
غزة على جهاز تنفس تحت تحكم إسرائيل
بسريان اتفاق وقف الحرب، ودخول وقف إطلاق النار في غزة، حيز التنفيذ يوم الجمعة 10 أكتوبر/تشرين الثاني الجاري، تراجعت آليات الاحتلال الإسرائيلي من مدن وسط غزة، ولكنها لا تزال تسيطر على ما يزيد على نصف مساحة القطاع خلال المرحلة الأولى من الاتفاق.
على الفور بدأت عناصر الأمن التابعة لحركة حماس بالانتشار على المفترقات العامة والحيوية، في خطوة أولى لاستعادة السيطرة الأمنية، رغم التصريحات الأمريكية والإسرائيلية المتكررة، التي أكدت الاتفاق على تسليم حماس سلاحها خلال المرحلة الثانية من الاتفاق.
الحساب أولًا
بشكل فوري، أصدرت وزارة الداخلية التابعة للحركة بيانًا دعت فيه كل من ارتكب مخالفة قانونية ولم تلطخ أيديه بالدماء إلى التوبة من خلال تسليم نفسه للجهات الأمنية لتسوية أوضاعه القانونية خلال أسبوع.
في المقابل، توعّدت حماس الجماعات المسلحة المتهمة بالتعاون مع الاحتلال وقتل عناصر من المقاومة، وكل من مارس سرقة أملاك المواطنين واعتدى عليهم بالضرب أو القتل بالملاحقة الفورية.
أثبتت حماس أنها لم تنس ولم تتهاون مع المتعاونين مع الاحتلال
فور صدور البيان، باشرت عناصر الأمن والمقاومة شن حملات أمنية بالنار على عدد من المناطق وأوكار من تتهمهم بالتعاون مع الاحتلال وارتكاب جرائم في مختلف المناطق.
تركزت الحملات على مداهمة مجموعات وعائلات مسلحة والاشتباك معها ما أدى لمقتل عدد من الجانبين، وتمكن الأمن من السيطرة على المناطق واعتقال العشرات واقتيادهم إلى مراكز التحقيق، تبعتها عملية إعدام ميداني بالرصاص بين حشود المواطنين لسبعة من المتهمين، وإحراق منازلهم.
حماس، التي من المفترض أن تُسلم سلاحها وتُسلم مقاليد الحكم إلى لجنة دولية بمشاركة فلسطينية لإدارة القطاع خلال المرحلة المقبلة، لم تُضع وقتها، وكانت خططها الأمنية جاهزة خلال الأسابيع والأشهر الماضية انتظارًا للحظة التي تتمكن فيها من فرض السيطرة والمحاسبة، حسب ما قال مصدر أمني، فضَّل عدم نشر اسمه لـالمنصة، في إشارة منه إلى استغلال الوقت قبل الدخول في مراحل الاتفاق التالية.
أثبتت حماس بذلك أنها لم تنس ولم تتهاون مع من وصفتهم بالعملاء والمتعاونين مع الاحتلال في عمليات قتل واغتيال طالت عناصر المقاومة الفلسطينية، وكل من ساهم في نشر الفوضى وترهيب المواطنين، مستغلة التأييد الشعبي من معظم الغزيين المتضررين خلال الإبادة.
وقت الإغاثة
بالتوازي مع خططها الأمنية، استُنفرت كافة الوزارات التابعة لحماس، الصحة والتنمية الاجتماعية والاقتصاد الوطني، لإعلان مباشرة العمل الميداني في الإشراف على مهامها.
وطالبت وزارة التنمية الاجتماعية المؤسسات الأهلية والدولية وحتى الأفراد المبادرين والعاملين في قطاع الإغاثة، بضرورة توزيع المساعدات الإنسانية الإغاثية على المواطنين بشكلٍ عادل، لضمان وصولها لكافة الفئات والأعمار وفي مختلف أماكن وجودهم بالقطاع.
في هذا الإطار، ووفق ما نصت عليه اتفاقية وقف إطلاق النار، سمح الاحتلال بدخول عشرات الشاحنات المحملة بمواد الإغاثية لعدد من المنظمات الدولية التي أعلنت عن استئناف عمليات التوزيع بعد توقفها لأشهر.
سعر الدجاجة الواحدة بلغ 120 شيكلًا أي ما يعادل 35 دولارًا
وصلت طرود غذائية وطحين وخيام وغيرها من المواد، كما سُمح بدخول بضائع تجارية لأول مرة، مثل الدواجن المجمدة وغاز الطهي وزيوت السيارات، وأشرفت وزارة الاقتصاد على عمليات توزيعها وتخفيض أسعارها.
رغم ذلك لا يزال الدجاج بعيدًا عن متناول اليد فأسعارها أعلى مما كانت قبل الحرب. حسب المواطن بسام فخري، 37 عامًا، لـ المنصة، يبلغ سعر الدجاجة الواحدة 120 شيكلًا أي ما يعادل 35 دولارًا، وهو سعر لا يستطيع غالبية الغزيين دفعه.
يشير بسام إلى أنّ ما دخل من كميات غاز الطهي لا يزال قليلًا في ظل الحاجة لأضعاف الكميات الواردة "كل الشعب بدّه غاز، وكل الشعب من شهور ما أكل دجاج أو لحوم، إحنا بحاجة لكميات أكبر وتخفيض الأسعار إلى المستوى الطبيعي".
إنقاذ الصحة
أما عن القطاع الصحي، الذي تعرض لأكثر من 788 هجومًا إسرائيليًا ما تسبب في تدمير وإخراج 38 مستشفى ومركزًا صحيًا عن العمل، إلى جانب تدمير عشرات من مركبات الإسعاف ومقتل 1670 ضحية من الطواقم والكوادر الطبية خلال عامين من الإبادة، فما زالت وزارة الصحة تعمل على تقديم خدماتها الطبية بأقل من الحد الأدنى في ظل عدم توفر الكهرباء، والأجهزة الطبية اللازمة والمباني والمرافق الصحية الكافية، وكذلك عدم توفر المستلزمات الطبية والأدوية والتطعيمات، حيث لا يزال الاحتلال يسمح فقط بمرور كميات بسيطة لا تسد الحاجة المطلوبة.
مع العجز والانهيار اللذين تعانيهما المرافق الصحية والمستشفيات، يحتاج جرحى الحرب الذي يزيد عددهم عن أكثر من 170 ألف جريح، إضافة إلى أصحاب الأمراض المزمنة مثل السرطان والفشل الكلوي، للعلاج وإجراء عمليات جراحية متخصصة في مستشفيات قادرة على تقديم خدماتها خارج قطاع غزة.
بذلك يكون مصير آلاف الجرحى مرهونًا بسماح الاحتلال لهم بالسفر للعلاج، فيما يعاني المئات منهم من البتر والشلل وحالات فقدان للبصر، وذلك بالتوازي مع الحاجة لإدخال المعدات والمواد اللازمة لتعافي القطاع الصحي واستعادة قدرته.
لا مدارس ولا معلمين
فيما يتعلق بقطاع التعليم، وبعد تعرض 670 مدرسة و165 جامعة ومؤسسة تعليمية للتدمير الكلي، إضافة إلى مقتل أكثر من 800 معلم خلال الإبادة، لا يزال معظم الطلاب الغزيين بلا مدارس وبلا تعليم للعام الثالث على التوالي.
ويقتصر تلقي الخدمة التعليمية على عدد محدود من الطلاب عبر المدارس الإلكترونية التي تتبع وزارة التعليم في الضفة الغربية، وكذلك ما أعدته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، من فصول بسيطة وهو ما لا يتيسر للكثير من الطلاب.
يوضح كاظم السيد، 42 سنة، لـ المنصة، أنّ التعليم الإلكتروني بحاجة إلى توفر موبايل وكهرباء لشحن الطاقة، وكذلك إنترنت جيد ليتمكن الطالب من تلقي التعليم، "المحظوظون فقط من تتوفر عندهم بعض الإمكانيات، لكن غالبية أبنائنا متروكون بلا تعليم".
ويكشف مصدر في مؤسسة دولية لــ المنصة، فضّل عدم نشر اسمه، أنّ منظمته وضعت خطة لاستئناف العملية التعليمية في قطاع غزة، حيث من المقرر إدخال آلاف الكرفانات لإعدادها بديلًا عن مباني المدارس، إلَّا أنّ ذلك يتطلب وقتًا "ما زلنا في بداية مرحلة التعافي، ونبذل جهدًا في تسريع إدخال ما هو مطلوب لإطلاق العملية في أقرب وقت".
شعب الخيام
عامان من الحرب والإبادة كانا كفيلين بتدمير كافة القطاعات الخدمية والحيوية والمرافق، وحتى المنازل التي كانت تؤوي الغزيين، حيث دُمر أكثر من 300 ألف وحدة سكنية بشكل كلي، فيما تعرضت أكثر من 200 ألف وحدة سكنية للتدمير الجزئي، ما يعني أنه لا يزال أمام الغزيين سنوات من العيش في خيام، انتظارًا لبدء عمليات رفع الركام ثم إعادة إعمار وتطوير ما دمرته الحرب، وذلك بتمويل دولي وإشراف من منظمات الأمم المتحدة، التي بدأت في إعداد الخطط للتنفيذ.
الاحتلال ما زال جاثمًا
صحيح أنّ ما يجري على الأرض يمكن أن يمهد الطريق أمام استعادة الحياة، إلا أنّ مرحلة التعافي الحالية التي تشمل مختلف القطاعات، تعترضها الكثير من العقبات، حيث لا بد من إتمام عمليات تبادل الأسرى والجثامين بين حماس والاحتلال، وتسليم حماس للحكم بما يسمح للجنة الدولية الفلسطينية بمباشرة عملها.
وتبقى العقبة الأكبر أنّ الاحتلال الإسرائيلي هو المتحكم في كافة المعابر ومنافذ القطاع مع العالم الخارجي، والمتحكم كذلك في الكميات الواردة من المواد الغذائية والطبية واللوجستية، وهو الذي يفرض عدد ونوع الآليات الخاصة برفع الركام، وكميات مواد البناء والإعمار.
فعليًا يسيطر الاحتلال على أكثر من نصف مساحة القطاع البالغة 365 كيومترًا مربعًا، ويتحكم في وصول الكهرباء والماء، ومن يدخل أو يخرج من غزة، وبإمكانه منع المسافرين من السفر حتى من هم بحاجة لتلقي علاج غير متوفر في الداخل.
أي أنّ استعادة حياة الغزيين لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر رهن القرار الإسرائيلي، ليس في المجال الأمني فقط، لكن حتى فيما يتعلق بالغذاء والماء لسنوات قادمة.