الشرطة المدرسية.. عطل في خط إنتاج المواطن النموذجي
في مستهل العام الدراسي، جرى تداول فيديوهات لعناصر ما يُسمى "الشرطة المدرسية" يحاولون فرض الانضباط على زملائهم بينما تكتسي ملامحهم بالحدَّة والصرامة والتعالي.
يوحي المشهدُ لأولِ وهلةٍ بمحاكاة بريئة لممارسات السلطة، لكنه يخفي طبقةً أعمق من التوتر النفسي والاجتماعي.
هنا يمكن استدعاء فكرة الميلانخوليا/السوداوية عند فرويد، التي وصّف فيها كيف يُحوّل الإنسان شعورَ الفقد أو النقص إلى عدوان داخلي، وأحيانًا إلى سلوك خارجي موجّه نحو الآخرين.
الطلاب الذين يتصرفون بسلطةٍ مبالغٍ فيها ربما لا يفعلون ذلك عن وعيٍّ كاملٍ، إنما يستجيبون بآليةِ إسقاطٍ داخليٍّ لمشاعرَ التقييد والعجز التي يختبرونها في حياتهم المدرسية أو الأسرية.
من دون أدوات مراقبة صارمة تألفها الذات، وجد الطلاب أنفسهم أمام حرية مفاجئة لم يعرفوا كيف يتعاملون معها
الانضباط الصارم، التعالي على الزملاء، حتى تقليد أساليب الشرطة الرسمية، هي تمثيلات خارجية لصراع داخلي مع الذات يشبه ما يحدث في الميلانخوليا، حين يتحوّل العدوان الداخلي إلى فرض قوة على الآخرين، بدل مواجهته داخليًا.
هذا المشهد يعكس أيضًا بُعدًا اجتماعيًا وفلسفيًا أوسع، ويمثل مرآةً لمجتمع يرى القوة والعقاب رمزًا للنجاح والسيطرة؛ حين يحاكي الأطفال هذا النموذج، فإنهم يعيدون إنتاجه في فضاءٍ مصغرٍ، مدفوعين بمزيج من الفضول والقلق والرغبة في الاعتراف والهيمنة الرمزية.
التابلت وفشل الانضباط
لنعد بالذاكرة إلى عام 2018. أطلقت وزارة التربية والتعليم أول دفعة من التابلت للصف الأول الثانوي تحت إشراف وزيرها السابق طارق شوقي الذي عُرف باسم رجل التابلت. فكرة المشروع طموحة؛ منح الطلاب حرية أكبر في اختيار ما يتعلمونه وبالأسلوب الذي يناسبهم، وتحويل المدرسة إلى فضاء تعليمي أكثر مرونة، بعيدًا عن السلطة التقليدية الصارمة.
لكن المشروع عانى مشاكل بنيوية ومؤسسية مثل سقوط نظم الامتحانات الإلكترونية، انقطاع الإنترنت، واستخدام التابلت للغش. ومع غياب الحضور الإجباري أصبح التعليم فضاءً مفتوحًا للطالب، وفراغًا يفتقد الرقابة، بل وتسببت تغيرات العمل إلى تحول كبير في آليات الضبط التقليدي، لأن ما نحتاجه حاليًا هو المواطن المرن.
من منظور ميشيل فوكو، في كتابه المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، المدرسة لم تكن يومًا فضاءً محايدًا، هي امتداد للسلطة، تنتج الطالب المعياري أو المواطن المثالي، الذي يلتزم بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية. كل قواعد الانضباط، كل العقوبات، وكل الممارسات التربوية تهدف إلى إنتاج المواطن المنضبط الخاضع للسلطة.
مشروع التابلت حاول كسر هذا النموذج، لكنه اصطدم بالواقع؛ بدون أدوات مراقبة صارمة تألفها الذات، وجد الطلاب أنفسهم أمام حرية مفاجئة لم يعرفوا كيف يتعاملون معها، فحوّلوا شعورهم بعدم اليقين إلى محاكاة السلطة داخليًا، في ما يمكن اعتباره نسخة مصغرة من ميلانخوليا السلطة.
تجليات السلطة في حياتنا
تشرح جوديت باتلر في كتابها الحياة النفسية للسلطة أن الذات لا تتكون إلا من خلال السلطة؛ فالخضوع المبكر للوالدين، ثم للمدرسة والدولة، يتيح للذات أن تؤسس وجودها الاجتماعي. هذا الخضوع لا يكون سلبيًا بالكامل إنما يصبح جزءًا أصيلًا من تكوين الذات.
المدارس دائمًا ما كانت جزءًا من آليات ضبط المجتمع. يوضح فوكو أن المؤسسات التعليمية تُنتج المعيار الاجتماعي عبر الرقابة والعقاب، حيث يُصبح الجسد موضوع السلطة، والضبط أداة لإنتاج الإنسان البرجوازي الملتزم بالقواعد.
الشرطة المدرسية تعكس التحولات العميقة في العلاقة بين التعليم والسلطة والانضباط
ويُعرِّف ماكس فيبر في كتابه الاقتصاد والمجتمع، السلطة، بأنها القدرة على إنفاذ الإرادة في شبكة العلاقات الاجتماعية، حتى في مواجهة المقاومة.
من هنا، يصبح مشهد الطلاب الذين يحاكون الشرطة المدرسية أكثر وضوحًا فهم يعيدون إنتاج العلاقات السلطوية على مستوى مصغر في محاكاة جزئية لنظام الدولة.
خط إنتاج المواطن النموذجي
أبرزت جائحة كورونا تحولًا ملموسًا في كل من تجربة التعلم والعمل عن بعد، حيث كشفتا تآكل آليات الضبط التقليدية وأظهرتا أن المرونة أصبحت شرطًا أساسيًا للتكيف مع الواقع.
وتكشف التحولات الاقتصادية أن مفهوم العمل نفسه تغيَّر، وما كان يعرف بالعمل الدائم والمستقر أصبح اليوم عملًا مرنًا، قائمًا على ساعات محددة أو أداء مهام عن بعد، حيث يتحكم العامل في زمنه، ويصبح جزءًا من إنتاج القيمة الذهنية والمعرفية بدلًا من مجرد الإنتاج الفيزيائي.
في هذا السياق، يصبح مشروع التابلت أكثر من مجرد تجربة تعليمية، هو اختبار لمدى قدرة الطلاب على التعامل مع الحرية. ومع الفراغ الذي تتركه إزالة القيود التقليدية لا يكون ظهور الشرطة المدرسية عبر طلابٍ يحاكون السلطة مجرد لعب بل محاولة للتكيف مع فراغ السلطة الداخلية والخارجية.
المدرسة التي كانت مصنعًا لإنتاج المواطن المنضبط أصبحت فضاءً لإعادة إنتاج المواطن المرن، القادر على التعامل مع لا يقين الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
يمكننا وفق هذه الرؤية إعادة قراءة مشهد الشرطة المدرسية عبر الميلانخوليا الفرويدية؛ الطلاب الذين يحاولون فرض الانضباط على زملائهم يعيدون إنتاج سلطة مفقودة داخليًا، ويحاولون إدارة شعورهم بالنقص أو القيد عبر السيطرة على الآخرين.
هذا السلوك يُظهر كيف تتحول الحرية الممنوحة بدون توجيه كافٍ إلى محاكاة للسلطة، بدلًا من تنمية القدرة على اتخاذ القرار والتعلم الذاتي.
بالتالي لم تعد المدرسة مجرد مكان لتلقين القواعد والانضباط، إنما تحوّلت إلى فضاء لتشكيل الذات في مواجهة الفراغ والمحدودية الجديدة للرقابة، يصبح الفرد فيه مطالبًا بأن يكون مرنًا، قادرًا على التعامل مع الغموض، ومجهزًا لمجتمع متغير سريع.
هكذا تكون الشرطة المدرسية أكثر من مجرد محاكاة للسلطة، وتشير إلى وجود أزمة في خط إنتاج المواطن النموذجي في مصر الحديثة، وتعكس التحولات العميقة في العلاقة بين التعليم والسلطة والانضباط، وبين الحرية والفرد والعمل المرن.
بناء على هذا يُعاد رسم صورة المدرسة فضاءً للتعلم والسلطة معًا، وليس مجرد مصنع لإنتاج الطالب الملتزم بالقواعد؛ المواطن الملتزم الذي ترضى عنه السلطة في المستقبل.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.