تصميم: أحمد بلال- المنصة
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أبو مازن

سلطة أوسلو وعقيدة "الانبطاح المجاني"

منشور الاثنين 8 أيلول/سبتمبر 2025

لم يشفع للسلطة الفلسطينية تقديمها شيكات على بياض لدولة الاحتلال وحليفتها الولايات المتحدة، تتعهد فيها باستمرار التزامها بـ"السلام ونبذ العنف"، وتذهب إلى حد وصف رفاقها في فصائل المقاومة بـ"الإرهاب"، وتزيد على ذلك بالهجوم على عملية 7 أكتوبر.

فقد ظلَّت نظرة تل أبيب وواشنطن إلى سلطة أوسلو كما هي لم تتغير، وكما تسعيان إلى التخلص من حركات المقاومة المسلحة باعتبارها حجر العثرة أمام تنفيذ مخطط إخضاع المنطقة، فإنهما في الوقت ذاته لا تريدان كيانًا سياسيًا، مهما كان هزيلًا أو خانعًا، يمثِّل الفلسطينيين ويُذكِّر المجتمع الدولي بـ"الدولة الفلسطينية".

كل تنازل تقدمه سلطة رام الله عن حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني، يقابله الصهاينة في أمريكا وإسرائيل بمزيد من الصلف، حتى وصل الأمر إلى عقابها على مساعيها السياسية للحصول على اعتراف من دول العالم بالدولة الفلسطينية، واستخدام حقها في التقاضي أمام المحاكم الدولية؛ بمنع الرئيس محمود عباس أبو مازن ووفد السلطة من دخول الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.

ما يحدث للفلسطيني الضعيف

رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس

الخطاب الذي أرسله حسين الشيخ نائب الرئيس الفلسطيني إلى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، يطالبه فيه بمراجعة القرار، نموذج لحالة الانبطاح التي أصابت سلطة أوسلو.

الشيخ الذي اعتبر في رسالته الولايات المتحدة نموذجًا لـ"القيادة والعدالة"، دعا الخارجية الأمريكية لمراجعة قرارها، محذرًا من أن هذا القرار يهدد بإسكات الصوت الفلسطيني في الأمم المتحدة. لم يعد الرجل ممثلًا لسلطة أوسلو، بقدر ما صار وكيلًا وظيفيًا لحكومة الاحتلال في الضفة.

ذكَّر الشيخ واشنطن، وهو يعترض على قرارها، بخدمات سلطته؛ فهُم مع "السلام" ولو صعَّدت إسرائيل جرائمها في غزة، ومع "نبذ العنف" حتى لو داهمت قوات الاحتلال مدن الضفة ليلًا ونهارًا وأطلقت النار في محيط مقر الرئاسة الفلسطينية، ومع "القوة الأمنية الشرعية الواحدة" التي تقمع المقاومة في المخيمات وتحمي المستوطنين، ومع "دولة منزوعة السلاح" لتظل مستباحة كما يحدث اليوم.

لم يلق استجداء الشيخ إلا التجاهل والازدراء من نموذج "القيادة والعدالة" الأمريكي، فروبيو الذي اتهم مسؤولي سلطة أبو مازن وهو يمنعهم من دخول بلاده بالسماح بـ"التحريض على الإرهاب في مناهجها التعليمية"، وبالتجرؤ على الدعوة من أجل الحصول على اعتراف دولي بفلسطين وباللجوء إلى المحاكم الدولية، لم يراجع قراره، بل اتخذ إجراءات مضادة لإجهاض أي محاولة أوروبية لإصدار اعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة المقبلة.

الأسوأ، أن الوزير الأمريكي مضى إلى ما هو أبعد، بتشجيع حكومة الاحتلال على فرض السيادة على الضفة وشرعنة البؤر الاستيطانية. فوفق تسريبات إعلامية، يخطط روبيو للمشاركة خلال زيارته المرتقبة إلى إسرائيل منتصف الشهر الحالي في فعالية ينظمها مستوطنون أسفل قرية سلوان، على مرمى حجر من المسجد الأقصى.

ورغم أن مشاركة روبيو في تلك الفعالية خطوة رمزية فإنها كاشفة؛ فالرجل الذي تصر السلطة الفلسطينية ومعظم دول الإقليم على التعامل مع بلاده كشريك وحليف استراتيجي، سيقف إلى جانب "جماعات الهيكل" الساعية لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكلها المزعوم مكانه، ليمنح شرعية علنية للمشروع الصهيوني، وهو ما يؤكد أنه وإدارته أكثر صهيونية من حكومة نتنياهو ذاتها.

"الضم شأن إسرائيلي داخلي لا تتدخل واشنطن في تفاصيله"، هكذا عبر روبيو عن استراتيجية بلاده، فوزير الخارجية الذي يرى أن اعتراف أوروبا بدولة فلسطينية "سيولد مزيدًا من المشاكل"، يعبر عن رؤية دونالد ترامب الذي يعتبر أن إسرائيل بحدودها الحالية "صغيرة للغاية" على الخريطة.

"تكليف إلهي" بالإبادة

خطاب حسين الشيخ لم يكن النموذج الوحيد على الحالة التي تمر بها سلطة أوسلو، فبعد أيام من الكشف عن تفاصيل تلك الرسالة خرج محمود عباس في حوار تليفزيوني ليشدد على أنهم لا يريدون "حربًا مع إسرائيل"، داعيًا حماس مجددًا إلى تسليم سلاحها، ما يعني أن السلطة التي تخلت عن مبدأ الكفاح المسلح، ووجهت سلاحها إلى صدور المقاومين في الضفة، تدعو غيرها إلى الانضمام إلى "شرطة الاحتلال".

لم تقابل تلك التنازلات بالترحيب، بل بالتهديد العلني، فوزير المالية الصهيوني المتطرف بتسلئيل سموتريتش أعلن أن "فرض السيادة على الضفة الغربية سيحول دون إقامة دولة إرهاب فلسطينية"، مهددًا السلطة الفلسطينية بـ"الإبادة إذا رفعت رأسها". لم يقل ذلك في جلسة مغلقة، بل أمام المستوطنين، وهو واثق أن لا أحد سيراجعه، لا في حكومته ولا في واشنطن.

كلما خفضت السلطة الفلسطينية سقفها أكثر ازداد تجبُّر إسرائيل وازدراء واشنطن

لم يكتف سموتريتش بالوعيد، بل طرح خطته "التاريخية" بضم 82% من الضفة الغربية، وترك جيوب سكانية فلسطينية محاصرة وسط بحر من المستوطنات، رافعًا شعار "ضم أكبر مساحة بأقل عدد من العرب"، هذا هو لب مشروع إسرائيل الكبرى، الذي يهدف إلى تصفية الدولة الفلسطينية على الأرض، حتى لو اعترفت بها كل دول الأمم المتحدة.

الأخطر أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالفُرجة، بل تساهم في دعم هذا المشروع بشكل علني، فالسفير الأمريكي مايك هاكابي الذي زار مؤخرًا مستوطنة "إفرات" جنوب بيت لحم، ووصف الموقع بأنه جزءٌ من "يهودا والسامرة"، يعتبر دعمه لإسرائيل "تكليفًا إلهيًّا".

هاكابي، القس الأمريكي الإنجيلي، صرح أيضًا بأن الحرب على حماس "ليست نزاعًا سياسيًا بل معركة بين الخير والشر"، داعيًا "المؤمنين المسيحيين، في الولايات المتحدة وفي العالم أجمع، لأن يدركوا ذلك". هذا الخطاب الطائفي الأصولي انعكاسٌ مباشرٌ لرؤية الإدارة الأمريكية، فإسرائيل شريك مقدس، وفلسطين عبء ينبغي التخلص منه.

كلما خفضت السلطة الفلسطينية سقفها أكثر، ازداد تجبُّر إسرائيل وازدراء واشنطن. أوسلو كانت بداية "التنازل الكبير"، ثم جاء التنسيق الأمني الممتد، ثم خطاب "نزع السلاح"، والنتيجة لا دولة، ولا حتى سلطة، بل كيان إداري هش مهدد في أي لحظة بـ"الإبادة".

من ينتظر فتح صفحة جديدة مع العصابة التي تحكم تل أبيب فهو إما واهم أو متواطئ يسعى لتخدير شعبه، ومن يأمل أن تنصفه الإدارة الأمريكية، الأكثر صهيونية منذ تأسيس الكيان، إما غافل عما يجري حوله أو مستسلم إلى درجة الانبطاح.

خطاب السلطة الفلسطينية اليوم لا يعبِّر عن إرادة شعب محتل، بل عن ذهنية "متعهد" يعمل لدى احتلال يستهدف نسف ما تبقى من بلده، لإقامة "إسرائيل الكبرى" على أطلاله، بدعم أمريكي كامل.

لا يمكن لوم السلطة الفلسطينية وحدها، فموقف معظم الدول العربية مما يجري من مخططات ومجازر مخزٍ، فالقضية الفلسطينية التي كانت قضية العرب المركزية صارت عبئًا على حكومات وأنظمة لم تعجز عن استخدام ما لديها من أوراق لمواجهة المخططات الأمريكية الإسرائيلية وحسب، بل قدم بعضها دعمًا اقتصاديًا مباشرًا أو غير مباشر للعدو وراعيه الأمريكي تقربًا وزلفًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.