لا شموسية إلا للرجال.. صوت المحافظين يسكت النساء في الكنيسة
ردود فعلٍ أكثرُها غاضبةٌ تداولها مسيحيون أرثوذكس على فيسبوك إثر انتشار مقطع فيديو وصور للأنبا بولس، أسقف مونتريال وشرق كندا، وهو يرسم شماسات نساء داخل الكنيسة.
شماس كلمة سريانية تعني خادم، وتنحصر تقليديًا في معاونة الكاهن أو الأسقف في أداء الخدمات الدينية، وحصرتها الكنيسة الأرثوذكسية عقودًا طويلة في الرجال، ما يفسر حالة الغضب من جانب التيار المحافظ، الذي اعتبر ما فعله الأسقف هرطقة واضحة، أو كما وصفوا المشهد بـ بشاير الوحدة في إشارة إلى أنه نتاج محاولات التقرب من الطوائف الأخرى.
تصاعدت حدة المعارضة على صفحات التيار المحافظ، خصوصًا المرتبطة برابطة حماة الإيمان، وتصدَّر الهجوم صفحة دياكون ديسقورس وهو مؤسس التيار الذي تبنى نشر فيديو الأنبا بولس، وطالب بمحاكمة الأسقف كنسيًا بدعوى ارتكابه مخالفات طقسية وعقائدية. ومقابل هذا الزخم المتشدد، ظهرت أصوات أخرى احتفت بصور الفتيات، وتداولت صورًا لشماسات من كنائس مختلفة.
هذا الجدل الذي امتد لأروقة الكنيسة دفع الأنبا بولس لإصدار بيان اعتذار قال فيه "أعتذر عن صدور كلمة شماسة مني"، ثم عاد وأصدر بيانًا برر فيه ما جاء بالفيديو وقال إنه حوى جزءًا من المشهد وليس كله، وأن النساء غير مسموح لهن بالخدمة في الهيكل أو أي قراءة ليتورجية (الصلوات العلنية والطقوس والتسابيح) وأن دورهن محصور في مساعدة المرضى ونظافة الكنيسة وترتيل الألحان لتشجيعهن.
وهي خطوة تضاف إلى سلسلة من التراجعات عن توجهات إصلاحية أو تجديدية، تحت ضغط من التيار المحافظ.
ويمثل الأنبا أغاثون، أسقف مغاغة والعدوة، أبرز أقطاب التيار المحافظ في الكنيسة، وهو التيار الذي يعود ولاؤه إلى البابا شنودة الثالث مقابل تيار إصلاحي يمثله البابا تواضروس الذي أعلن في بداية توليه منصبه أنه يهدف لترتيب البيت من الداخل.
الشماسات.. دور نسائي عبر العصور
أعاد مشهد رسامة الفتيات شماسات الجدل حول دور النساء داخل الكنيسة؛ من ناحية تبرأ تيار واسع من وجود شماسات بالأساس، وإنما الشموسية مقصورة على الرجال، وهو رأي انطلق من ربطهم بين الشموسية والكهنوت المقصور على الرجال.
ويتجاهل هذا الفريق أن لفظ "شماسة" ورد في عدة مصادر، في مقدمتها الكتاب المقدس الذي أشار إلى فيبي أشهر شماسة ذُكرت في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ووُصفت أنها diakonos، وهي ما يُطلق على من يقوم بخدمة الشماسية سواء كان ذكرًا أم أنثى، كما ذُكرت الشماسة أولمبياس التي رُسِمت شماسةً في سن صغيرة على يد القديس نكتاريوس، وأسست بيتًا للعذارى والأرامل المكرسات لله.
كما نصت الدسقولية (تعاليم الرسل) على "إقامة شماسات نسوة مختارات قديسات لأجل خدمة النساء، لأنك لا تقدر أن ترسل شماسًا إلى بيوت النساء غير المؤمنات، ولأنك تحتاج إلى الشماسات النساء في أمور كثيرة منها دهن الميرون للمرأة التي تتعمد، والشماسة المرأة لتكن جليلة عندكم، لا تقل شيئًا من الكلام ولا تصنع شيئًا إلا بأمر الشماس"، وهذا التاريخ حتى وإن كان مقصورًا على أدوار محدودة فهو ينفي الادعاء بأن خدمة الشموسية كانت مقصورة على الرجال.
فيما تبنى فريق آخر داخل التيار المحافظ الاعتراف بوجود شماسات، لكن بشروط محددة تتعلق بالعمر وطبيعة الخدمة، فرأوا أن الرسامة لا تكون لفتيات صغيرات بل لنساء وصلن لسن الشيخوخة، أي سن انقطاع الدورة الشهرية.
واستند هذا الفريق إلى مقطع للبابا شنودة الثالث يتحدث فيه عن رسامته لشماسات عام 1981، مشيرًا إلى أنه اشترط ألا يقل عمر الشماسة عن 60 عامًا. وأصدر في جلسة المجمع المقدس في 22 مايو/أيار 2010 قرارًا بمنع إلباس البنات الصغيرات أو الفتيات أو الشابات زيًا خاصًا فى صلوات القداسات، أو أن يقفن على هيئة خورس في مقدمة النساء لترتيل الألحان في عموم الصلوات الليتورجية.
ظلت فكرة أدوار الشماسات محل جدل في الكنائس الشرقية لارتباطها بالسياقات الثقافية والاجتماعية، فنجد الكنيسة الأرثوذوكسية السريانية (المشتركة مع الكنيسة الأرثوذوكسية القبطية في الإيمان) تداوم على رسم الشماسات في أعمار مختلفة.
لطالما كانت مناقشة إشكاليات مثل الطهارة والنجاسة وتبعية المرأة للرجل مثار خلاف على امتداد تاريخ الكنيسة
وفي مطلع القرن الثالث عشر الميلادي نجد ما دوَّنه مار يوحنا ابن قوروسوس عن جملة من الضوابط التي تحكم خدمة الشماسات داخل الكنيسة، إذ لا يُسمح لهن بمناولة الصبي الذي يبلغ خمس سنوات فأكثر، كما يوضح ابن قوروسوس أن الشماسات يُرفض دخولهن المذبح إلا في حالة وجود قسيس دون شماس. أما ما يخص المناولة والقرابين، فسمح للشماسة بسكب الخمر أو الماء في الكأس لكن بإذن صريح من الأسقف فقط.
التبعية والنجاسة والإقصاء
لطالما كانت مناقشة إشكاليات مثل الطهارة والنجاسة وتبعية المرأة للرجل مثار خلاف على امتداد تاريخ الكنيسة، وهي السبب الأول في حرمان المرأة من أدوار الخدمة والتعاليم أسوة بالرجال.
نشأ توتر طويل بين نموذجين متناقضين لمكانة المرأة، بين الحديث عن رؤية المسيح المنفتحة للنساء، إذ صادقهن وتحدث إليهن مباشرة، وظهر أولًا لمريم المجدلية بعد القيامة، ولم ينهر نازفة الدم حين لمسته، وبين تعاليم بولس الرسول التي أخضعت النساء لرجالهن وطلبت منهن الصمت داخل الكنيسة.
وزاد الأمر تعقيدًا ما قدمه عدد من الآباء الأولين من تفاسير تُحمِّل المرأة مسؤولية الخطيئة الأولى، وتعيد سرد قصة الخلق بما يعزز تبعيتها للرجل. هذا الميراث راكمَ صورة ذهنية واسعة التأثير أقصت النساء من ممارسة التعليم الكنسي والخدمة، وحصرتهن داخل أسئلة ضيقة مثل متى يُسمح لهن بدخول الهيكل؟ وهل يحق لهن مشاركة الرجال في بعض الأدوار؟
تشير دراسة بعنوان "تهميش واستبعاد النساء" إلى أن المؤسسة الكنسية اعتمدت طويلًا على قراءات انتقائية للنصوص الكتابية لتبرير استبعاد النساء من السلطة، مثل الاستشهاد باختيار المسيح تلاميذه من الرجال فقط، أو بتعاليم بولس.
هذه التفسيرات أصبحت عبر القرون أساسًا لإخضاع النساء داخل البنية الكنسية. ومع ذلك، تُظهر قراءات للعهد الجديد حضور النساء قائدات شاركن فعليًا في تشكيل الهوية المسيحية الأولى، ما يكشف أن تاريخ النساء في المسيحية أوسع بكثير مما سمحت به المؤسسة لاحقًا. لكن رغم هذا، لا تزال كنائس كثيرة تقاوم أي خطوة باتجاه المساواة الكاملة، في ظل بنية ذكورية متجذرة أكثر من كونها قضية لاهوتية.
والحقيقة أن الأمر يتجاوز مسائل التعليم والحرمان من تولي المناصب الكنسية إلى ممارسات أبرزها تصوير الزواج هيكلًا هرميًا يتربع فيه الرجل على القمة بينما تقبع المرأة أسفل السلم. وهذا التصور جزءٌ من منظومة كاملة كرست تبعية المرأة ومحت قصص مساهماتها في نشر الإيمان. فضلًا عن تأثر عدد من رجال الدين بالفكر اليهودي في التعامل مع المرأة ومكانتها.
إلى جانب هذا التراكم التاريخي الطويل، يحمل الواقع المعاصر للمرأة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ميراثًا ثقيلًا ترك أثرًا بالغًا في وعي الأجيال الحالية، حيث ترسخت أنماط شبه فاشية تقوم على منطق المنح والمنع، وتُقاس أي خطوة إصلاحية تجاههن بمسطرة الانحراف العقائدي أو الهرطقة أو التشبه بالطوائف الأخرى.
وأرسى البابا شنودة الثالث هذه التعاليم المتأثرة باليهودية، فنسمعه في إحدى عظاته يقول "أوعوا تروحوا بدم الحيض وتتقدموا للمناولة، ده المرأة اللي في فترة الحيض بيمنعوها من دخول الكنيسة، فإذا فُرض ودخلناها تروح كمان على الهيكل وتتناول؟ ده بطلوا ده واسمعوا ده!.شوفوا، نحن نكرم المرأة لكن إكرامها إننا لا نتملقها أو نخدعها ونقولها تعالي بدمك اتناولي".
كما استقبل أحد الأسئلة والتي وردت إجابتها في كتاب "سنوات مع أسئلة الناس" عن الموضوع نفسه وأجاب أن الدورة الشهرية تذكِّر بالخطيئة الأولى للنساء.
لذلك، وعلى مدى أكثر من أربعين عامًا، لم يقتصر ترسيخ هذا التعليم على البطريرك بصفته رأسًا للكنيسة ومعلمًا وقائدًا روحيًا تمتع بكاريزما متفردة وشعبية جارفة، بل تبناه أيضًا معظم أفراد الإكليروس (رجال الدين) الذين تشبعوا بالرؤية نفسها.
كل محاولة إصلاحية حتى وإن جاءت خجولة تواجه ضغطًا عنيفًا من الأصوات المتشددة سرعان ما يدفع الكنيسة إلى التراجع
وانتقلت هذه النظرة بدورها إلى المؤمنين الذين تعاملوا مع هذه التعاليم باعتبارها مسطرة الإيمان القويم. وفي المقابل، لا يكاد يُسمع صوت التيار الإصلاحي الذي كثيرًا ما يفضل الانسحاب أمام هذا الميراث الثقيل، خصوصًا في قضايا مثل وضع المرأة والوحدة مع الكنائس الأخرى، الأمر الذي جعل عملية الإصلاح المرتقبة منذ تولي البابا تواضروس سدة الكرسي المرقسي ربما تكون مستحيلة.
الإصلاح.. للخلف در
لم تكن حادثة اعتذار الأنبا بولس استثنائية، إذ يمكن تتبع سلسلة من المواقف التي تراجعت عنها المؤسسة الكنسية الرسمية فور ارتفاع صوت التيار المحافظ أو اعتراضه، لا سيما فيما يتعلق بالنساء. فكل محاولة إصلاحية حتى وإن جاءت خجولة تواجه ضغطًا عنيفًا من الأصوات المتشددة، سرعان ما يدفع الكنيسة إلى التراجع.
على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى حادثتين وقعتا عامي 2020 و2021، الأولى حين اعتذر الأنبا إسحق، أسقف طما وتوابعها، عن السماح للمكرسات بدخول الهيكل، والمشاركة في دورة القيامة. وكتب "أقدم اعتذاري الشديد للبابا والمطارنة والأساقفة عن التصرف الذي بدر مني دون تدقيق، وكنت أقصد به أن أُفرح قلب المكرسات بالقيامة. أخطأت، ولن أكررها، حفاظًا على سلامة الطقوس. أرجو أن تسامحوني وتغفروا لي".
أما الحادثة الثانية، فكانت اعتذار الراهبة أرسانيا عن قراءتها السنكسار (كتاب سير القديسين) في أحد بيوت الخلوة أثناء القداس؛ "بعتذر عن إللي عملتُه؛ هو خطأ غير مقصود".
وفي فبراير/شباط 2023 ألغي حفل الموسيقار هاني شنودة الذي كان مقررًا إقامته على مسرح الأنبا رويس بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية في القاهرة، بسبب اعتراضات واسعة عبر السوشيال ميديا من التيار المحافظ وتيار حماة الإيمان الذين اعتبروا أن مكان الحفل لا يتناسب مع هذا النوع من العروض.
وفي يونيو/حزيران 2023، التزمت الكنيسة الصمت في مواجهة الجدل الذي دار لأيام على السوشيال ميديا بين الفريقين المحافظ والإصلاحي حول عودة الأنبا متياس لاجتماعات المجمع المقدس بعدما جرى تداول صور له مع أعضاء المجمع بعد حوالي 18 سنة من استقالته من منصبه أسقفًا للمحلة الكبرى عام 2005، حيث تم إقصاؤه بشكل تعسفي من قبل البابا شنودة الثالث. واكتفت الكنيسة بتسريب الخبر على واحدة من صفحات الكهنة المؤثرين حتى لا تُعلن صراحة خطوات المصالحة مع المُبعدين سابقًا.
أما البابا تواضروس الثاني نفسه فحاول حل الكوارث المتراكمة في ملف الأحوال الشخصية للمسيحيين، تحديدًا أسباب الطلاق من خلال توسيعها، ثم تغيرت تصريحاته بسبب الهجوم المتواصل. ففي أحد اللقاءات الصحفية قال "لا طلاق إلا لعلة الزنا مقولة كتبها البابا شنودة"، ثم سرعان ما تراجع عن هذا التصريح، وتمسك بموقف البابا شنودة في قَصر الطلاق على الزنا وتغيير الدين، ولم يظهر عمومًا حتى الآن قانون الأحوال الشخصية الذي يتم الترويج له منذ 11 عامًا.