً، وسبق لها أن حدثت عندما لم يصدر تشريعٌ لعلاج آثار الحكم بعدم دستورية امتداد الإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية من جهات حكومية وشركات حكومية وخاصة. وقتها بقيت حالة الفراغ التشريعي لنحو ثلاث سنوات. تسبب ذلك في ارتباك القواعد القانونية وتضارب الأحكام وإخلاء مقرات مصالح حكومية حساسة وخدمية.

مع صدور الحكم الأخير حذر كثيرون من مغبة تكرار هذا السيناريو، خصوصًا وأننا نتحدث عن أعداد أكبر بكثيرٍ من أصحاب المصلحة المستفيدين والمتضررين. والترجمة الوحيدة لحالة الفراغ التشريعي هي الدفع بالملايين إلى المحاكم وأقسام الشرطة، حيث سيضطر العديد من الفقراء ومحدودي الدخل وضعيفي الثقافة للبحث عن محامين للدفاع عن مصالحهم المهددة، أو بحثًا عن استفادة عاجلة، فتزيد أعباؤهم المادية والذهنية والنفسية.

وهذه بالضبط النتيجة الحتمية لغياب اليقين القانوني الذي ينهار معه ركنٌ أساسيٌّ من أركان الأمن القانوني بصفة خاصة، ودولة القانون من منظور أكثر شمولًا.

الأمن القانوني والأمن القومي

الأمن القانوني واحدٌ من الأسس والغايات التي يهدف القانون إلى تحقيقها في مختلف المجتمعات. وترتبط في الفقه الأجنبي والعربي بضرورة التزام الدولة بتحقيق أكبر قدر من الثبات النسبي للعلاقات القانونية واستقرار المراكز القانونية المختلفة بهدف إشاعة الأمن والطمأنينة بين أطراف تلك العلاقات، بحيث يسيرون جميعًا على هدى من القواعد والأنظمة الواضحة، دون التعرض لمفاجآت أو تصرفات مباغتة يكون من شأنها العصف بالاستقرار وزعزعة الطمأنينة.(*)

من دون "الأمن القانوني" لا يمكن إقامة "دولة قانونية" تحمي جوانب "الأمن" الأخرى من الاستبداد والتعسف في استخدام السلطة

بهذا المعنى الجوهري العابر للنصوص الدستورية والتشريعات وأحكام القضاء، والمتقاطع مع المبادئ الأساسية لحماية الحقوق والحريات، يمكن اعتبار "الأمن القانوني" من المكونات الرئيسية لنظرية الأمن القومي، إلى جانب "الأمن المادي" أي الحماية العسكرية والشُّرَطية للمجتمع والمواطنين. و"الأمن الاقتصادي" لحماية مقوّمات الدولة وتأمين قدرة المواطنين على العيش الكريم وتأمين حاجياتهم الأساسية ثم قدرتهم على التملك والادخار. و"الأمن الاجتماعي" بتحقيق العدالة والمواطنة وتكافؤ الفرص. و"الأمن السياسي" من خلال حماية نظام الحكم الدستوري والمؤسسات واستقرارها وحوكمتها.

فمن دون "الأمن القانوني" لا يمكن إقامة "دولة القانون" التي تحمي جوانب "الأمن" الأخرى من الاستبداد والتعسف في استخدام السلطة، وتركز الثروة والسلطة والنفوذ، والظلم الاجتماعي، وانعدام الشفافية.

اليقين القانوني.. ضمانة غائبة

جانب من مؤتمر الجبهة الشعبية للعدالة الاجتماعية ورابطة المستأجرين بمقر حزب الكرامة اعتراضًا على مشروع قانون الإيجار القديم، 23 يونيو 2025

اختلف الفقهاء والباحثون في تحديد عناصر "الأمن القانوني"، لكنَّ ثمة اتفاقًا على أن أحد أهمها هو "اليقين القانوني"، الذي يعني ببساطة "ضمان إمكانية التنبؤ بالمواقف والعلاقات القانونية" من خلال إحاطة المواطنين وأطراف العدالة بأكبر قدر ممكن بالقواعد القانونية المطبقة في موضوع معين.

هذا المبدأ تطور في أوروبا على مراحل بدأت مطلع القرن الماضي ثم تأثرت بانعكاسات الحربين العالميتين على العلاقات التجارية بين الدول والأفراد، حتى اعتبرته محكمة العدل الأوروبية من المبادئ العامة للتشريع. وتواترت ضرورة أن تكون القوانين واضحةً ودقيقةً ذات آثار قانونية متوقعة، بالأخص فيما يتعلق بالحقوق الشخصية والالتزامات المالية؛ على سبيل المثال في يونيو/حزيران الماضي صدر أحدث حكم لمحكمة العدل الأوروبية متطرقًا إلى هذا المبدأ (ضد إسبانيا) مؤكدًا على ضرورة اتّسام المنظومة التشريعية للضرائب بالوضوح والدقة والقابلية للتنبؤ حتى يبني المخاطبون بأحكام هذه المنظومة التشريعية قراراتهم في ظل ما يعرف بمبدأ "حماية التوقع المشروع".

اللافت هو ندرة الدراسات العربية والمصرية التي بحثت في مبدأ اليقين القانوني، واتجاه البعض لمناقشته باعتباره عنصرًا من مكونات عقيدة القاضي عند نظر القضية وإصدار الحكم، خالطين بينه وبين اليقين الجنائي أو القضائي. في مقابل ما يكتسبه في الأنظمة الغربية اللاتينية والأنجلو أمريكية من أهميةً متزايدة وما له من آثار إيجابية، ليس فقط على عمل المشتغلين بالقانون لتلافي تضارب الأحكام والقرارات والتمييز  بين أصحاب المراكز القانونية المتشابهة، بل أيضًا على عموم الأفراد من مستثمرين وتجار ومهنيين وعمال ومواطنين عاديين تزيد كفاءتهم في اتخاذ القرارات المصيرية على ضوء المعرفة الواضحة بالمباح والمحظور، والحقوق المقررة لهم وعليهم.

ليس من المبالغة أن نعتبر اليقين القانوني ضمانةً اجتماعيةً مهمةً لن تتحقق إلا باتخاذ خطوات فعّالة نحو:

  1. وضوح السياسة التشريعية
  2. جودة صياغة التشريعات
  3. تنقية المنظومة من التناقضات وجسر ما بها من فجوات
  4. الشفافية في إجراءات وضع التشريع حتى إقراره وإصداره
  5. مراعاة الظروف التي قد تطرأ
  6. الاستعداد لمراجعة التشريع إذا انحرفت آثاره أو لم يحقق أهدافه
  7. توعية شركاء العدالة والمواطنين بالمستجدات والآثار المتوقعة

انعدام اليقين وطلاسم المالك والمستأجر

الخطير أن غياب اليقين القانوني بات العنوان الوحيد للمنظومة التشريعية الحاكمة للإيجار القديم الآن، وزاد الوضع اضطرابًا بتأخر إصدار القانون الجديد، والزج بالجميع في فترة الفراغ التشريعي.

سيلغي القانون الجديد بعد إصداره جميع قوانين الإيجار القديم التي ظلت سارية إلى جانب القانون المدني منذ دخول حكم الدستورية حيز النفاذ، فما الذي سيترتب على ذلك من آثار؟ وكيف ستتعامل المحاكم مع الإنذارات التي وجهها المُلّاك للمستأجرين؟ وهل ستكون هناك أي حجية للتصرفات التي تتخذ انتظارًا لتصديق رئيس الجمهورية على القانون؟

ما مبرر التمييز بين الأشخاص الاعتبارية والطبيعية في حالات إيجار الأماكن للأغراض التجارية والإدارية؟

إذا كانت العقود الإيجارية المبرمة حتى نوفمبر 2002 للمستأجرين الأصليين والمستفيدين من الامتداد الأول قائمةً بالاستناد إلى حكم الدستورية العليا الشهير الصادر آنذاك، الذي حذرت حيثياته من "خلخلة اجتماعية واقتصادية تنال من أهم مقومات الأسرة وتهز مبادئ التضامن الاجتماعي"، فما مدى تعارض ذلك مع إجراءات الإخلاء بعد انتهاء الفترة الانتقالية وفقًا للقانون الجديد؟ وما الحدود الفاصلة بين تطبيق حكم الامتداد والحكم الأخير بعدم دستورية تثبيت الأجرة؟

وإذا كان القانون الجديد يتعامل مع الإيجار القديم للأشخاص الطبيعية لغرض السكن وللأغراض الأخرى، بينما يتعامل القانون الانتقالي 10 لسنة 2022 مع الإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية لغير غرض السكن، فما مبرر التمييز بين الأشخاص الاعتبارية والطبيعية في حالات إيجار الأماكن للأغراض التجارية والإدارية؟ خصوصًا وأن العديد من حالات الإيجار للشخص الطبيعي تحوّلت بمرور الزمن إلى شركات وسلاسل تجارية سواء من الباطن أو بتغير صفة المستأجر ذاته.

المطلوب بعد إصدار القانون

لا يعني "اليقين القانوني" التأكد بنسبة 100% من إجابة كل الأسئلة السابقة في جميع حالات النزاع، بل توفير الوضوح والقواعد الشفافة المتكافئة والمتكاملة التي تمكّن شركاء العدالة من ترجيح اتجاه على آخر بناءً على التفسير والقياس، وتمكين المواطن نفسه من اتخاذ القرار الأرجح لصالحه، أو دفعه للتفاهم مع الطرف الآخر للنزاع وديًا بعيدًا عن ساحة القضاء.

لا بكاء على اللبن المسكوب، لكن من المهم أن نذكر بأننا دعونا منذ تسعة أشهر مع كثيرين للخروج من حقل ألغام الإيجار القديم عبر "التغيير الجذري مع مراعاة البعد الاجتماعي" من خلال الدراسة السريعة والشافية للأوضاع الاقتصادية العامة والعوامل الحاكمة للقيم الإيجارية، وأنواع عقود الإيجار وأنماط المستأجرين، والانطلاق من هذه الدراسة إلى وضع منظومة شاملة وحديثة، وليس قانونًا انتقاليًا، تنص على ضوابط موضوعية للقيم الإيجارية تنهي حالة الانفلات الراهنة، وتضمن حق المواطن في الحصول على سكن كريم ومكان عمل ملائم بسعر مناسب.

إن مبدأي "الأمن القانوني" و"اليقين القانوني" يحتّمان على الدولة بمجرد إصدار القانون الجديد إطلاق حوار اجتماعي وقانوني شامل وشفاف للنظر في جميع أوضاع الإيجارات، بعقل منفتح على إمكانية تعديل القانون خلال الفترة الانتقالية المقررة والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، من أجل التحديث الكامل للمنظومة والموازنة بين حقي الملكية والسكن، بهدف إنعاش سوق العقار والقضاء على مشاكل السكن وإعانة الشباب محدودي الدخل وتحسين جودة المعيشة.


(*) راجع ما كتبه الأستاذ الدكتور يسري العصار في هذا الشأن بمجلة "الدستورية" عدد يوليو 2003.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.