تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
كانت لحسني سليمان طبيعةٌ تأمليةٌ؛ الحياة في نموذجها البسيط

حسني سليمان.. رحيل أخير

منشور الأربعاء 29 تشرين الأول/أكتوبر 2025

فوجئ الوسط الثقافي بخبر وفاة الناشر حسني سليمان صاحب دار شرقيات التي مثّلت علامةً فارقةً في عالم النشر والترجمة منذ تأسيسها بداية التسعينيات حتى إغلاقها نهائيًا عام 2017.

المفاجأة لم تكن في الموت نفسه، لكنَّ تأخرَ معرفة الخبر هو ما ضاعف الألم. تُوفي حسني سليمان منذ أكثر من ستة أشهر حسب الشاعر والكاتب علاء خالد الذي عرف الخبر بالصدفة ونشره على صفحته الشخصية مصحوبًا بفصل من كتابه كرنفال القاهرة يتحدث فيه عن دار شرقيات باعتبارها من أهم المعالم الثقافية في تلك الفترة وراعية أدبية لجيل التسعينيات.

كانت لحسني سليمان طبيعةٌ تأمليةٌ؛ الحياة في نموذجها البسيط، بيت ريفي في بنها التي تبعد عن القاهرة نحو ساعة بالقطار، لم يستغن عن هوايته في ممارسة الزراعة في حديقته.

يغادر بنها مبكرًا ليصل مكتبه بباب اللوق في السابعة صباحًا. يفتح بابه، يعد قهوته الثقيلة، ويغلق الدار في الثانية ظهرًا ليلحق بدفء العائلة. المستيقظ مبكرًا فقط هو من سيحظى برؤيته، وكم تلقت ضلفات الباب الزجاجية المغلقة نظرات الإحباط من شباب لم يستطعوا اللحاق بالصباح هناك.

بعد عدة إحباطات متوالية ومع تغير خريطة النشر، بالإضافة لهموم قِصر العمر، كما يقول المفكر حسن حنفي، قرر سليمان إغلاق الدار نهائيًا. تخلَّص من الكتب الموجودة بالمخزن لباعة الكتب. ورحل إلى عزلته. أراد أن يقرأ ويتأمل، يزرع ويسمع الموسيقى في هدوء.

مقر الدار كان أقرب للمكتب الخاص وأشبه بالبيت تدخل بنفسك لتصنع قهوتك لأنك صرت من العائلة

لكن هل تمتد العزلة حتى لحظة الموت أم أنه أراد أن تستمر لما بعد الموت؟ هل أوصى مثلًا بعدم نشر خبر الوفاة التي يفترض أنها كانت في فبراير/شباط الماضي؟ فلم يُنشر في جريدة ولم تصل تلك المعلومة لأي صفحة ثقافية.

بعد تلقي صدمة رحيله، بدأ كتّابٌ في استرجاع حكايات كتبهم الأولى معه. وامتلأت الصفحات بأغلفة مميزة لمحيي الدين اللباد. ارتبطت حالة الحزن المفاجئ بحالة النوستالجيا بسبب ارتباط اسم حسني سليمان بالكثير من المشروعات الأدبية المتحققة في الوسط الأدبي.

سليمان ليس ناشرًا عاديًا إنما مؤسسة ثقافية في صورةِ رجل كلاسيكي، وبمفهوم مثالي لم يهتم بالمكسب المادي من النشر بقدر ما كان ناشرًا للثقافة. يؤمن تمامًا برسالته حتى لو داهمته التكنولوجيا والميديا وتقنيات الكتابة الحديثة لتؤكد له أنه يبذل مجهودًا كبيرًا ويهدر وقتًا يستطيع توفيره. لكنه لم يتنازل عن قراءة المخطوطات بنفسه حتى لو ساعده بعض الأصدقاء من الكتَّاب أحيانًا، مع الإصرار على الالتزام بطريقة الطباعة التقليدية.

مقر شرقيات كان أقرب للمكتب الخاص وأشبه بالبيت حين تدخل بنفسك لتصنع قهوتك لتوفر عليه مجهود إعدادها لأنك صرت من العائلة. حسني سليمان نفسه كان أقرب لصديقك المثقف الذي ترغب دائمًا في الحوار معه. جلساتنا الصباحية تكشف طاقة الشغف التي تربطه بالكتابة. لن تتمكن من النشر عنده لو لم يحب ما تكتب، كأنه عهد قطعه على نفسه.

حين قررتُ نشر ديواني الأول كانت شرقيات بداية آمنة لأي تجربة جديدة. ذهبت بأقدام مترددة حاملة أقدام خفيفة 2005.

في البناية القديمة بالشارع الجانبي، قريبًا من وكالة أنباء الشرق الأوسط، وسط القاهرة، استقبلتني نباتات الظل التي تضفي حياة خضراء على رائحة الكتب. هذا هو البيت الذي تعرفت فيه على أغلب الكتّاب.

قابلت أسماء مهمة؛ مصطفى ذكري، ميرال الطحاوي، عناية جابر، مي التلمساني، خليل صويلح، مي خالد، ومنتصر القفاش. في كل زيارة هناك كاتبٌ في حالة من السعادة القصوى التي لا تحدث إلا حينما تمسك النسخة الأولى من كتابك بيدك.

حين أستغرب من قراءة ناقد من بلد آخر لكتابي فأسأله كيف وصلك! يكشف أنه حصل عليه من حسني سليمان. بهذه الطريقة يصل الكتاب لأشخاص لا يعرفونك، سيقترحه عليك ويقدمه بثقة محتفظًا بمهام مهنته القديمة حين كان يعمل أمين مكتبة في السويد. كأنها مهمة مقدسة؛ سيقول يجب أن تقرأ لهذا الكاتب الجديد، يختصر مشوارًا طويلًا من محاولات إثبات الذات.

اختار صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لتمثال الكاتب المصري الشهير ليضعها في الدار

يعرف أن كتابه المميز يبدأ من تصميم الغلاف، لذا شكّل محيي الدين اللباد الهوية البصرية للدار، ثم استعان بزوجته ذات أبو زيد مصممة الأغلفة وبعد ذلك هبة حلمي وفنانين آخرين، فقدْ رحَّب ببعض المغامرة لتجديد روح الدار.

حين اقترح زوجي تصميم غلاف كتابي الأول، لمحته يبتسم في محبة كأنه يراقب شيئًا داخل العالم لا نعرفه. وبعد صدور ديواني الثاني من شرقيات تعرّضتُ لحادث سيارة فقدتُ فيه زوجي الفنان هاني الجويلي 2007، حينها جلس حسني على حافة الفراش بمستشفى الهرم حزينًا باكيًا كأنه فقد واحدًا من أهله. كان هاني أحضر له سيجارًا من كوبا قبل الحادث بأيام، فقال حسني "لن أدخن السيجار أبدًا.. لقد تحول إلى معنى!". 

كان يحوِّل كل شيء إلى معنى؛ يحوِّل الصباح إلى جلسات مضيئة، والنقاش لورشة عمل غير مخطط لها، والكلمات إلى إصدار ورقي أنيق. يحوِّل الفكرة إلى قيمة والحوار إلى مشروع حقيقي.

حين طلب مني فوتوغرافيا ليضعها في دار شرقيات لتبقى ذكرى دائمة، اختار صورة بالأبيض والأسود لتمثال الكاتب المصري الشهير حيث يجلس الكاتب المصري القديم والكتاب مفتوح أعلى فخذيه. لكن الطريف في اللوحة كانت القطة الرمادية التي جاءت لتنام في سلام على الكتاب المفتوح نفسه. ربما اختارها لأنه رأى السَكِينة في أن تنامَ بحضن كتاب.