هل تنجح العقوبات في إيقاف تشغيل الاقتصاد الإسرائيلي؟
مضى نحو أسبوعين على بدء وقف إطلاق النار في غزة، ورغم هشاشة الاتفاق وعدم وضوح الخطوات التالية فيما يتعلق بإدارة القطاع ونزع سلاح حماس، خصوصًا مع التربص الإسرائيلي بحثًا عن ذرائع للعودة إلى الحرب؛ تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا على جميع الأطراف، لإنجاز ترتيب ينهي الحرب.
هذا لا يعني امتلاك إدارة ترامب رؤيةً لتسوية الصراع عبر حل الدولتين، فالتحركات الأمريكية تهدف على ما يبدو إلى إنهاء التصعيد العسكري لصالح ترتيب مستقر يضمن أمن إسرائيل، مع استمرارها كقوة احتلال تمارس المصادرة والاستيطان في الضفة الغربية، مع العودة لقتل الفلسطينيين المنهجي لكن بوتيرة أقل حدة من حرب غزة.
في الشهور الأخيرة من الحرب الإسرائيلية على غزة؛ تَجدد الإجماع الدولي على تسوية القضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين، وهو ما بلغ ذروته في مؤتمر الأمم المتحدة الذي قادت الجهود الدولية فيه كلٌّ من فرنسا والسعودية، وهو أمر له دلالته من الناحية العربية، لأنه يربط بجلاء أشكال التطبيع المستقبلي بين المملكة وإسرائيل بإقامة دولة فلسطينية، ومن الناحية الأوروبية (بالإضافة لبريطانيا وكندا وأستراليا)؛ انضمت غالبية الدول الغربية إلى الإجماع الدولي، باستثناء ألمانيا والولايات المتحدة بالطبع.
على خطى جنوب إفريقيا
بموازاة الإجماع الدولي شبه الكامل على حل الدولتين يتعزز في الداخل الإسرائيلي، ووسط الطبقة السياسية أيضًا، صوت رافض لإقامة دولة فلسطينية.
فعلى الأرض تتجه الأمور نحو سيناريو كامل الأركان من الأبارتايد؛ لم تنجح إسرائيل في تنفيذ خططها بالتطهير العرقي، كما تراجعت أكثر إدارات أمريكا تطرفًا عن دعمها فيما يخص طرد الفلسطينيين من غزة.
وعليه، تُحكِم إسرائيل سيطرتها على نحو خمسة ملايين فلسطيني، إضافةً إلى مليونين آخرين يُعاملون رغم جنسيتهم الإسرائيلية كمواطنين من الدرجة الثانية مقارنة بنظرائهم اليهود، أي ما يُعادل نحو نصف إجمالي السكان بين البحر والنهر.
المجتمع المدني العالمي قاد حملات مقاطعة شرسة لجنوب إفريقيا
أما فلسطينيو الضفة وغزة فلا يحظون بأي حقوق سياسية، وحقوقهم الإنسانية منقوصة، وهم عرضة لمصادرة الأرض والتهجير والقتل الدوري، ويخضعون لاحتلالٍ مؤبدٍ بلا أفق لإنهائه، في ظل غياب فرص واقعية لإبادتهم أو طردهم جماعيًا.
هو ذاته سيناريو جنوب إفريقيا باستثناء أن الخلل الديمغرافي في الحالة السابقة كان أكثر انحيازًا للسكان الأصليين في مواجهة المستوطنين، فقد مثَّل البيض 14% من السكان عام 1990 في مواجهة 75% من السود، وهو ما يجعل من الصراع في الحالة الإسرائيلية/الفلسطينية أشد ضراوةً وعنفًا خاصة مع ضيق المساحة محل النزاع بين الشعبين.
تأسست الدول الحديثة على مبادئَ ديمقراطيةٍ، مفادها أن الدول ككيانات سياسية ذات سيادة، دائمًا ما تدعي أنها تجسد إرادة شعوبها بغض النظر عن مدى مصداقية الادعاء. الاسم الرسمي لكوريا الشمالية الرسمي، التي تعد أكثر النظم شموليةً على ظهر الكوكب تقريبًا، جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية.
لا شك أن هذا المبدأ المجرد كان حافزًا رئيسيًا لعزلة جنوب إفريقيا في زمن الفصل العنصري، وتعرضها لعقوبات لا من الدول حديثة الاستقلال فحسب، بل أيضًا الدول الغربية ذاتها، بالإضافة للمجتمع المدني العالمي الذي قاد حملات شرسة للمقاطعة والضغط على الحكومات المختلفة لعزل حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حينها.
في المقالين السابقين؛ هل تسير إسرائيل نحو نهاية مشابهة للأبارتايد؟، وحديث العقوبات، اشتبكت في نقاش حول إمكانية خضوع إسرائيل مستقبلًا لسيناريو شبيه بجنوب إفريقيا. وفي هذا المقال؛ أستعرض بعض الملامح الرئيسية لصلات الاقتصاد الإسرائيلي بالعالم، ومحاولة الكشف عن أوجه الضعف النسبي التي قد تجعله عرضةً لضغوط العقوبات الاقتصادية، سواء من الحكومات أو من حملات المقاطعة والتشهير في مجالي التجارة والاستثمار.
اقتصاد تقوده التكنولوجيا
ربما يكون العنوان الأنسب لوضع الاقتصاد الإسرائيلي في العالم هو التكنولوجيا مرتفعة القيمة في مجالات الحواسيب والاتصالات والفضاء والآلات والأجهزة والمنتجات الطبية والدوائية.
تفيد بيانات البنك الدولي بأن نصيب المنتجات مرتفعة المحتوى التكنولوجي في الصادرات الصناعية الإسرائيلية ارتفع من 8% في 2007 إلى 24% في 2015 ليواصل الارتفاع إلى 38% في 2023، وهي نسبة مذهلة خاصة إذا ما قُورنت بالنسبة العربية في 2024، التي لم تتجاوز 6%.
على نفس الشاكلة؛ مثَّلت صادرات تكنولوجيا المعلومات ما متوسطه 11.16% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية في الفترة 2000-2022، وهي نسبة أعلى من المتوسط المسجل في الفترة ذاتها لتجمع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم كبرى الاقتصادات الرأسمالية الديمقراطية.
الاقتصاد الإسرائيلي شديد العُرضة لضغوط اقتصادية قد تأتي من الغرب
ارتبط تخصص إسرائيل في إنتاج وتصدير التكنولوجيا المرتفعة بكونها دولةً أمنيةً عسكريةً من ناحية، وبنفاذ عدد كبير نسبيًا من رواد الأعمال الإسرائيليين إلى شبكات الشركات العاملة في المجالات كثيفة التكنولوجيا من ناحية أخرى، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
انعكس ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ على محتوى التجارة الدولية لإسرائيل. فبينما مثلت المنتجات الإلكترونية والكهربائية والآلات والمراجل النووية ومنتجات الفضاء والسلاح والبصريات والمنتجات الدوائية والطبية في 2024 ما مجموعه 51% من إجمالي الصادرات، مثّلت القطاعات ذاتها 32% من الواردات تقريبًا.
يمكن اعتبار ذلك دليلًا على أن قسمًا رئيسيًا من الصادرات يتم من خلال شبكات يتكامل فيها المنتجون الإسرائيليون مع نظرائهم في بلدان أخرى على رأسها بالطبع الولايات المتحدة، صاحبة 32% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، تليها كبرى الدول الأوروبية بإجمالي 27%.
أي أن أكثر من نصف صادرات إسرائيل ينتهي بها المطاف في أسواق غربية أمريكية أو أوروبية، علمًا بأن الصادرات شكلت 28% من الناتج المحلي الإسرائيلي في 2024 أي ما يقرب من الثلث.
تلعب الشركات الناشئة دورًا أساسيًا في هذه الشبكات ما يضمن تدفقات مستمرة من رؤوس الأموال والأفراد ذوي الخبرات والمهارات، بجانب المنتجات والخدمات بين إسرائيل وشركائها الغربيين بصورة أساسية بما يكامل التصور السياسي والثقافي لإسرائيل كمستعمرة غربية في شرق المتوسط.
انعكس هذا على الحضور الكبير لرؤوس الأموال الأجنبية في صورة استثمارات مباشرة، ففي الفترة بين 2000 و2024 بلغ متوسط صافي تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل 3.67% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بنسبة كبيرة على المتوسط العالمي (2.68%) في الفترة نفسها، علمًا بأن أعلى مستوى سجلته جنوب إفريقيا العنصرية كان 1.7% من الناتج في 1974.
يعني الارتفاع النسبي في الاستثمار الأجنبي المباشر والوزن النسبي للصادرات، خصوصًا التكنولوجي منها، أن الاقتصاد الإسرائيلي سيكون شديد التأثر بأي ضغوط اقتصادية قد تأتي من الغرب في صورة تقييدات على حركة التجارة، أو انسحابات لرؤوس الأموال من تلك المجالات.
العقوبات صعبة لكن ممكنة
حتى الآن، وباستثناء حكومات قليلة مثل إسبانيا وسلوفينيا، لم تتخذ الحكومات الأوروبية إجراءات مؤثرة على التجارة مع إسرائيل، فيما يظل الحديث عن عقوبات أمريكية ضربًا من ضروب الخيال.
إلا أن التحول الكبير في الرأي العام الغربي، خصوصًا الأمريكي، ضد إسرائيل على وقع المجازر اليومية، قد يحمل بعض التغيير في السنوات القليلة المقبلة في صورتين؛ الأولى، الضغط من المجتمع المدني والحركات الاجتماعية على الحكومات الغربية لاتخاذ إجراءات ملموسة لتسوية القضية الفلسطينية وإنهاء ما يشبه حالة الأبارتايد.
حدث هذا في حالة جنوب إفريقيا بدءًا من 1960 على وقع مجزرة شاربفيل، لكنه لم يترجم إلى إجراءات عقابية من قبل الحكومات إلا في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان النظام العنصري يترنح بالفعل تحت وقع أزماته الاقتصادية والسياسية الداخلية مع اشتداد المقاومة الإفريقية المسلحة والسلمية.
أما الصورة الثانية، فهي الضغوط المباشرة من المجتمعات المدنية في البلدان الديمقراطية على الشركات من خلال المقاطعة أو حملات التشهير، ولقد بدأ بعضها يأتي أكله بالفعل، إذ قررت مايكروسوفت في سبتمبر/أيلول الماضي حظر استخدام الحكومة الإسرائيلية لتكنولوجيا المراقبة الجماعية ضد الفلسطينيين على وقع احتجاجات متكررة من العاملين في الشركة.
لا يزال الطريق طويلًا، وإن كان بدأ بالفعل مع التحولات السياسية في المجتمعات الغربية، خصوصًا على وقع الانقسام السياسي ومواجهة ضغوط اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء. ولا شك أن إسرائيل كاقتصاد متقدم ومفتوح وشديد التداخل مع الاقتصادات الغربية الأمريكية والأوروبية، ستكون شديدة العرضة للضغوط من جانب هذه الأطراف.
ولعل التحدي الرئيسي لمناصري القضية الفلسطينية سيكون الإبقاء على الزخم الذي اكتسبته القضية أثناء الحرب، والانتقال من الحديث عن ربط العقوبات بالحرب والإبادة والتجويع إلى واقع الأبارتايد على الأرض، الذي يجب إنهاؤه كجزء من النضال ضد صعود العنصرية والسلطوية والتطرف الديني في الديمقراطيات الغربية نفسها.
وإن غدًا لناظره قريب.
