الموقع الرسمي للأمم المتحدة
نتيجة تصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على مشروع قرار منح فلسطين العضوية الكاملة، 10 مايو 2024

تهاوي الرواية الصهيونية على وقع الاعتراف بفلسطين

منشور الثلاثاء 5 أغسطس 2025

أقرأ تعليقات كثيرة تقلل من شأن تنامي عدد الدول الغربية التي تعلن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة في الاجتماع السنوي المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، نهاية الشهر المقبل، على اعتبار أن وجود 145 دولة تعترف بفلسطين بالفعل لم ينه الاحتلال الصهيوني أو حتى يسهم في إيقاف الإبادة المستمرة بقطاع غزة منذ نحو عامين بالقصف والقتل والتجويع أمام أعين العالم.

يفوتُ هؤلاء أن وزن الدول التي أعلنت مؤخرًا الاستعداد لاتخاذ تلك الخطوة المتأخرة، تحديدًا فرنسا وبريطانيا وكندا، يزيد من أهمية تلك القرارات ويهدد بعزل إسرائيل على المستوى الدولي. كما يزيد الضغوط على حليفتها الرئيسية التي توفر لها السلاح والحماية الدبلوماسية؛ الولايات المتحدة.

فكلٌّ من فرنسا وبريطانيا عضو دائم في مجلس الأمن. ما يجعل أعضاءه الدائمين، عدا الولايات المتحدة، معترفين بالدولة الفلسطينية، حيث اعترفت روسيا والصين بها عند إعلانها عام 1988. ولبريطانيا بالذات، رغم أن إعلان نيتها الاعتراف بفلسطين ناقص ومشروط، دورٌ خاصٌ في تنفيذ المشروع الصهيوني منذ منح رئيس وزرائها آرثر جيمس بلفور وعده الشهير عام 1917 بإقامة دولة يهودية على أراضي فلسطين.

أما كندا فهي الجارة الشمالية للولايات المتحدة، ولأنها لم تعتَد مثل بريطانيا مخالفة قرارات واشنطن، جاء رد فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إعلانها غاضبًا، وقرَّر تعليق مباحثات اتفاق التبادل التجاري بين البلدين. في مقابل اكتفائه بالتقليل من أثر قرار فرنسا، قائلًا إنه لن يمثل فارقًا لأن فرنسا لا تأثير لها.

الأردن ليس فلسطين!

في مقابلة أجرتها نيويورك تايمز قبل أيام مع السفير الأمريكي لدى إسرائيل مايك هاكابي، وهو أحد عتاة الصهيونية المسيحية، ردد بإيمان ما يقوله قادة الحركة الصهيونية منذ نشأة إسرائيل من أن إقامة دولة فلسطينية مستحيل لأن الأراضي المتاحة تكفي بالكاد لـ"الشعب اليهودي" الراغب في الهجرة إلى الأرض التي "منحها له الله" من وجهة نظره. ويتساءل "أين ستكون الدولة الفسطينية؟ هل سنضع الناس فوق بعضهم البعض؟".

تمكنت إسرائيل من قتل الفلسطينيين على نطاق واسع ولكنها فعلت ذلك على حساب روايتها

يؤمن السفير هاكابي، وهو قس إنجيلي سابق، بأن المسيح لن يعود للأرض إلا إذا "عاد" كل اليهود إلى فلسطين. ويرى مثله مثل قادة الحركة الصهيونية أن على الدول العربية والمسلمة المحيطة بفلسطين استضافة السكان الأصليين على أراضيهم، والتسليم بأن من حق اليهود أن تبقى أراضي فلسطين التاريخية خالصةً لليهود. وهي واحدة من الحجج التي يرددها كالأسطوانة المشروخة مؤيدو المشروع الصهيوني؛ لا توجد سوى دولة واحدة فقط لليهود مقابل 21 دولة عربية يمكن للفلسطينيين العيش في أيِّها. ألا تقولون إنكم جميعًا عرب؟ 

بالطبع فإن مصر على رأس الدول المرشحة لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، حيث يمكن لصحراء سيناء الشاسعة استيعاب سكان غزة من الفلسطينيين، بينما يستقبل الأردن أولئك الذين سيُهجَّرون من الضفة الغربية.

ففي العقيدة الصهيونية التي كان يجهر بها دائمًا رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون، فالأردن هو فلسطين، لأن هذه الدولة أُنشئت واقتطعت حدودها من أراضي السعودية والعراق لتكون "إمارة شرق الأردن" التي تستوعب الفلسطينيين الذين نزحوا قسرًا من أراضيهم عام 1948.   

كفى! 

آثار العدوان الإسرائيلي على غزة                                                                                                                   

لكن ما يزيد من أهمية قرارات الدول المؤثرة على الصعيد الدولي التي قررت الاعتراف بفلسطين هو أنها تمثل الإعلان العملي لهزيمة حملة الدعاية التي روج لها نتنياهو وائتلافه المتطرف من الأحزاب الإرهابية طوال حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة على مدى العامين الماضيين.

ففي أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، كان رد الفعل الغالب في الغرب هو التعاطف الكامل مع جرائم جيش الاحتلال، وتفهمها باعتبارها "دفاعًا عن النفس". غير أن صور المجاعة المفزعة بعد عامين من القتل المتواصل، ونحو خمسة شهور من الحصار المطبق حيث تُجوِّع إسرائيل سكانَ القطاع جميعًا بمنع دخول الغذاء والوقود والأدوية، دفعت شعوب العالم بأكمله تقريبًا للصراخ: كفى! لم يعد من الممكن تحمل استمرار هذه الحرب!

ومقابل اعتقاد نتنياهو بأنه قد تمكن من هزيمة مشروع الاستقلال الفلسطيني للأبد، ودفع الدول العربية للقبول بتطبيع العلاقات مع كيانه دون أي مقابل، بل والهيمنة على المنطقة بأكملها وإعادة هندستها باستهداف إيران وحزب الله وسوريا الأسد وما بعده؛ مثَّلت قرارات الاعتراف بفلسطين المتتالية من الدول الأوروبية والغربية، وتوقع انضمام المزيد مثل أستراليا ونيوزيلندا، هزيمة لم يكن يتوقعها أو يتمناها اليمين المتطرف الحاكم في الدولة الصهيونية.

فهذه الدول لم تعد تُطالب فقط بوقف الحرب وإنهاء هذه المأساة الإنسانية القائمة في غزة واستخدام التجويع سلاحًا للحرب، بل باتت تقر بضرورة حل هذا الصراع حلًا دائمًا، يرفض مشروع تفريغ فلسطين من سكانها الأصليين. فعندما قدم ستارمر وعده المشروط بالاعتراف بفلسطين؛ علَّقه على استمرار الوضع المروع في غزة، وعدم المضي قدمًا في حل الدولتين بضم الضفة الغربية؛ الجائزة الكبرى التي يطمح نتنياهو وحكومته للحصول عليها من إدارة الرئيس ترامب الحالية، تمامًا كما حصلوا على الاعتراف الأمريكي بضم القدس المحتلة والجولان السوري في رئاسة ترامب الأولى (2017-2021).

حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، فإن الانشقاق بين الديمقراطيين والجمهوريين أصبح واضحًا تمامًا في أروقة الكونجرس الذي لم يعتَدْ مشرعوه إصدار أي قرارات تمس التحالف المقدس مع إسرائيل. لكن الأسبوع الماضي رفع 44 سيناتورًا خطابًا لترامب ينتقدون فيه بشدة مشروعه المشترك مع إسرائيل لتوزيع الأغذية عبر ما يسمى بـمؤسسة غزة الإنسانية، التي أصبحت مصيدةً للقتل اليومي للأبرياء. كما دعم نحو 20 عضوًا طلب السيناتور التقدمي بيرني ساندرز وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل.

وفي أعقاب تخلي ترامب عن عقيدة "أمريكا أولًا" والمشاركة في قصف المنشآت النووية في إيران، بدأ السخط يمتد ليشمل أنصار ترامب من اليمين وحركة "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". وعندما وصفت عضوة مجلس النواب مارجوري تيلور جرين، المعروفة بمواقفها المتطرفة، ما يجري في غزة بأنه "عملية إبادة"، أحدثت جدلًا واسعًا في صفوف اليمين وأثارت قلقًا حقيقيًا في أوساط من يدعمون إسرائيل دعمًا مطلقًا.

نعم، تمكنت إسرائيل من قتل الفلسطينيين على نطاق واسع، وإلحاق هزائم بكل أعدائها، ولكن المؤكد أننا نشهد تهاوي الرواية الصهيونية بشكل تدريجي، لحساب صعود وعي عالمي بحقوق الشعب الفلسطيني وبالطبيعة العنصرية للمشروع الصهيوني لم يعد تراجعه ممكنًا. وهذا يتطلب الترحيب بتلك المواقف ودعمها والدفع نحو مزيد من الضغط الدولي، ليس فقط على إسرائيل، بل ومعها شريكها البرتقالي في البيت الأبيض.

وسط هذا الغضب الدولي المتنامي، أقل ما يمكن توقعه من الأنظمة العربية الاستفادة من هذه الأجواء للتوصل إلى حل دائم بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والتمسك برفض مشروع تفريغ فلسطين رفضًا مطلقًا. هذه هي الأولوية اليوم.