بإذن للمنصة، سبتمبر 2025
أليكس دي وال المدير التنفيذي لمنظمة السلام العالمي

حوار| أليكس دي وال: مجاعة غزة قرار إسرائيلي ولا تشبه أي سابقة

منشور الثلاثاء 9 أيلول/سبتمبر 2025

لم يكن إعلان الأمم المتحدة في 22 أغسطس/آب الماضي المجاعة في غزة سوى إقرار دولي بما سبق وحذرت منه وكالات الإغاثة وخبراء سوء التغذية. ورغم أهمية الإعلان في تأريخ مدى قسوة الحرب، فإنه لم يُوقف الجريمة التي لا تزال مستمرة أمام أعين العالم في ظل احتلال يعتبر التجويع أحد أسلحته في العدوان على غزة.

بعد نحو أسبوع من الإعلان، جدد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش دعوته لإبادة سكان قطاع غزة، مشددًا على وجوب قطع المياه والكهرباء والطعام عن القطاع حاملًا القتل للجميع، فـ"من لا يموت بالرصاص سيموت جوعًا".

لذا فإن أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي يضع في الحوار الذي أجرته معه المنصة عبر الإيميل توصيفًا صارمًا لهذه المجاعة غير المسبوقة باعتبار أن "ما يحدث في غزة لا يشبه أي مجاعة درستها من قبل. في دارفور أو إثيوبيا كان هناك تعقيد وتنازع روايات، أما هنا فالمسؤولية المباشرة واضحة، والخطة تقوم على إخضاع السكان عبر الجوع".

دي وال أستاذ بجامعة تافتس الأمريكية وواحد من أبرز الباحثين في قضايا الحروب والمجاعات واستخدامها سلاحًا في الحروب، ولديه خبرة ممتدة لعقود في متابعة المجاعات بإفريقيا، ونشر عددًا من الكتب والأبحاث بخصوص التجويع.

مجاعة مع سبق الإصرار والترصد

حذّر برنامج الغذاء العالمي خلال أغسطس هذا العام من أن أكثر من ثلث مواطني غزة يعانون نقص الغذاء لأيام متواصلة، ويتفاقم سوء التغذية الحاد، مع تعرض أكثر من 300 ألف طفل لخطر شديد.

ونشر دي وال نهاية الشهر نفسه ورقة تحليلية حاولت تحديد عدد من ماتوا جوعًا في غزة. لم يكن هدفه الوصول إلى رقم نهائي بقدر ما كان رصد حجم الفجوة بين الضحايا الذين يسقطون تحت القصف، وأولئك الذين يفقدون حياتهم ببطء تحت الحصار، مؤكدًا أن "الأرقام مهمة، لكن الأهم هو إدراك أن المجاعة ليست حدثًا عارضًا، بل نتيجة قرار سياسي، فهنا يُمارَس التجويع أداة حرب، على مرأى الجميع".

عائلة لاجئة في مخيم المغازي وسط قطاع غزة تعمل على إنتاج الخبز في فرن بلدي في ظل إغلاق المخابز الآلية نتيجة الأزمة الإنسانية، 10 يونيو 2025

وفي 22 أغسطس، نشر دي وال تقريرًا مصورًا بعنوان "هندسة التجويع في غزة"، أعده بالاشتراك مع فريق Forensic Architecture، يحتوي على خرائط ولقطات جوية توضّح كيف تُستخدم المعابر والمساعدات الإنسانية ضمن بنية كاملة للحرمان، بحيث يتحول تدفق الإمدادات إلى أداة للسيطرة على حياة السكان لا إنقاذهم.

وتسيطر إسرائيل على معبر رفح من ناحية الأراضي الفلسطينية منذ السابع من مايو/أيار 2024، كما تتحكم في معبر كرم أبو سالم المجاور له، الذي تعتمد عليه بشكل مباشر في إدخال المساعدات إلى غزة، وتستخدمه أداةً لتطبيق حصار كامل على القطاع، الذي يواجه أيضًا قصفًا يوميًا يقتل ويصيب العشرات فضلًا عن هدم المباني والبنية الأساسية منذ السابع من أكتوبر 2023.

"على مدى العقود الأخيرة، كانت جميع المجاعات في العالم ناتجة بالكامل أو بدرجة كبيرة عن الحروب، حيث يكون التجويع إما نتيجة للسعي المتهور وراء أهداف الحرب، أو فعلًا متعمدًا. حدث ذلك في إثيوبيا، شمال نيجيريا، الصومال، جنوب السودان، السودان، سوريا واليمن. والآن يحدث في غزة أيضًا" يقول دي وال.

يوضح أنه في بعض الحالات، حدث هذا التجويع على خلفية فقر مدقع، وانعدام الأمن الغذائي، وانهيار الحوكمة، كما كان الحال في الصومال، إذ قالت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في فبراير/شباط الماضي إن بياناتٍ جديدةً من الصومال تظهر أن 4.4 مليون شخص قد يواجهون الجوع بسبب تفاقم ظروف الجفاف والصراع وارتفاع أسعار المواد الغذائية.

وفي السودان، تكررت دورات النزاع والحرمان والضغوط الاقتصادية والبيئية والمجاعة لنصف قرن، أما في سوريا وقطاع غزة، حسب دي وال، فالوضع مختلف؛ فقد تمتع السكان قبل النزاع بمؤشرات جيدة جدًا في التغذية والصحة في المدن التي فرضت فيها حكومة بشار الأسد على الناس "الاستسلام أو الجوع"، وفي غزة بعد 7 أكتوبر 2023، كان الانزلاق إلى المجاعة متعمدًا بالكامل وسريعًا للغاية.

قوانين واتفاقيات 

يذكّر الباحث في قضايا الحروب والمجاعات بأنه جرى حظر التجويع لأول مرة بموجب القانون الإنساني الدولي في البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف لعام 1977، ثم أُدرج ضمن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، التي اعتبرت "استخدام التجويع المتعمد للمدنيين أسلوبًا من أساليب الحرب، بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة وصول الإغاثة عمدًا كما نصت اتفاقيات جنيف".

وفي يونيو/حزيران الماضي، حذر تقرير أممي من أن سكان خمس بؤر ساخنة للجوع حول العالم يواجهون مستويات مرتفعة للغاية من الجوع وخطر الموت جوعًا في الأشهر المقبلة، ما لم تُتخذ إجراءات إنسانية عاجلة وجهود دولية منسقة لتهدئة النزاعات، ووقف النزوح، وتكثيف الاستجابة الإنسانية الشاملة، لافتًا إلى أن "السودان وفلسطين وجنوب السودان وهايتي ومالي هي بؤر تستدعي أعلى درجات القلق". 

التجويع ليس مجرد تجربة فردية بل تجريد جماعي من الإنسانية

ويشير دي وال إلى نقطتين أساسيتين؛ أولاهما أن "المواد التي لا غنى عنها للبقاء" لا تعني الطعام فقط، بل تشمل المياه، الصرف الصحي، الرعاية الصحية، المأوى، الوقود، وكل ما يُعتبر أساسيًا، مثل رعاية الأمهات للأطفال الصغار، ولذلك يعتبر أن "منع وصول المساعدات الإنسانية هو جزء ثانوي من الجريمة"، موضحًا أنه في كلٍّ من السودان وغزة، يتمثل العنصر الأساسي لجريمة الحرب المتمثلة في التجويع في تدمير الزراعة والغذاء، والبنية التحتية الحيوية مثل المياه والصرف الصحي، والخدمات الصحية، وإتاحة الوصول إلى الأموال والأنظمة المصرفية، وغيره.

النقطة الثانية التي يشير إليها هي المادة 2(ج) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، التي اعتبرت "إخضاع الجماعة، عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا" أحد الأفعال التي تعرف بها جريمة الإبادة الجماعية.

ويلفت دي وال إلى أنه يمكن تفسير هذه المادة بأن خلق سياق لا يستطيع فيه أي مجتمع الاستمرار ككيان بكرامة إنسانية وروابط اجتماعية أساسية، جريمة إبادة جماعية. و"هذا يوضح أن التجويع ليس مجرد تجربة فردية، بل عملية تجريد جماعي من الإنسانية، تدفع الناس إلى سلوكيات مذلة؛ التنافس على الطعام، كسر المحرمات الاجتماعية، السرقة وإخفاء الطعام، بل وحتى رفض إطعام أفراد الأسرة والجيران".

وينوه الباحث المتخصص في سياسات التجويع إلى أن في عام 2018 اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار 2417 بشأن النزاعات المسلحة والجوع، الذي يحظر استخدام التجويع سلاحًا، وألزم الأمم المتحدة بالتحرك السريع عندما يهدد النزاع المسلح بالتسبب في انعدام أمن غذائي واسع النطاق أو مجاعة، مؤكدًا أن كل هذه العناصر موجودة اليوم في السودان وغزة.

مجتمع دولي عاجز

خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي، 24 يوليو 2024

وعن دور الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية إزاء هذه المجاعة، وما إن كانت بالفعل تقوم بدورها أم أنها مقيّدة سياسيًا، يؤكد دي وال أن ما يميز مجاعة غزة عن غيرها أنها تحدث بينما تمتلك الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية كل القدرات والموارد والشبكات والجاهزية للاستجابة الفورية، "هي على بُعد ساعة واحدة بالسيارة من الضحايا، الوضع مختلف عن السودان مثلًا".

ويلقي بالاتهام على "إسرائيل والداعمين لها بالأخص الولايات المتحدة" في قطع طرق الاستجابة، و"منع عملية إغاثة محترفة وإنسانية في غزة"، معتبرًا مؤسسة "الإغاثة الإنسانية لغزة" بديلًا هاويًا وخطيرًا، يجب إغلاقها وتوجيه مواردها إلى منظمات إنسانية محترفة.

ويشدد  دي وال على ضرورة "تفعيل النظام الإنساني القائم بالفعل عبر ضمان وصول المساعدات دون عوائق"، كخطوة أولى للإنقاذ الفوري للمدنيين في غزة، مع توسيع الرعاية الصحية بشكل عاجل لإنقاذ آلاف الأطفال الذين يموتون جوعًا ويحتاجون علاجًا مكثفًا يتجاوز مجرد الطعام. وهو ما يتطلب وقف إطلاق النار وتشغيل المستشفيات.

أعلى نسبة من الفلسطينيين في غزة انزلقت إلى الجوع المدقع والحرمان

ويؤكد كذلك على ضرورة توفير معلومات دقيقة من خلال السماح بدخول الصحفيين وجمع البيانات الإنسانية، مشيرًا إلى أنه منذ ديسمبر/كانون الأول من عام 2023، ومبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي/IPC تطلب بيانات أفضل، وهو ما يُقابل برفض إسرائيل، التي تعود وتنتقد التقارير بحجة ضعف البيانات، في حين أنها هي من تمنع جمعها.

يلفت دي وال إلى أنه خلال الشهر الماضي، خلصت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة التابعة للحكومة الأمريكية (FEWS NET) للنتيجة نفسها التي انتهت لها الأمم المتحدة من إثبات أن المجاعة موجودة في غزة. ورغم أن نتنياهو وصف تقرير الأمم المتحدة بأنه "كذبة واتهام دموي"، لم يقل شيئًا عن تقرير الحكومة الأمريكية.

وبينما يعتبر ما يشهده السودان حاليًا "أوسع وأعمق مجاعة"، إذ يحتاج نصف السكان إلى مساعدات طارئة، وهناك نحو مليون شخص في ظروف مجاعة فعلية، فإنه يرى أن مجاعة غزة هي "الأكثر كثافة"، لأن  أعلى نسبة من السكان انزلقت إلى الجوع المدقع والحرمان بشكل منهجي، مشبهًا ذلك بما حدث في سوريا، "لكن على نطاق أوسع ودمار أكبر".

ويشدد صاحب كتاب Mass Starvation: The History and Future of Famine/التجويع الجماعي: تاريخ المجاعات ومستقبلها، على أن العالم لم يشهد مجاعة بهذا الحجم منذ عقود، منذ مجاعات منتصف القرن العشرين التي كانت أكبر وأشد فتكًا، ففي الصين بين 1958-1962 مات 36 مليونًا، وفي مجاعات الحرب العالمية الثانية مات حوالي 20 مليونًا.

ويشير إلى أنه حتى وقت قريب، كان هناك إجماع دولي قوي ضد استخدام التجويع بهذه الطريقة، ما جعل عدد المجاعات ينخفض، معتبرًا قرار مجلس الأمن 2417 يمثّل ذروة هذا الجهد، "حينها، كانت الدول الكبرى تنتقد خصومها؛ الولايات المتحدة تدين سوريا، روسيا تنتقد السعودية والإمارات بسبب اليمن، والجميع أدان الأطراف المتحاربة في جنوب السودان والصومال".

ويلفت دي وال إلى أن التحول الكبير حدث في 2021 عندما فرضت إثيوبيا حصارًا على تيجراي، بعدها بدأت الحكومات بفرض التجويع دون عواقب، و"الآن نرى إفلاتًا من العقاب في ميانمار ضد الروهينجا، وفي إثيوبيا، وفي الحروب في السودان وغزة. في الجوهر، المسألة هي الإفلات من العقاب، فمن يمارس التجويع يتوقع أن ينجو دون حساب".

جريمة كاملة وعدالة ناقصة

نازحون قسريًا في غزة يعانون من شح الطعام، 29 فبراير 2024

وعن الآليات الدولية المتاحة لمحاسبة المسؤولين عن استخدام التجويع سلاحًا، يشير دي وال إلى أن هناك إمكانية للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو في محاكم وطنية بموجب الولاية القضائية العالمية. وإن "لم توجد سوابق كثيرة، ولا أتوقع قضايا قريبة".

وأشار إلى أن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية استندت إلى اتفاقية الإبادة الجماعية، مشيرًا إلى أنه رغم أن صدر قرار من المحكمة قد يستغرق سنوات، فإن أهم واجب أكدت عليه المحكمة هو منع الإبادة، وأمرت إسرائيل بتوفير مساعدات إنسانية كاملة وخدمات أساسية بالتعاون مع الأمم المتحدة.

ويلفت إلى أن عدم تنفيذ ذلك قد يجعل إسرائيل مسؤولة عن الإبادة، كما قد يُحمّل الدول الموقّعة على الاتفاقية "مسؤولية التواطؤ"، مشددًا على أن العدالة الانتقالية للضحايا قد تشمل رواية الحقيقة، الاعتذار، التعويضات، فالمحاكمة ليست الشكل الوحيد للعدالة.

مع ذلك لا يرجح دي وال "إجراء محاكمات في الظروف الحالية"، مشددًا على أن تجاهل أحكام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، بل وفرض الولايات المتحدة عقوبات على قضاتها "يترك أثرًا مخيفًا جدًا، إذ يقوض المعايير الإنسانية والقانون الدولي ويشجع أنظمة أخرى على الإفلات من العقاب".

ينوه الأستاذ بجامعة تافتس للآثار طويلة المدى لاستخدام التجويع سلاحًا على المجتمعات المحلية، معتبرًا أنه على مستوى الأفراد فإنه سيجعل الأطفال يعانون من آثار دائمة على مدى حياتهم؛ فالمحرومون من التغذية في الصغر أو حتى داخل الرحم لا يحققون أبدًا القدرات البدنية أو الذهنية الكاملة.

أما على مستوى المجتمع، فيشير إلى أن التجويع يؤدي إلى "إصابته بصدمة، حيث تفقد الجماعة كرامتها وروابطها الاجتماعية. غالبًا ما يستمر الأثر لأجيال. كما حدث في أيرلندا بعد المجاعة الكبرى في القرن التاسع عشر، إذ استغرق الأمر أكثر من قرن حتى أصبح ممكنًا إحياء ذكراها علنًا".

في 2005 نشر دي وال كتابه دارفور: تاريخ حرب وإبادة، الذي يُعتبر أحد أهم الكتب التي تناولت الأزمة في إقليم دارفور  (1984-1985)، واستنادًا إلى هذه التجربة يقول "شهدت كيف حطمت المجاعة في دارفور أسلوب حياة البدو العرب (المهاميد الرزيقات) وروابطهم مع المزارعين من قبائل الفور. بعد 20 عامًا، قاد نجل الشيخ الذي قابلته، موسى هلال، ميليشيات الجنجويد التي أرعبت دارفور".

لكلِ ذلك يشدد على ضرورة الاستمرار في تسليط الضوء على التجويع جريمة حرب، وعلى أساليب الإنكار والإخفاء التي يستخدمها مرتكبوها.