تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
المطرب اللبناني فضل شاكر

فضل شاكر.. نغمة شجية مِن فم تلطّخ بدمٍ لا يُرى

هل تشفي الموسيقى جرح الرصاص؟

منشور الثلاثاء 26 أغسطس 2025

ثمة صراعٌ يعيشه محبو المطرب اللبناني فضل شاكر كل مرة يستمعون فيها لصوته عقب عودته من اعتزال امتد 7 سنوات، بين عامي 2012 و2019. الصوت الذي كان مرادفًا للرقّة تحول إلى مصدر للشعور بالخذلان، ليبدو استعداده لإطلاق ألبومين جديدين مؤخرًا في الأسواق كما لو أن نغمةً شجيةً خرجت من فم من تلطّخ بدمٍ لا يُرى.

ظل شاكر لسنوات رمزًا للفن الجميل الذي يقاوم الاندثار، وارتبط في أذهان كثيرين بلحظات حب وفقد وحنين. ولأنه لا غبار على موهبته وصوته الدافئ المليء بالإحساس، شكّل انخراطه في جماعة مسلّحة وظهوره في مشاهد صادمة أثناء الحرب السورية وتصريحاته العدائية التي خالفت جوهر الفن، صدمة نفسية يصعب تجاوزها.

الصدمة ليست فقط من موقفه الطائفي، بل من التحول الأخلاقي والرمزي لفنان أحبّه الناس، ثم رأوه في صورة مناقضة تمامًا لما اعتادوا عليه.

الطريق إلى السلاح

وُلد فضل عبد الرحمن شاكر شمندر في صيدا بجنوب لبنان في أول أبريل/نيسان عام 1969، وفي بيئة فقيرة تفجرت موهبته مبكرًا من خلال إحيائه حفلات صغيرة، متأثرًا بأساطير الغناء العربي كأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم.

واصل طريقه إلى الشهرة حتى عام 1998 ليُصدر ألبومه الأول بعنوان والله زمان في سن الـ29، وفي مطلع الألفية سطع نجمه بتعاونه مع ملحنين وشعراء كبار مثل صلاح الشرنوبي ومروان خوري وناصر الأسعد.

تقريبًا لم نشهد خلال سنوات نشاطه التي امتدت عقدًا ونيف أي خلافات لفضل شاكر مع زملاء أو صدامات مع منتجين، حتى في طلّاته الإعلامية القليلة بدا عليه البساطة والخجل والتواضع، فحجز لنفسه مكانًا مميزًا بذائقة الجمهور العربي.

وفي عام 2009 أصدر آخر ألبوماته بعنوان بعدا ع البال، ثم طرح بعض الأغنيات المنفردة في 2010، لنصل إلى محطة الربيع العربي مطلع 2011، وخلالها عُرف فضل بمواقفه المؤيدة للثورة السورية للدرجة التي دفعته للدعاء على بشار الأسد في حفلته بمهرجان موازين بالرباط صيف 2012، ليبدأ من بعدها إنتاجه الموسيقي في الانحسار مع ظهوره بلحية في "لوك" فاجأ جمهوره.

بالعودة إلى حفلاته الأخيرة قبل اللحية نجده بدا أقل فرحًا وأكثر تأملًا، وأحيانًا نراه غاضبًا، حتى زلزلت الصدمة جمهوره مع نهاية 2012 بقراره اعتزال الغناء، الذي سمَّاه "التوبة" مبديًا ندمه على ما غنّى، لأسباب بينها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي.

تحول الفنان المحبوب إلى شخصية مسلّحة تتبنى العنف الطائفي

استثمر رجال دينٍ شهرته لتوسيع خطابهم المعادي للفن مع إعلان اعتزاله، تزامن ذلك مع قربه لبعض التيارات السلفية المتشددة في صيدا، وبالأخص الشيخ أحمد الأسير أحد الأصوات السنية المعارضة لحزب الله اللبناني.

وفي يونيو/تموز 2013، قُتل 18 جنديًا لبنانيًا إثر اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني وجماعة الأسير في منطقة عبرا بصيدا، ليظهر الفنان التائب متحدثًا بفخر عن قتلهم! مثّلت تلك اللحظة الشرخ الكبير، حيث تحول المطرب المحبوب إلى متطرف سُنّي مُسلح يتبنى العنف الطائفي، وهو ما لم يستطع الجمهور استيعابه، حتى مَن دافعوا عنه سياسيًا وجدوا صعوبة في تبرير هذا التحول الدرامي ومشاركته المباشرة في القتال.

صدمة الجموع كانت مزدوجة.. فنان يُعَبِّر عن الحب يتحول إلى أداة للكره

بعد مقتل الجنود توارى أحمد الأسير عن الأنظار، حتى قُبض عليه لاحقًا أثناء محاولته مغادرة البلاد بجواز سفر مزور، أما فضل شاكر فاختفى لفترة قبل أن يظهر في مقابلات إعلامية ينفي فيها مشاركته في القتال ضد الجيش اللبناني، ويؤكد أنه لم يُطلق النار أو يشارك في المعارك!

فرَّ المطرب المعتزل إلى مخيَّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا، وهو مخيم خارج عن سيطرة الدولة اللبنانية، ليبقى مختبئًا لسنوات ظل خلالها ينشر فيديوهات يدّعي المظلومية ويُنكر قتله للجنود تارة، وينفي مشاركته في الاشتباكات موضحًا أنه كان مجرد داعم تارة أخرى.

وفي فبراير/شباط 2016 أصدرت المحكمة العسكرية اللبنانية حكمًا غيابيًا بسجنه خمس سنوات بتهمة تعكير صلات لبنان بدولة عربية وإثارة النعرات، ثم أصدرت حكمها الثاني في حقه في سبتمبر/أيلول 2017 بسجنه 15 عامًا مع الأشغال الشاقة وتجريده من حقوقه المدنية بتهمة "المشاركة في أعمال إرهابية والانتماء إلى جماعة مسلحة".

أجرى شاكر وقتها حوارًا تليفزيونيًا مع قناة المؤسسة اللبنانية حليق الذقن، وأعلن أنه لم يشارك في اشتباكات ''عبرا'' ممنيًا نفسه بالعودة إلى الحياة الطبيعية، كما نفى أنه حرّض على الجيش ولفت إلى أن علاقته كانت سيئةً جدًا بالشيخ الأسير، غير أنه لم يكشف ما إذا سيعود إلى حياته الفنية أم لا!

عودة المسلح إلى الفن

انزوى شاكر في مخيم عين الحلوة بمنطقة تخضع لجماعة إسلامية سلفية محافظة، وإن كانت أكثر اعتدالًا من الأسير، تدعى عصبة الأنصار. وهناك توفرت له الحماية مقابل التزامه بعدم إثارة المشاكل أو الظهور السياسي مجددًا، حتى عام 2018 الذي بدأ فيه في التلميح برغبته في العودة إلى الغناء، فأصدر أغنية عاطفية بعنوان "ليه الجرح" من داخل ستوديو في المخيم، تلتها أغنيات أخرى بصوت لا يزال يحتفظ بجماله لكن بحضور مربك نفسيًا!

وفي العام نفسه، وقبيل شهر رمضان، اختارته شركة العدل جروب المصرية لغناء تتر مسلسل لدينا أقوال أخرى للفنانة يسرا، ليدور الجدل بين مؤيد لعودة فضل شاكر إلى الغناء و"عفا الله عمّا سلف"، وبين رافض باعتباره محكومًا عليه بالسجن بتهمة التحريض ضد الجيش اللبناني.

https://www.youtube.com/watch?v=Q4jAVBazoEs

قررت شركة العدل جروب النأي بنفسها عن الجدل فأزالت صوته من مقدمة المسلسل، كما أصدرت بيانًا تعتذر فيه للشعب اللبناني. في المقابل ظهر هو في لقاءات تروّج لرواية تبرِّئه "كنت مغررًا بيّ… ما قتلت حدَا"، و"أنا ما عملت شي… كنت تايه". ولكن ذلك لم يكن كافيًا لمصالحة.

وبينما غسلت العدل يديها من فضل بادرت الفنانة شيرين رفقة زوجها حسام حبيب بزيارته في مخيم عين الحلوة، وهي زيارة ورطتها في أزمة إذ خضعت لتحقيق أمني لاحقًا بسبب دخولها المخيم من دون تصريح، هذا الخطأ الإجرائي تداركته الشهر الماضي فحصلت على تصريح مسبق لزيارة فضل لترتيب أغنية جديدة تجمعهما باسم حدوتة، وفي حال خرجت الأغنية للنور ستكون التعاون الثاني بينهما بعد فيديو كليب العام الجديد 2004.

غفران أم نسيان

الغفران في جوهره فعل أخلاقي ثقيل يحتاج في المقابل إلى اعتراف بالخطأ، وإلى ثمن يُدفع، وإلى عدالة، ولو رمزية، تحفظ كرامة الضحايا. وهو ما لم يحققه شاكر. فهو لم يعتذر لعائلات الجنود الذين سقطوا في اشتباكات عبرا. لم يندم أو يتبرأ من خطابه المسلح وكونه جزءًا من لحظة طائفية مدمّرة، ولم يفسر أسباب انخراطه في التطرف، لذا يبدو الغفران الجماعي السريع أشبه بإهانة للذاكرة، لا بفعلٍ شجاع يفتح صفحة جديدة مع تسامح حقيقي. 

عن مدى مسؤولية الفنان عن رمزيته، هناك من يصر على نظرية موت المؤلف لرولان بارت، معتبرًا أن العمل ينفصل عن صاحبه فور خروجه إلى الجمهور. غير أنه في ثقافتنا، المشتغل بالفن ليس مجرد صوت أو صورة، بل حامل لمعانٍ وقيم وصانع وجدان جمعي، وحين يشارك في فعل دموي أو خطاب تحريضي فإنه لا يلوّث صورته فقط، بل ينسف السياق العاطفي الذي أدخل أغنياته إلى القلوب.

القضية ليست في تقييم أغنية جديدة أو حنين إلى صوت قديم

هنا تتضح الفجوة بين فصل الفن عن أفعال الفنان وبين التواطؤ الصامت. الفصل موقف نقدي يقوم على وعيٍ بالجرح الذي وقع، وعلى إدراك أن التلقي لا يعني النسيان، أما التواطؤ الصامت فهو تحوّل الحياد إلى مشاركة غير معلنة في تلميع صورة الجاني، أو المساهمة في تطبيع حضوره.

في حالة فضل شاكر كان الفرق واضحًا؛ فالاستماع لأغنية قديمة مع إدراك مرارتها اليوم، فهذا فصل. أما التبرير له والترويج لعودته للساحة دون مساءلة فهذا تواطؤ كامل، وكأن ماضيه قد مُحي.

لعب الإعلام دوره بدقة في التواطؤ، فمنذ عودة فضل إلى الغناء ركزت المقابلات على دموعه ومعاناته وأغفلت أفعاله، بثّت القنوات أغانيه القديمة وأحاطتها بهالة نوستالجيا، وكأننا أمام بطل سقط ضحية سوء فهم تاريخي. هكذا تشكّل ما يمكن تسميته "غفران شعبي زائف"؛ صُنع في ستوديوهات وليس من قناعة الناس، متجاهلًا عائلات الضحايا وضرورة الاعتذار.

هل يمكن للفن أن يُطهّر صاحبه؟ هناك اتجاه يرى في عودة الفنان إلى الإبداع بعد سقوطه اعترافًا ضمنيًا وطلب للغفران، وأن الفن بطبيعته قوة تطهيرية، وهو موقف شاع في تاريخ الفنانين الذين خاضوا حروبًا نفسية أو سقطوا في بئر الإدمان ثم عادوا.

لكن الدم لا يُغسل بالأنغام والجرح لا يلتئم بالكلمات العذبة. فمن دون اعتراف ومساءلة يصبح الفن أداة تمويه لا تطهير، ويغدو اللحن غطاءً يحجب الحقيقة بدل أن يكشفها، وليست قصة فضل شاكر فريدة، ففي العالم كله يسقط الفنانون أخلاقيًا أو قانونيًا ثم يواجهون صراع العودة.

القضية ليست في تقييم أغنية جديدة أو حنين إلى صوت قديم، بل عن العدالة وذاكرة الجماعة. قد نختار أن نفصل بين الفنان وأفعاله، لكن علينا أن ندرك أن الحياد المفرط يتحول بسهولة إلى تواطؤ. ربما يحق للفن أن يمنح صاحبه فرصة ثانية، لكن ليس دون رد الحق لأصحابه. فالفن لن يكون قادرًا وحده على غسل الدم، لأن الذاكرة، حين تُجرح بالرصاص، لا تُشفى بالموسيقى.