تصوير محمد علي السوهاجي
وزير الخارجية المصري ورئيس الوزراء الفلسطيني في مؤتمر صحفي أمام معبر رفح ى18 أغسطس 2025

من المسافة صفر.. "مدام عفاف" في حملة علاقات عامة

منشور الأربعاء 27 آب/أغسطس 2025

على بوابة هناجر تخزين المساعدات التي ترفض إسرائيل إدخالها إلى قطاع غزة، بالقرب من مطار العريش الدولي، شدد أفراد الهلال الأحمر المصري في تعليماتهم للصحفيين الذين تجمعوا لتغطية زيارة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى إلى معبر رفح البري، 18 أغسطس/آب الجاري، على أن التصوير ممنوع تمامًا في الداخل. وحدها مراسلة قناة CNN الأمريكية، التي أجرت لتوِّها حوارًا حصريًا مع وزير الخارجية بدر عبد العاطي، من سُمح لها بالتقاط الصور. 

كانت المراسلة الأمريكية ضمن وفدٍ ضمَّ مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية والعربية، مثل BBC وسكاي نيوز عربية، رافق الوفدين الرسميين لمصر وفلسطين على متن الطائرة التي أقلَّتهم من القاهرة. أما الإعلاميون المصريون الذين توافدوا أيضًا لتغطية الحدث، فجاؤوا برًّا بحافلات، ولم يحظَ أي منهم بفرصة التواصل مع أي مسؤول، إلا خلال وقائع "المؤتمر الصحفي".

فور وصوله العريش، تحرك الموكب الرسمي ومعه الصحفيون الأجانب إلى مركز الخدمات اللوجستية بالقرب من المطار، حيث اطِّلعوا على آليات تجهيز المساعدات والطرود الغذائية، وهناجر التخزين المخصصة للأدوية، وزار الوفد الوزاري هنجر المساعدات "المرتجعة" التي رفضت إسرائيل دخولها إلى غزة وأعادتها من معبر كرم أبو سالم.

"مدام عفاف" تخاطب العالم

الرئيسة الأيرلندية السابقة ماري روبنسون ورئيسة وزراء نيوزلندا السابقة هيلين كلارك مع ممثلين عن الهلال الأحمر المصري، ضمن زيارة وفد منظمة الحكماء معبر رفح، 11 أغسطس 2025

أمام بوابة المعبر الرئيسية، وضع الصحفيون والإعلاميون كاميراتهم على ستاند الخطابة الذي بُني أمامها، وفُرِشت تحته سجادة حمراء وُضِعت عليها في البداية أواني زهور من الجانبين وعلم مصر في الخلفية، لكن مسؤولي المراسم أزالوها بعد مداولات، عندما استهجنها الإعلاميين المصريين الذين كانوا ينتظرون وقائع المؤتمر الصحفي لعبد العاطي مع رئيس الوزراء الفلسطيني، كونها لا تتناسب مع المأساة التي يعانيها الفلسطينيون في القطاع.

كما تولَّت مديرية الشباب والرياضة نقل عشرات الشبان والشابات من مراكز شباب العريش في حافلات، لحشدهم أمام المعبر، بينما تصدح أناشيد وطنية مصرية عبر مكبرات صوت في المكان.

أما شاحنات المساعدات فتراصت في طابورين؛ واحد لشاحنات الهلال الأحمر المصري، والثاني لشاحنات التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، ولم تتحرك من موقعها طوال الزيارة.

كان عبد العاطي، وهو يصطحب رئيس الوزراء الفلسطيني إلى معبر رفح، يقف على المسافة صفر من أزمة بدأت القاهرة تواجهها مع اصطفاف معارضين مصريين على أبواب سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في أوروبا والولايات المتحدة، يطالبونها بـ"إنهاء حصار قطاع غزة" و"فتح معبر رفح". وبعد أن التقطت الخيط تيارات إسلامية من فلسطينيي الـ48 في الداخل الإسرائيلي، شنَّت القاهرة هجومها المضاد، الذي بدأ بالمعارضين ولكن لم ينتهِ بهم.

ولأن التنصّل من اتهامات إغلاق المعبر يستلزم إلقاءها في حجر إسرائيل؛ شكَّلت هذه المظاهرات اختبارًا لنهج "الصبر الاستراتيجي"، الذي تتبعه القاهرة منذ عقود في إدارة العلاقات مع تل أبيب وواشنطن، ومن أهم ملامحه عدم الانخراط في سجالات دبلوماسية وسياسية مع أيٍّ من العاصمتين، وإيصال الرسائل بصرامة في الغرف المغلقة، مع تفعيل وضعية "مدام عفاف" في العلن، عبر "إغراق من يطالبون القاهرة بما لا تريد ولا تنوي فعله في تفاصيل فنية وإدارية وسياسية معقدة لا حصر ولا نهاية".

لذلك، وبالإضافة إلى حشد المؤيدين قرب السفارات المصرية في الخارج ومحاولتهم فرض "حظر تجوال" حولها، ما رتَّب على بعضهم تهمًا جنائيةً وملاحقاتٍ قضائيةً، أطلقت الخارجية المصرية حملة علاقات عامة خاطبت فيها العالم، اضطرت خلالها لتصعيد خطابها في وجه إسرائيل. فخلال الشهر المنصرم، شهد معبر رفح زياراتٍ لشخصيات دولية؛ وثَّقت فتحَه من الجانب المصري وكونَه غير مخصص لإدخال المساعدات وإغلاقَه من الجانب الفلسطيني الذي تحتّله إسرائيل ودمَّرت منشآته بالفعل. كما اطَّلعت الوفود على آليات إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. 

ففي 30 يوليو/تموز الماضي، تفقد المعبر السفير الدنماركي في القاهرة لارس بوملر مع اللواء خالد مجاور محافظ شمال سيناء. وبعد أسبوعين زاره وفد منظمة الحكماء/The Elders المستقلة، الذي ضمَّ الرئيسة الأيرلندية السابقة ماري روبنسون، ورئيسة الوزراء النيوزيلندية السابقة هيلين كلارك، مع وفدٍ أممي لممثلي المنظمات التابعة للأمم المتحدة في القاهرة، تتقدمهم إيلينا بانوفا، المنسقة المقيمة للمنظمة الدولية الرفيعة في مصر.

لكنَّ لحظة الذروة كانت تلك الزيارة، الأولى، للوزير عبد العاطي إلى المعبر مع الوفد الفلسطيني رفيع المستوى. فاصطحب الإعلاميين الدوليين على متن الطائرة، حيث اختصَّ مراسلة CNN بحوار حصري لخَّص فيه الموقف المصري من قضية تهجير الفلسطينيين وحصارهم وإغلاق المعبر، وعلى الأرض، أتاح للمراسلين الأجانب التصوير بحرية في كافة جولات الزيارة التي شملت مخازن المساعدات وحتى مستشفى العريش العام.

خلال الزيارة، بيّن الوزير المصري أن المساعدات الإنسانية تدخل من بوابة فرعية ملاصقة للبوابة الرئيسية للمعبر، تمر منها الشاحنات لتأخذ منحنى جنوبًا بطول 4 كيلومترات نحو معبر كرم أبو سالم التجاري. وهناك تُفرّغ المساعدات في الجانب الإسرائيلي الذي يعرقل إدخال المساعدات بعد تفتيشها، ولا يسمح بمرور أغلبها.

شاحنة مساعدات تنتظر التصريح بالدخول من معبر رفح، 18 أغسطس 2025

تغادر الوفود ويبقى الحصار

على طريقة "مدام عفاف"، رمز البيروقراطية المصرية، المعنية باستيفاء القواعد وتستيف الورق، نهضت وزارة الخارجية في حملة علاقات عامة في الداخل والخارج، تهدف إلى تحسين صورتها بنفي مسؤولية التورط في حصار القطاع، ونجحت في ذلك.

ولكن تلك الحملة لم تقترن بضغوط دبلوماسية جادة على إسرائيل لإنهاء هذا الحصار. ولم تسمح الشروط التي فُرضت خلال حملة "تحسين صورة مصر" بأن يواجه الوزير عبد العاطي أي أسئلة صحفية عن فائض القوة الإسرائيلي الذي يتيح لتل أبيب إحكام الحصار على القطاع دون دفع أثمان دبلوماسية، خاصة وأن مجموع ما أفلت من مساعدات إلى داخل غزة منذ 27 يوليو الماضي وحتى 19 أغسطس الجاري 2556 شاحنة فقط، تحمل على متنها نحو 18 ألف طن، لتضع الجميع أمام واقع أن الحكومة الإسرائيلية هي المتحكم فعليًا في كافة المسارات.

في الوقت ذاته، في العريش، حيث محطة الاستقبال الأولى للمساعدات، من خلال ثلاثة مسارات برية وبحرية وجوية، تتكدس المساعدات في مخازن أكبرها هنجر تابع للهلال الأحمر المصري، به مجموعة خيام عملاقة لاستيعاب المساعدات المتراكمة، كان قبلة الوفود الدولية التي تتفقد مسارات المساعدات. إحدى خيام هذا المركز تُسمَّى "خيمة المرفوضات"، تحتوي المواد الإغاثية التي أعادتها إسرائيل، وإليها يدخل الجميع ولكن يُمنع التصوير، إلا لمراسلة CNN.

على الطريق لمعبر رفح توجد بوابة حديثة التصميم، تقع قبل المعبر بحوالي كيلومترين، تتوسط جدارين من الأسمنت، يمتدان حتى معبر رفح البري، وقد ثُبِّت عليها شعار السلام العالمي بلونه الأصفر الذي لم يستطع أحد من الزائرين دوليًا ومحليًا ترجمته إلى خطوات فعلية تتيح للفلسطينيين في غزة سلامًا وطعامًا.

ربما نجحت حملة العلاقات العامة التي خاضتها الخارجية المصرية في إبراء ذمتها، وإثبات تهم التجويع على الثور الهائج الذي هشَّم زجاج الشرق الأوسط، لكنها فشلت في تمكين الفلسطينيين في غزة من الطعام والسلام، وإتاحة حقوق المعرفة والكشف والمساءلة لوسائل الإعلام المصرية. وأثبتت، ضمن ما أثبتت، هشاشة المنظومات السياسية القديمة، وعجزها إلا عن جلب البراءة.