تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة 2025
العقوبات الدولية لم تكن العامل الحاسم في إنهاء النظام العنصري في جنوب إفريقيا

حديث العقوبات

إسرائيل ليست جنوب إفريقيا

منشور الأحد 12 تشرين الأول/أكتوبر 2025

أسعى في هذا المقال لاستكمال النقاش حول إمكانية تعرض إسرائيل لعقوبات دولية، وأثر ذلك المحتمل على سلوكها بل وبنيتها السياسية وربما مستقبلها أو مصيرها ككيان سياسي، وذلك بالنظر بالأساس لتجربة جنوب إفريقيا تحت حكم الفصل العنصري أو ما كان يُعرف بالأبارتايد (1948-1994).

تعرض نظام الأبارتايد لجنوب إفريقيا لسلسلة متتابعة من العقوبات منذ ستينيات القرن الماضي، حتى سقوط النظام في منتصف التسعينيات تنوعت بين عقوبات اقتصادية في مجالات التجارة والاستثمار، وأخرى استراتيجية خاصة بالتكنولوجيا النووية والتسليح، وعقوبات دبلوماسية، فضلًا عن نوع رابع يدور حول استبعاد أو مقاطعة الكيانات الجنوب إفريقية في مجالات الرياضة والثقافة والفن.

العقوبات لا تكفي لكن ضرورية

تكاد تجمع الأدبيات الأكاديمية على أن العقوبات الدولية لم تكن العامل الحاسم في إنهاء النظام العنصري، بل المقاومة المستمرة المسلحة والسلمية داخل جنوب إفريقيا وفي بلدان الجوار، بجانب الأزمات الهيكلية التي واجهت اقتصاد نظام الفصل العنصري جراء انخفاض أسعار المواد الأولية منذ السبعينيات، التي طالما اعتمد عليها، بجانب تغير السياق العالمي مع نهاية الحرب الباردة.

لكنَّ الأدبيات تتفق أيضًا على أن العقوبات لعبت دورًا مكملًا ومهمًا في مضاعفة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية خارجيًا وداخليًا، بما أفضى في نهاية المطاف للتغيير السياسي بدءًا من نهاية الثمانينيات.

لكن قبل الغوص في الآثار المحتملة وغير المحتملة للعقوبات فإن هذا المقال يطرح سؤالًا جوهريًا؛ إلى أي مدى يمكن أن تتعرض إسرائيل حقًا لعقوبات كهذه؟

الولايات المتحدة حازت على 65% من إجمالي الواردات العسكرية الإسرائيلية عام 2024

مع استمرار العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية، ما بين القتل اليومي لمئات المدنيين وتهجير عشرات الآلاف، وتدمير المستشفيات والمدارس على مدى سنتين كاملتين، بدأت تعلو أصوات أوروبية بفرض عقوبات على إسرائيل، من بينها عقوبات عسكرية تقوم على وقف تصدير السلاح أو استيراده، وقد صدرت هذه الدعوات من إسبانيا وسلوفينيا ومؤخرًا من ألمانيا.

تعتمد إسرائيل على الولايات المتحدة في المقام الأول للحصول على السلاح التقليدي، وفي 2024 قدَّر معهد ستوكهولم لدراسات السلام بأن الولايات المتحدة حازت على 65% من إجمالي الواردات العسكرية الإسرائيلية في مقابل 29.7% لألمانيا يليها 4.7% لإيطاليا.

وصول شحنة أسلحة تحتوي على 1800 قنبلة من طراز MK-84 من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، 15 فبراير 2025

من ثم فإن وقف تصدير السلاح الألماني لإسرائيل قد تكون له قيمةٌ كبيرةٌ في مسار العمليات العسكرية، لكن من المستبعد أن يوقفها أو أن يؤثر عليها في ظل التدفق الهائل للإمدادات الأمريكية، خصوصًا مع تقدير أن الولايات المتحدة قد زودت إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بما قيمته 21 مليار دولار من الأسلحة، أي نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل في 2025.

أما عن حظر استيراد الأسلحة من إسرائيل فمن المفترض أن يكون له أثر اقتصادي أكثر منه عسكري استراتيجي أو ميداني، إذ إن إسرائيل أحد أكبر مصدّري السلاح وتكنولوجيا العنف والقمع إلى العالم بأسره. ويكفي أن نضاهي نصيب الناتج المحلي الإسرائيلي في 2025 في اقتصاد العالم (0.3%) بنصيب إسرائيل في إجمالي الصادرات العسكرية (في 2023)، الذي كان 2.33% فيما كان نصيبها من الواردات العالمية من السلاح 4.66%.

على أنه يبنغي الأخذ في الاعتبار هنا أن إيلام إسرائيل مستقبلًا بحظر الواردات التسليحية منها يُعد أمرًا مستبعدًا، ليس فقط لأن الولايات المتحدة تُعد مستوردًا كبيرًا بما ينم عن حجم التكامل بين الصناعات العسكرية في البلدين، لكن أيضًا لأن أكبر المستوردين من إسرائيل بلدان غير غربية، على رأسها الهند والفلبين، بجانب دول من شرق أوروبا مثل التشيك وإستونيا ولتوانيا، التي من المستبعد أن تحرم نفسها من مصدر مهم من الواردات مع تصاعد التهديد الروسي على حدودها أو في جوارها.

إنه الاقتصاد

ينقلنا هذا بدوره إلى العقوبات الاقتصادية التي لا تقتصر فحسب على التسليح، بل تمتد إلى التجارة والاستثمار، وهو الأمر الذي تنبه إليه الأوروبيون عندما لوحوا بتعليق الشراكة الاقتصادية مع إسرائيل، ما قد ينهي المعاملة التفضيلية للمصدرين الإسرائيليين للأسواق الأوروبية، بالتالي يرفع من التعريفات الجمركية ويضعف من تنافسية المنتجات في أكبر سوق خارجية لإسرائيل (بلغ إجماليه في 2024 نحو 31% من الواردات الإسرائيلية).

رغم ما تتمتع به دول الاتحاد الأوروبي من ثقل وتأثير، فإن عملية اتخاذ القرار داخل التكتل تبقى شديدة التعقيد، ومع إعاقة ألمانيا وإيطاليا والمجر جهود التوصل إلى إجماع، انتهى الأمر بدون نتيجة تُذكر.

لا يعني ذلك أن مجرد طرح المسألة للتصويت أو مناقشتها ليس تطورًا مهمًا، خصوصًا في ظل الروابط الاستراتيجية والتاريخية والثقافية التي تجمع الكيان الاستيطاني بقارته الأم، غير أن فرص تنفيذ العقوبات الأوروبية تبقى محدودة، على الأقل حتى الآن.

العقوبات الاقتصادية لم تؤثر كثيرًا على الأداء الاقتصادي لجنوب إفريقيا

هذا علاوة على أن الولايات المتحدة تحظى بأكبر نصيب من الواردات الإسرائيلية (كبلد منفرد وليس تكتلًا مثل الاتحاد الأوروبي)، ولإسرائيل أسواق تصديرية في بلدان مثل الهند وتايلاند (وأسواق واردات من الصين)، وليس مطروحًا بشكل جدي أن تراجع مثل هذه الدول علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل الآن.

يضاف لهذا وذاك أن العقوبات الاقتصادية في مجالات التجارة أو الاستثمار لم تؤثر كثيرًا على الأداء الاقتصادي لجنوب إفريقيا إلا مع تفاقم أزمات الاقتصاد نفسه في ثمانينيات القرن العشرين.

في المقابل، تُظهر المصادر الأكاديمية أن جنوب إفريقيا مثّلت نموذجًا مذهلًا ليس فقط في التكيّف مع العقوبات، بما في ذلك حظر النفط، بل في تجاوزها وتحويلها إلى فرص، عبر شبكات التهريب أحيانًا، واستخدام وسطاء خفيين أحيانًا أخرى. إلى جانب ذلك، شهدت البلاد توسعًا واسعًا في إنشاء صناعات بديلة تهدف إلى إحلال الواردات، ما مكّن الاقتصاد الجنوب إفريقي من الصمود لعقود طويلة تحت وطأة عقوبات تفوقت، نظريًا على الأقل، على أي آمال تُعلَّق على سياسات مشابهة إزاء إسرائيل.

لكن ثمَّ فارق رئيسي في الهيكل الاقتصادي لجنوب إفريقيا وإسرائيل، إذ إن الأولى كانت بلدًا شديد الثراء في الموارد الطبيعية، ما سمح بالتكيف من خلال استغلال الموارد الذاتية، خاصة الفحم مع استخدام الموارد التعدينية الهائلة، لتدعيم صناعات محلية في المجالات الاستراتيجية، سواء كانت الطاقة أو الخاصة بالتسليح.

معركة بالنقاط

لم تكن جنوب إفريقيا معتمدة على الكتلة الغربية بقدر اعتماد إسرائيل، وهو البلد الذي ظل المستقبِل الأكبر للمساعدات الخارجية الأمريكية الاقتصادية والعسكرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، إذ قدر مجلس العلاقات الخارجية حجم المساعدات الأمريكية بأكثر من 300 مليار دولار حتى 2024.

بالطبع فإن إسرائيل لم تعد بلدًا يعتمد على المعونات، لكن من الصعب تفسير نجاحه على صعيدي التجارة والاستثمار دون النظر إلى العلاقة العضوية مع الأسواق الغربية، بما في ذلك النفاذ للاستثمارات والتكنولوجيا المتطورة.

على الشاكلة لم تكن جنوب إفريقيا تتمتع فعليًا بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي من خلال غطاء أمريكي ممتد بما بلغ 48 مرة من إجمالي 83 مرة استخدمت فيها الولايات المتحدة حق النقض منذ 1945 أي نحو نصف عدد المرات.

من هنا فإن خلاصة عاجلة للمقال تفيد أمرين رئيسيين؛ الأول أن العقوبات الدولية أيًا كان نوعها ليست العامل الحاسم ولا الوحيد، لكن التحول الكبير في الرأي العام العالمي، خاصة في المعسكر الغربي، وإعادة التفكير في مرتكزات العلاقة بين إسرائيل، والولايات المتحدة وأوروبا، من قطاعات كبيرة من الناخبين ومن الساسة وصناع القرار ليس أمرًا هينًا لأنه قد يلتحق بعوامل أخرى تسهم بالفعل في تأزيم وضع إسرائيل الداخلي والخارجي على حد سواء.

الأمر الثاني هو أن إلحاق الأذى بإسرائيل لا يتطلب بالضرورة عقوبات مشددة عليها بل سحب الدعم الغربي ولو جزئيًا منها اقتصاديًا كان أو عسكريًا أو دبلوماسيًا.

وكما قال الراحل سامي سرحان نسأل الله التساهيل.