imdb
ليوناردو دي كابريو من أحد مشاهد فيلم "معركة تلو الأخرى"، إخراج بول توماس أندرسون (2025)

معركة بول توماس الجديدة

منشور الخميس 30 تشرين الأول/أكتوبر 2025

 في فيلمه الشهير Network/الشبكة (1976)، قدم لنا سيدني لوميت شخصيةَ المناضلة السمراء لورين هوبس/مارلين وارفيلد، القيادية الشيوعية التي تدعم الثورة ضد الرأسمالية والحكومة الأمريكية، لكنها في الوقت نفسه تستجيب لسطوة رأسمالية الإعلام، وتوافق على المشاركة في برنامج تليفزيوني لتصوير هجمات مسلحة تنفذها جماعة شيوعية متطرفة، وفي النهاية تجد "المناضلة" نفسها وقد انتقلت من القتال من أجل حرية الشعوب إلى القتال من أجل نسبة أرباح البث.

تذكرتُ لورين وأنا أرى بريفيديا بيفرلي هيلز/تايانا تايلور تلعب دور المقاتلة السمراء ذاتها التي تطلق الصراخ الحنجوري ذاته عن الحرية للشعوب والموت للحكومات العنصرية في فيلم One Battle After Another/معركة تلو الأخرى (2025)، وهي تمر بالتناقض نفسه بين المبادئ والفعل على أرض الواقع، بل إن الفيلم في الواقع بدا نسخةً سينمائيةً من ذلك البرنامج التليفزيوني!

في أنجح أفلامه من حيث الإيرادات، مع شبه إجماع من النقاد على أنه أفضل أفلام العام، يعرض بول توماس أندرسون الصراع الممتد بين جماعات اليسار وحكومةٍ أمريكيةٍ يمينيةٍ ما. يعكس العمل ككل قوة هوليوود وقدرتها على الاستفادة من كل شيء وأي شيء للحفاظ على أرباحها، حتى أعتى معارضيها. ورغم مضي الزمن وتغير الكثير في العالم وداخل ستوديوهات هوليوود، بقيت لها القدرة نفسها على الاستفادة من الجميع.

التصنيف: بول توماس أندرسون

مارلين ورفيلد في دور لورين هوبس. فيلم الشبكة، إخراج سيدني لوميت (1976)

بأكبر ميزانية في تاريخه، صنع أندرسون فيلمًا آخرَ عصيًا على التصنيف، كعادة أفلامه ذات الصبغة الخاصة التي تتجاوز التصنيفات التجارية وكليشيهات السينما، لا يمكن وضع لافتة نوع سينمائي معين على "معركة تلو الأخرى"؛ فلا هو فيلم أكشن تقليدي رغم تميّز مشاهد الحركة والمطاردات، وليس فيلمًا كوميديًا ولا سياسيًا رغم ما فيه من كل ذلك.

مستوحيًا إياه من رواية Vineland للكاتب توماس بينشون، الصادرة عام 1990؛ يُقدّم بول توماس أندرسون فيلمًا معاصرًا لأول مرة منذ Punch-Drunk Love/لكمة الحب (2002). ورغم عدم تحديد زمن واضح لأحداث "معركة تلو الأخرى"؛ ينبئ السياق بأننا في الزمن الراهن، مع كل الإحالات لوضع المجتمع الأمريكي الحالي من سيطرة اليمين المتطرف وصعود قضية المهاجرين.

يقدم أندرسون كل هذا في خلطة ذكية ملائمة لذوق "هوليوود" اليوم. ربما لذلك حصل الفيلم على هذا القدر الكبير من التقدير النقدي، وربما تكون فرصة المخرج الأكبر عبر مسيرته للحصول على الأوسكار لأول مرة بعد ما اقترب منها في 11 ترشيحًا سابقًا عبر 6 أفلام.

والخلطة الذكية، كما أصبح يعلِّم كل المهتمين بالسينما الأمريكية، لم تعد فنيةً فقط، إنما ترتبط أيضًا بالرؤى السياسية والاجتماعية التي يطرحها الفيلم الذي بات عليه أن يلتزم بشروطِ عصر ما بعد الصحوة الأمريكية ليحصل على فرصة حقيقية للترشح للجائزة؛ بالالتزام بمعايير التمثيل والشمول/representation and inclusion standards – RAISE ليتمكن من المنافسة على جائزة أحسن فيلم.

لكن "معركة تلو الأخرى" نجح في تقديم نفسه فيلمًا سياسيًّا مناسبًا لسياسة هوليوود الجديدة، ليس فقط لوجود الأقليات العرقية في صفوف ممثليه، بل أيضًا لأن مضمونه أقرب لصرخة سياسية في وجه تيارات اليمين المتطرف، وفي وجه السلطة الترامبية المتوغلة على حقوق الأقليات.

وفي الوقت نفسه، يحمل "معركة تلو الأخرى" مواصفات الفيلم الأمريكي الناجح جماهيريًا، فهو حافل بالمطاردات والحركة وإطلاق النار، ومطاردات السيارات والكثير من الجنود القساة ذوي الملابس المموهة، بالإضافة إلى قدر من الحوارات الكوميدية التي أضافها السيناريو متعمدًا.

https://youtu.be/feOQFKv2Lw4?si=qS0ff-TqCsYkENKQ

المخرج المخادع يقترب من الأوسكار

يبني بول توماس أندرسون في فيلمه علاقات معقدة ومتعددة المستويات بين الشخصيات، في فصل التأسيس خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم الذي يمتد لنحو ساعتين وخمسين دقيقة، تُقدَّم الشخصيات الرئيسية الثلاث: رجل الصواريخ/ليوناردو دي كابريو، والكولونيل لوكجو/شون بين، وبريفندا بيفرلي هيلز.

العلاقة المُركّبة بين الثلاثي ليست مجرد علاقة عداء تقليدية بين ثائرين وعسكر، لكنها تحمّل في طبقاتها تعقيدات وتناقضات علاقات بالرجال؛ فيختلط الحب بالكراهية، والثورة بالجنس، والإخلاص بالخيانة.

افتتاحية الفيلم أقرب لفخ نصبه أندرسون السيناريست للمشاهد، ونجح أندرسون المخرج في تنفيذه بعد صياغته في صور جذابه ومع استخدام إيقاع سريع وجذاب. نجحت كل هذه العوامل في توريط المشاهدين عاطفيًا مع الشخصيات، بالتالي في جذبهم إلى الفيلم ببساطة.

لكن في المحصلة النهائية نحن أمام سيناريو عميق حافل بالتفاصيل، لم يسقط المؤلف/المخرج في فخ التسطيح المعتاد في أفلام الحركة، بل نَحَت شخصيات متعددة الأبعاد وزاخرة بالتفاصيل. ينطبق ذلك على طرفي الصراع؛ الثوريين/اليساريين، والعسكر/اليمينيين.

سواء في زمن "الشبكة" في السبعينيات أو "المعركة" الآن يظل "التمرد" تجارة رائجة

الأخيار هنا ليسوا ملائكة، والأشرار ليسوا شياطين، بل كلهم بشر مليئون بالضعف والتناقضات والأخطاء، نجد بين الثوريين من يستسلم للفشل فيحرق حياته بالمخدرات وإدمان الكحول، ومنهم من يشي بزملائه بضغط التهديد والخوف، أو ربما الرغبة!

كذا "الحكوميون"؛ وإن ظهرت بعض شخصياتهم مسطحةً وأحادية الوجه. لم يكن الكولونيل لوكجو مجرد بدلة عسكرية متحركة كما دأب الأمريكيون على تصوير الجنود، بل قُدّمت حافلة بالمشاعر المتناقضة المعقدة وجسّدها شون بين بحرفية عالية، متأرجحًا بين طموحه للسلطة ومحاولة الوصول لقمة الجماعات اليمينية، ومشاعر الحب والشهوة التي ينجرف لها، وبين القسوة القاتلة التي يواجه بها كل من يقف في وجه طموحه، ومشاعر الأبوه القوية التي تفقده الرؤية والهدف.

ومثل شون بين تألق ليوناردو دي كابريو، الذي يرسّخ فيلمًا تلو الآخر ابتعاده عن صورة البطل الوسيم التقليدي واللعب في خانة "البطل الضد". ظَهر النجم بعيدًا عن وسامته، مجرد مفعول به تلقيه تيارات الأحداث كيفما اتفق. ضحية الخيانة والقسوة على كل المستويات، حتى إن لحظات سكره أكثر من لحظات استفاقته.

أما الممثلة والمغنية السمراء تيانا تايلور فربما كانت ميزتها الأساسية هي أنها سمراء يلائم شكلها الشخصية. لكنها لم تمنح شخصيتها -أو لم تمنحها الشخصية- مساحة حقيقية للإبداع، ربما يعود هذا لتعمد أندرسون إخفاءها مع مضي الأحداث نحو الذروة. لكن ما بدا من وقت ظهورها على الشاشة لم يسمح أن نتوقع منها المزيد، فوتت تيانا كل فرصة لإظهار أعماق الشخصية، واكتفت فقط بالصراخ والسباب.

يقترب بول توماس أندرسون من الأوسكار بعدما استعصت عليه لسنوات، حيث صنع فيلمًا عن "الثورة" و"التمرد"، رغم أنه في الحقيقة قد يكون أقل أفلامه تمردًا على سلطة هوليوود. وفي النهاية، سواء في زمن "الشبكة" في السبعينيات، أو "المعركة" الآن، يظل "التمرد" تجارةً رائجةً في سوق صناعة الصورة، وقد يستفيد منه في النهاية أصحاب السلطة ورأس المال؛ أولئك الذين "تتمرد" ضدهم السينما!