
فرصة لانتعاش الإنتاج.. سيولة البنوك تغادر "المركزي" إلى الأسواق
بدايةَ العام الحالي، وصل ما تلقاه البنك المركزي من البنوك في بعض عطاءات الودائع لنحو تريليون جنيه (1000 مليار). يعكس هذا الرقم المرتفع رغبةَ البنوك آنذاكَ في إيداع أموالها بالفائدةِ المرتفعةِ، لكنْ مع اتجاه المركزي للتيسير النقدي مؤخرًا عبر خفض الفائدة، تراجعت ودائع البنوك في عطاءات الشهر الحالي لأقل من 100 مليار جنيه في بعض الحالات.
تراجعُ البنوك عن إيداع أموالها لدى المركزي، وفق خبراء، يوفرُ سيولةً أكبرَ قد تتيح فرصةً لنشاط إقراض المشروعات، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من تباطؤ واضح.
تراجع شهية البنوك
تندرج عطاءات البنك المركزي ضمن السياسات المعروفة باسم عمليات السوق المفتوحة، التي يتم من خلالها إدارة السيولة في القطاع المالي بهدف السيطرة على التضخم، عبر هذه الآلية يعلن البنك المركزي عن فرصٍ للإيداع في خزائنه بشكل أسبوعي، على أن يحصّل البنك المودع عائدًا على أمواله يتماشى مع اتجاهات أسعار الفائدة.
وبعد أن قفز المركزي بأسعار الفائدة على هذا النوع من الودائع في مارس/آذار 2024 بنسبة 6% لاحتواء الضغوط التضخمية الناجمة عن التعويم، خفض العائد 5.25% منذ بداية هذا العام، ما يعني أن البنك محا تقريبًا آثار التشديد النقدي الذي بدأه في العام السابق.
هناك تراجعٌ واضحٌ في إقبال البنوك على عطاءات السوق المفتوحة يعكسُ التغيرات التجارية في السياسة النقدية محليًا ودوليًا، وفق تأكيد جورج مجدي، رئيس قسم الأبحاث في شركة النعيم للسمسرة المالية لـ المنصة.
https://public.flourish.studio/visualisation/25239638/رسم يوضح الودائع المقبولة في مزادات البنك المركزي للودائع الثابتة بالجنيه المصري آجال ستة وسبعة أيام والعائد عليها في 2025
يتزامن التيسير النقدي في مصر مع اتجاه مماثل في الولايات المتحدة، وكما يوضح مجدي فإن توجهات الفيدرالي الأمريكي بخفض الفائدة تدعم التوقعات بانخفاضات تالية على العائد في مصر.
وينوه مصطفى شفيع، رئيس قسم البحوث في شركة عربية أون لاين، إلى أن عمليات السوق المفتوحة ترتبط بشكل مباشر بالسياسة النقدية للبنك المركزي، حيث تنشط عادةً في أوقات اتباع سياسة نقدية متشددة وارتفاع أسعار الفائدة، بينما تتراجع فاعليتها مع خفض الفائدة.
وانخفض معدل التضخم السنوي خلال أغسطس/آب الماضي للشهر الثالث على التوالي، مسجلًا 11.2% مقابل 13.1% في يوليو/تموز الماضي، مدفوعًا بتراجع أسعار اللحوم والدواجن، بينما ارتفع التضخم الشهري بنسبة طفيفة سجلت 0.2%، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
يؤكد شفيع لـ المنصة على أن الفوائد التي كان يمنحها البنك المركزي على الودائع خلال فترة التشديد النقدي كانت تقترب من 28% ما يجعلها "منافسًا قويًّا" لكل أشكال الاستثمار الأخرى حتى الاستثمار في سوق الديون الحكومية قصيرة الأجل (أذون الخزانة)، مشيرًا إلى أن العائد تراجع على هذه الودائع حاليًا لنحو 22.5%.
وفيما يذهب جانبٌ من سيولةِ البنوك للاستثمار في أذون الخزانة، التي لا تزال عوائدها مرتفعةً نسبيًا، يتوقع هيثم فهمي، مدير حسابات العملاء بشركة برايم القابضة، أن "توجه الكثيرُ من السيولة للتوسع أيضًا في إقراض المشروعات".
الاستفادة من وفرة السيولة
خلال فترة التشديد النقدي، تراجع هامش القروض للودائع إلى 59.8% ما يعكس توظيفًا أضعف للودائع في نشاط الإقراض، ورغم تعافيه تدريجيًا ليصل إلى 63%، فإنه يبقى أقل من المستويات الصحية التي يقدرها البعض بما يتراوح بين 70-90%.
https://public.flourish.studio/visualisation/25249556/رسم يوضح هامش القروض للودائع في البنوك المصرية
ويدفع تراجعُ الإقبال على عطاءات السوق المفتوحة بما يتركه من فائض سيولة مرتفع، البنوكَ، للبحث عن قنوات أخرى لتوظيف هذه الأموال بشكل أكثر جدوى وربحية، ومن أبرز هذه القنوات التوسع في منح القروض للشركات والأفراد، كما يؤكد فهمي لـ المنصة.
وعانى القطاع الإنتاجي من ارتفاع تكاليف التمويل في ظل سياسة التشديد النقدي، وسجل معدل النمو الاقتصادي أقل مستوياته في عشر سنوات خلال العام المالي 2023/2024، حسب بيانات وزارة التخطيط، وبالرغم من إطلاق الدولة مبادرةً لتمويل القطاع الصناعي نهاية العام الماضي، فإن إجمالي قيمة المبادرة كان محدودًا وشكى مصنعون من تأخر تنفيذها.
https://public.flourish.studio/visualisation/25253351/رسم يوضح معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال آخر عشر سنوات
يشرح فهمي أن تكاليف إقراض الشركات في الوقت الراهن على الأرجح تراجعت لنحو 25%، فعادةً ما يحدد البنك العائد على القرض بما يزيد عن 2 إلى 3% عن سعر الكوريدور الذي يبلغ حاليًا 22.5%، مفيدًا بأن هذا الوضع يمنح الشركات "فرصًا أكبر" للحصول على التمويلات اللازمة لتنفيذ خططها التوسعية.
ويكشف رئيس قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة في أحد البنوك الحكومية، طلب عدم نشر اسمه، أن متوسط الفائدة على قروض المشروعات يتراوح حاليًا ما بين 23.5 إلى 25.5%، موضحًا لـ المنصة أن المشروعات الصناعية تُقرض بأقل فائدة تصل في الأغلب إلى 23.5%، بينما مشروعات التجزئة تكون بأعلى نسبة وتتخطى الـ25% لأنها "تحقق أرباحًا جيدة".
القطاعات الأكثر استفادة
سيكون قطاعا العقارات والإنشاءات "الأكثر" استفادةً من انخفاض الفائدة بسبب ارتفاع الطلب الاستثماري لديهما، إلى جانب القطاع الصناعي الذي أجَّل العديدَ من خططه التوسعية، خلال الفترة الأخيرة، وفق توقعات جورج مجدي، رئيس الأبحاث في شركة النعيم.
وتتفق إيمان مرعي، رئيسة قسم البحوث في شركة فيصل لتداول الأوراق المالية، مع الرأي السابق في أن القطاع العقاري والإنشاءات "يتصدر المشهد باعتباره الأكثر جذبًا للتمويل"، وتضع القطاع التجاري (الجملة والتجزئة) في المرتبة التالية، وهذا لا يمنع أن يستفيد القطاع الصناعي حال تحسن الطلب الاستهلاكي.
تتوقع إيمان مرعي كذلك نموًا في الائتمان الاستهلاكي والقروض الشخصية مع انخفاض الفائدة وزيادة السيولة، بما يعزز الإنفاق المحلي.
وشهد الربع الأول من العام الحالي زيادة في أعداد من لجأوا لشركات التمويل الاستهلاكي غير البنكية للحصول على قروض إلى الضعف تقريبًا، لتتجاوز الـ2.3 مليون عميل، وهو الربع الذي شهد أول خفض لأسعار الفائدة منذ 5 سنوات.
وتشدد رئيسة قسم البحوث في شركة فيصل على أن الاستفادة من هذا التحول في السياسة النقدية لا ترتبط بالضرورة بقطاعات استثمارية محددة، بقدر ما ترتبط بالشركات التي تمتلك هيكلًا ماليًا مرنًا وخططًا توسعيةً واضحةً تعتمد على الاقتراض أداةً لتمويل رأس المال "الشركات ذات المشاريع التوسعية ستكون المستفيد الأكبر من زيادة توجه البنوك نحو الإقراض".
السيناريوهات المستقبلية
بشكل عام ينظر رئيس البحوث في عربية أون لاين، مصطفى شفيع، بنظرة متفائلة على الصعيد الاستثماري خلال الفترة المقبلة "المرحلة الحالية تدفع البنوك والأفراد إلى توظيف السيولة في استثمارات حقيقية بدلًا من الاكتناز، بما يسهم في تحقيق عوائد أفضل على الاقتصاد الكلي".
يرجح مدير حسابات العملاء ببرايم القابضة هيثم فهمي أن تنخفضَ أسعار الفائدة لدى البنك المركزي تحت مستوى الـ20% بنهاية هذا العام، وهو ما "سيوفر بيئة أكثر ملاءمة للتوسع في إقراض القطاع الإنتاجي"، على أن يستمر هذا الاتجاه في ظل التوقعات بمزيدٍ من التراجع في أسعار الفائدة.
يحمل شفيع توقعاتٍ مشابهةً لما يرجحه فهمي بشأن التيسيرِ النقدي المقبل، ويشير إلى أن انعكاسات هذا ستكون إيجابيةً على الاقتصاد بأكمله.
يستهدف الإقراض البنكي في جوهرِه الاستثمار والتوسع الإنتاجي، لذا فإن توجيه السيولة البنكية نحو هذا المسار يسهم، حسب هيثم فهمي، في رفع معدلات النمو وخفض مستويات البطالة.