البيت الأبيض، فيسبوك
ولي عهد السعودية محمد بن سلمان مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مايو 2025

لحظة الخليج سعودية.. هل تغتنمها الرياض؟

منشور الثلاثاء 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

أثار طرحُ الباحث والأكاديمي عبد الخالق عبد الله بشأن لحظة الخليج في التاريخ المعاصر الكثيرَ من الجدل فيما يخص تنامي نفوذ دول الخليج العربي اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وإعلاميًا في العالم العربي خلال العقد الماضي، بعد أُفول المراكز القديمة في القاهرة وبغداد ودمشق.

لا شك أن شواهد تنامي النفوذ الإقليمي لدول الخليج، خصوصًا السعودية والإمارات وقطر، عديدة في مجالات شتى. من كأس العالم وأثر قنوات الجزيرة والعربية وسكاي نيوز عربية إلى موسم الرياض ومهرجان دبي ومعرض الكتاب بالشارقة، مرورًا بالقواعد العسكرية في جيبوتي وأرض الصومال وسقطرى، وليس انتهاءً بالوساطة في قطاع غزة، وتمويل عمليات إعادة الإعمار المستقبلية فيه وفي سوريا ولبنان، بالإضافة إلى مسار اتفاقات أبراهام وغيرها. نجد أن دول الخليج الثلاث أثبتت حضورًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا ورياضيًا.

وربما كان اختيار الرئيس الأمريكي ترامب دولَ الخليج الثلاث محطاتٍ لأولى زياراته الخارجية في رئاسته الثانية، مثلما افتتح رئاسته الأولى بزيارة السعودية في مايو/أيار 2017، تأكيدًا لهذه الأهمية، وإيذانًا بلحظة الخليج التي طالما تحدث عنها عبد الخالق عبد الله في كتابه الصادر عام 2018.

القوة البشرية وفرصة المملكة

الرئيس الإماراتي محمد بن زايد وولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال زيارة الأخير لأبو ظبي، 27 نوفمبر 2019

استفادت دول الخليج عامة، وثلاثي السعودية والإمارات وقطر بشكل خاص، من عقودٍ من التخطيط الجيد والاستقرار السياسي الداخلي، لتحقيق الكثير من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية من خلال الاستخدام الأمثل للثروات النفطية الهائلة التي تحوزها.

لكن رغم ذلك، يبدو أن لحظة الخليج المحتملة ستكون لحظةً سعودية بامتياز، لا قطرية ولا إماراتية. صحيح أن الثلاثي يتمتع بقوة مالية هائلة نتيجة الفوائض المتحققة من تصدير النفط والغاز، لكنَّ السعودية بالذات تملك مقوِّمات إضافية لا تمتلكها الدولتان الأخريان، تجعلها أكثر قدرة على لعب دور فاعل في إرساء ترتيب إقليمي سياسي أو أمني في المنطقة.

أول ما تتميز به السعودية عن قطر والإمارات هو الحجم النسبي الكبير لسكانها، المقدر بنحو 35 مليون نسمة، مقارنةً بـ11 مليونًا في الإمارات ونحو مليونين ونصف المليون في قطر. لكن الأكثر أهمية هنا، هو نسبة المواطنين من إجمالي عدد السكان في البلدان الثلاثة.

السعودية الأقل بين دول الخليج فيما يتعلق بنسبة الأجانب للمواطنين بواقع قُدر بـ32.7%

يُشكّل الوافدون من غير المواطنين نحو 51% من إجمالي سكان بلدان الخليج العربي الستة وفق إحصاءات عام 2020، من ثَمَّ لا ينم عدد السكان الإجمالي لهذه الدول عن عدد مواطنيها ممن يمكن الاعتماد عليهم في الخدمة العسكرية والمشروعات المعتمدة على القوى العاملة المحلية، خاصةً وأن سُبل التجنيس مسدودة تقريبًا أمام هؤلاء الوافدين.

نجد في هذا الصدد أن المملكة العربية السعودية هي الأقل بين دول الخليج فيما يتعلق بنسبة الأجانب للمواطنين بواقع قُدِّر بـ32.7% من إجمالي السكان في 2020، مقارنة بنسب بالغة الارتفاع للإمارات وقطر بلغت 88.5% للأولى و85.7% للثانية، وهي الأعلى عالميًا.

يعني ذلك أن كِلا البلدين يفتقد مقوِّمًا رئيسيًا من مقومات الدولة القومية الحديثة، وهو الشعب، الأمر الذي يوصد الباب أمام أي محاولات لتنويع الاقتصاد بزيادة حصص المواطنين في قوة العمل، خلافًا لمشروع مثل السَّعْوَدة.

يمكن لاستجلاب العمالة تعويض ضآلة قوة العمل الوطنية في الاقتصاد، لكنه لا يصلح لاستيفاء مقومات القوة الأخرى اللازمة لممارسة النفوذ الإقليمي، خاصة فيما يتعلق بمن هم في سن التجنيد. ينعكس ذلك مباشرةً على قوام القوات المسلحة في البلدان الثلاثة. إذ تبلغ في السعودية 257 ألفًا مقابل 65 ألفًا تقريبًا لكلٍّ من البلدين.

ورغم التقارب في مستويات التسليح بين البلدين من حيث العتاد، فالبون شاسع بين السعودية والإمارات في مؤشر القوة النيرانية إذ تحتل السعودية المركز 24 من بين 145 دولة مقارنة بالمركز 54 للإمارات العربية، وربما يعود هذا لحقيقة أن الدولة بحاجة لمن يقود الدبابات والطائرات ويوجه الصواريخ، ويا حبذا إن كانوا من المواطنين الذين يدينون بالولاء لها.

سلاح وسياسة واقتصاد

ربما يعود هذا لكون ميزانية الدفاع السعودية لسنة 2025 نحو ثلاثة أضعاف ما هو مُقدّر للإمارات (74 مليارًا في مقابل 23 مليارًا و9 مليارات لقطر)، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بالحجم الإجمالي للاقتصاد لكل من الدول الثلاث. فرغم أن متوسط نصيب الفرد من الدخل في قطر والإمارات ضمن الأعلى عالميًا، نتيجة صغر حجم السكان الكلي، ناهيك عن نسبة المواطنين اليسيرة منهم، فإن الناتج المحلي السعودي أكبر بشكل حاسم من جارتيه الخليجيتين.

ففي 2024 كان الاقتصاد السعودي ضمن أكبر 20 اقتصادًا في العالم، والأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بواقع 4.47 تريليون دولار، مرتين ونصف المرة حجم الاقتصاد الإماراتي (1.7 تريليون)، وستة أضعاف الاقتصاد القطري (700 مليار دولار). جعل ذلك السعودية وحدها من الخليج عضوًا في مجموعة العشرين، لأن العبرة هنا بالوزن الكلي للاقتصاد لا نصيب الفرد من الناتج، بل يمكن القول إن الفوائض المالية الهائلة في بعض الحالات هي الوجه الآخر لقدر التخلخل السكاني.

أدى عامان من الصراع العسكري إلى تصدع ما كان يُسمى بمحور المقاومة

ينقلنا هذا إلى العناصر الأخرى ذات الصلة بالمتغيرات الأخيرة في المنطقة، خاصة منذ هجمات السابع من أكتوبر وما تلتها من تطورات متلاحقة في سوريا ولبنان وإيران واليمن، التي تجعل السعودية المرشح الأرجح لانتهاز لحظة الخليج.

مبدئيًا لم يكن الخليج بمعزل عن الصراع في المنطقة، مع انخراط قطر مبكرًا في القلب من جهود الوساطة في قطاع غزة، بينما كان انفجار الحرب يُفسَّر كمحاولة لتقويض مسار اتفاقات أبراهام الذي قادته الإمارات بالأساس، ولقطع الطريق على تطبيع علاقات المملكة بإسرائيل.

أدى عامان من الصراع العسكري إلى تصدع ما كان يُسمَّى بمحور المقاومة المدعوم من إيران. في المقابل، تمدد الحضور التركي في سوريا، وربما في غزة، بينما تجدد الإجماع الدولي على حل الدولتين سبيلًا وحيدًا لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وسط تغير ملحوظ في الرأي العام الغربي في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء.

الاختبار الفلسطيني

في ضوء هذه التغيرات التي تعيد رسم خريطة المنطقة الجيوسياسية، تبدو السعودية أوفر حظًا في الاستفادة من التغيرات. لا فحسب بفضل المقومات المذكورة أعلاه، لكن كذلك لأن السعودية تُظهر قدرة أكبر على اتباع خيارات منفصلة نسبيًا عن الخيارات الأمريكية في المنطقة.

ظهر هذا بجلاءٍ في تزعّم السعودية مع فرنسا مؤتمر الأمم المتحدة لحل الدولتين، الذي كان عنصرًا فاعلًا في تحول الموقف الأمريكي لصالح وقف إطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع، ولقد بُنى الإسهام السعودي على القدرة على رفض أي تطبيع مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية.

هذا فيما لا يزال دور الدولتين الخليجيتين الأصغر يدور في فلك الولايات المتحدة بشكل كامل؛ إما في صورة ممارسة وساطات متتالية داخل المنطقة وخارجها تارة مع حماس وتارة مع طالبان وتارة في الكونغو الديمقراطية، وهو الدور الذي لم يعفِ قطر من التعرض لهجمات إيرانية وإسرائيلية في ذات السنة، أو بالتمسك بمسار الاتفاقات الإبراهيمية الذي لا يبدو أنه سيتعافى من السابع من أكتوبر، إلا إذا أخذنا على محمل الجد احتفال إدارة ترامب بانضمام كازاخستان للاتفاقات، ولا ينبغي لنا ذلك.

يبدو أن مستقبل قطاع غزة، وربما القضية الفلسطينية ككل، سيكون مرتبطًا بدور تركي متزايد لملء الفراغ الذي خلفه انهيار المحور الإيراني، وبإحياء دور مصري في إعادة الإعمار في القطاع وإدارته لما بعد الحرب، مع وجود دور خليجي ما للتمويل سواء من جانب قطر أو الإمارات، بينما سيكون للسعودية وحدها هامش التحرك السياسي بربط التطبيع المستقبلي مع إسرائيل بتسوية القضية الفلسطينية سياسيًا.

ولا أحسب أن توظيف الفوائض المالية في صراعات على هامش المنطقة في ليبيا أو السودان أو القرن الإفريقي أو مالي وتشاد سيشكل تعويضًا كافيًا لتقويض مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وانتقال الدور الحاسم في الملف للسعودية بالتزامن مع جهود إعادة تأهيل سوريا ما بعد الأسد سياسيًا.

إذا ضفنا إلى هذه العناصر وزن السعودية الديني الذي لا تتحصل عليه أي دولة أخرى في العالم الإسلامي تبين لنا كذلك مقدار التأثير الذي يمكن أن تمارسه المملكة لا فحسب في ملف التسوية السياسية في المنطقة لكن الانتقال الثقافي في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي سيزداد أهميةً مع تزايد التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين ما سيخلق المزيد من مساحات الحركة لدولة بحجم السعودية.