الملكية وإذن الاستخدام.. من يحتكر الحق في إصلاح بطارية هاتفك؟
رأسمالية ما بعد البيع تتحكم في دورة حياة الأجهزة بالضمان وتعقيداته
تبدأ الحكاية أحيانًا ببطارية موبايل تموت في غير أوانها. تذهب إلى أقرب محل صيانة أجهزة. يتولى الفني استبدال البطارية بحرفيّة، تدفع ثمن الإصلاح وتخرج. تفحص الجهاز وتتأكد من أن كل شيء يعمل بشكل طبيعي. تتفاجأ أن الكاميرا لا تستجيب.
لا خطأ ظاهرًا في التوصيلات، لا كسر في اللوحة، لكن النظام يرفض التعرّف على القطعة الجديدة لأنها لم تُسجَّل لدى الشركة المنتِجة. تعود إلى مركز الخدمة المعتمد. يقال لك إنّ الضمان يسقط إذا لم تُجر العملية عندهم، وأن عليك دفع ثمن أعلى بكثير مقابل التفعيل والقطعة الأصلية المزوّدة بمُعرّف برمجي.
ماذا اشتريت إذن حين دفعت ثمن هذا الهاتف؟ هل اشتريت حقّ استعمال محدودًا أم ملكية فعلية تُمكّنك من صيانته وتحديثه وتعديله؟ هل باتت ملكيتك رهينة لمفاتيح برمجية يحتفظ بها مصنع بعيد يبيعك الوصول إلى جهازٍ من المفترض أنّه صار ملكًا لك؟
ما الذي نملكه حقًّا؟
تتجاوز الملكية في العصر الرقمي حدود الملكية المادية لتشمل السلطة الفعلية على التشغيل والصيانة والتعديل. فعليًا نحن ندفع ثمنًا كاملًا مقابل شيء لا نملك إلا واجهته. وحين تحتكر الشركات عبر الوثائق الفنية والمخططات وأدوات التشخيص، وتربط قطع الغيار والأجهزة بهويّات برمجية لا تعمل دون تفعيل من خوادمها، وحين تُهدّد بإسقاط الضمان أو التعطيل عن بُعد عند أي محاولة إصلاح خارج شبكتها، فإن الملكية تتحول إلى مجرد ترخيص استعمال طويل الأجل أكثر منها سلطة حقيقية.
إذًا فالحق في الإصلاح سيادة تشغيلية بدونه نصبح زبائن دائمين، لأن الشركات المنتجة تتحكم في دورة حياة الأجهزة.
هذه الهوّة بين ملكية شخصية وسيادة تشغيلية تُغذّيها بنية معرفية محتكرة. فالمخططات وأدلة الإصلاح ليست أسرارًا عبقريةً بُنيت من فراغ هي نتاج عمل اجتماعي كثيف تموّله أسواق ومجتمعات وحكومات، وهي في جوهرها معرفة تقنية قابلة للتداول. والمنع هنا ليس حماية للإبداع بقدر ما هو تجفيفٌ لمصادر منافسة محتملة في سوق الصيانة، وتقييد لوصول الورش الصغيرة والمستخدمين إلى أدوات لازمة لتشخيص أعطالٍ ومعالجتها.
الإهلاك المُخطّط وصناعة الضمان
إذا كانت السيادة التشغيلية تُحدّد معنى الملكية الشخصية، فإن السوق التي تتحرك بعد البيع تحدّد إيقاع الحياة التقنية للجهاز، ليظهر ما يمكن وصفه برأسمالية ما بعد البيع، إذ يتحوّل الربح من البيع الأولي إلى مصبّات أخرى، مثل قطع الغيار، وخدمات الإصلاح الاحتكارية، والاشتراكات، والتحديثات المدفوعة، والترقيات التي لا تضيف قيمة فعلية بقدر ما تُبقيك داخل دائرة الأسر.
طريقة فحص الأعطال أو بروتوكولات الأمان تعكس مصالح من يضعها
في هذا النموذج، لا يُفاجئنا أن نرى جهازًا صُمّمت بطاريته على نحو يجعل استبدالها مستحيلًا تقريبًا، أو أن تُغلّف اللوحة برداءٍ من الغراء بدل مسامير، أو أن يُدمج الزجاج مع الشاشة بحيث يصبح الشرخ مطلبًا باستبدال مجموعة كاملة بتكلفة تقارب ثلث الجهاز.
ولكي تكتمل الحلقة، يتحول الضمان بدلًا من كونه حماية للمستهلك إلى قيد على السيادة التشغيلية، فقد تُسقِط الشركة الضمان لمجرّد أنّك فتحت الجهاز أو استعنت بمحل إصلاح، حتى إذا لم يثبت أي ضرر مترتّب على ذلك.
وحتى عندما تقول الشركة إنّها تقفل قطعة بقطع أخرى أو ببرمجيات داخلية لضمان التحقق من التوافق، فإنها تفعل أكثر من ذلك، لتخلق هويةً برمجية للقطعة تجعلها جزءًا من سلسلة مُعَرِّفات لا تعمل إلّا إذا اعتُمدت من خادم بعيد.
وما لا يُقفل بالقطعة، يُقفل بالتحديث. يهبط الأداء بعد نسخة بعينها من نظام تشغيل، أو تختفي وظيفةٌ بدعوى تحسين الاستقرار، أو تُحوَّل ميزة كانت تعمل محليًا إلى خدمة على السحابة قد يتطلب استخدامها دفع اشتراك.
ثم تظهر صورة أخرى من السيطرة من خلال ما يُعرف بـ المعايير المغلقة، فمعيار -مثل طريقة فحص الأعطال أو بروتوكولات الأمان- يعكس مصالح من يضعها. وعندما تحتكر الشركة هذه المعايير ولا تتيحها إلا للوكلاء المعتمدين، فإنها تجعلها وسيلة للتحكم في السوق ومنع الفنيين والمستخدمين من الوصول إلى أدوات التشخيص أو معايير الأمان نفسها، فيبقى الإصلاح محصورًا داخل شبكتها.
أممية الحق في الإصلاح
طالما تتعامل السلطات التنظيمية مع السوق بوصفه لحظة البيع فقط، فإنّها تغفل أنّ ما بعد البيع -الصيانة والقطع والترقيات- سوق قائمة بذاتها، يمكن احتكارها كما يُحتكَر البيع الأولي وأكثر. الآن تُستخدم قوانين مكافحة التحايل والملكية الفكرية ضدّ نشر المعرفة العملية التي يحتاجها الإصلاح، ويُجرَّم نشر أدوات تُتيح قراءة الأخطاء أو مشاركة مخطط يشرح اتصال قطعة بغيرها، أو حتى بيع أداة لفتح غطاء دون كسره.
لا تتوقّف المسألة عند حدود القوانين الوطنية، لأن سلاسل القيمة تُحكَم بقواعد توزيع غير عادلة، إذ عادة ما يجري تصميم الأجهزة وصك براءات الاختراع في دول الشمال، بينما يجري التصنيع منخفض الأجر والتكلفة في دول الجنوب. في هذا التوزيع العالمي للعمل، يُحرم الطرفان -بطريقة مختلفة- من حقّهم في الإصلاح.
يُحرم الشمال من الحق في الإصلاح لأن احتكاراته تطرد الحِرَف والورش وتحوّل المستخدم إلى مستهلك رهينة لمنطق ما بعد البيع. ويُحرم الجنوب لأن نمط التراكم يفرض عليه تركيباتٍ إنتاجيةً غير متكافئة تُقنن انسداد الوصول إلى المخططات والقطع والمعايير.
الثقافة الرقمية والعبث البنّاء
لا ينبغي إذًا أن نتعامل مع الحق في الإصلاح بوصفه مطلبًا تقنيًا فقط، بل هو ثقافة تعلّم ومشاركة. وفي جوهر هذه الثقافة يقف العبث البنّاء؛ تلك الرغبة الفطرية في تفكيك الأشياء وفهمها وإصلاحها. وحين نُشجَّع على فتح أجهزتنا في فضاءات آمنة -من مدارس ومكتبات ومراكز شبابية- نُعيد للمعرفة معناها الحيّ المتمثل في تجربة وخطأ وتصحيح، ثم مشاركة ما تعلّمناه مع غيرنا.
حتى على مستوى البرمجيات، يبرز مبدأ التعديل المسؤول، أي استخدام أنظمة تشغيل أو برمجيات بديلة، أو ما يُعرف بالفيرموير المفتوح، وهو البرنامج الأساسي الذي يتحكم في كيفية عمل الجهاز واستجابته. فإذا أثبت هذا التعديل أنه أكثر أمانًا وكفاءةً واحترامًا للمستخدم والبيئة، فهو إصلاح مشروع لا ينبغي أن يُعاقَب صاحبه أو يُسقَط عنه الضمان، بل يُعد تعبيرًا عن معرفة ومسؤولية تجاه التكنولوجيا التي نستخدمها.
هذه الأفكار ليست مجرد أفكار مثالية، إنما تحولت في أماكن كثيرة حول العالم إلى حركة حقيقية. في الولايات المتحدة مثلًا، قاد ناشطون ومنظمات مثل Repair.org وiFixit جهدًا جماعيًا واسعًا نجح خلال عقد واحد في انتزاع قوانين تضمن الحق في الإصلاح في ولايات كبرى مثل نيويورك ومينيسوتا وكاليفورنيا وأوريجون، تبعتها ولايات أخرى في 2025.
لا يمكن للحق في الإصلاح أن يقوم على أكتاف عمّالٍ منهكين أو في بيئاتٍ تُنهب مواردها
وفي أوروبا، صار مؤشر قابلية الإصلاح جزءًا رسميًا من تصنيف الأجهزة في فرنسا، بينما فرضت تشريعات Ecodesign في بريطانيا على الشركات إتاحة قطع الغيار والمعلومات التقنية لسنوات بعد البيع.
وعلى مستوى المجتمعات المحلية، نجحت مبادرات مثل The Restart Project في لندن في تحويل الإصلاح إلى ممارسة جماعية حيّة، عبر ورشٍ ومقاهٍ يتعاون فيها الناس لتصليح أجهزتهم بأنفسهم، فينقذون آلاف الأجهزة من النفايات ويحوّلون الإصلاح إلى فعل معرفة ومشاركة وأمل.
توجيه السوق لإنصاف المستخدم
يبدأ التحول الحقيقي في الحق بالإصلاح حين تصبح كتيّبات الصيانة ومخططات الدوائر وأدوات التشخيص متاحة للجميع، في فضاءات مفتوحة وأسعار معقولة. عندها ترتفع كفاءة الفنيين في مراكز الإصلاح الصغيرة وتقل الأخطاء، ويتحوّل الضمان من أداة تخويف واحتكار إلى التزام حقيقي تُحاسَب عليه الشركات وفق معايير واضحة وسجلات معلنة.
وهنا يظهر دور المؤسسات العامة التي يمكنها توجيه السوق بقراراتها اليومية. عندما تفضّل في مشترياتها الأجهزة القابلة للإصلاح، فهي تدفع الصناعة كلها نحو تصميمات يمكن فكّها وتركيبها بسهولة، وأدوات تشخيص متاحة للفرق المحلية، وقطع غيار مضمونة لسنوات.
لكن هذا التحوّل لا يكتمل من دون بيئة اجتماعية تحتضنه. يمكن دعم إنشاء مراكز إصلاح مجتمعية في المدن والأحياء لتعمل كمساحات تعليمية وخدمية في آن واحد؛ تُدرّب الناس على مهارات عملية تحتاجها سوق العمل، وتقدّم في الوقت نفسه خدمة عامة تُطيل عمر الأجهزة وتقلّل النفايات. هذه المراكز لن تمارس الإصلاح فقط، بل تبني معرفة جماعية وتخلق شعورًا بالتضامن والمسؤولية المشتركة تجاه التكنولوجيا والمجتمع.
والحديث عن إصلاح عادل يفرض أن نوسّع النظرة إلى ما وراء الورشة واللوحة الإلكترونية، لنرى ظروف العمل في المصانع وسلاسل التوريد، فلا يمكن للحق في الإصلاح أن يقوم على أكتاف عمّالٍ منهكين أو في بيئاتٍ تُنهب مواردها.
العدالة هنا لا تقتصر على المستخدم، وتشمل مَن صنع القطعة ومَن يعيد تدويرها. وربما تكون معركة الحق في الإصلاح هي أحد المكونات لجبهة اجتماعية واسعة تضم المصلحين الحرفيين وطلاب المدارس الفنية وجمعيات المستهلكين والمبادرات البيئية ومطوّري البرمجيات الحرة.
من سلعةٍ مغلقة إلى معرفةٍ مشتركة
قد يبدأ الأمر ببطارية هاتفٍ تحتضر، لكنه لا ينتهي عندها، إن لم يجرِ الانتقال من الحيازة الفردية العاجزة إلى السيادة الاجتماعية الواعية، إلى مجتمع يعرف أنّ السيادة ليست توقيعًا على فاتورة، لكن سلطة استعمال ومعرفة وتطوير يمارسها عبر مؤسساته ونقاباته وتعاونياته ومختبراته المفتوحة.
عندها لا يعود الإصلاح هوايةً بل جسر إلى تخطّي تسليع التكنولوجيا خطوة خطوة، من فتح الوثيقة، إلى تمكين الفنيين والعمال في مراكز الإصلاح، إلى رقابة ديمقراطية على تصميمات الأجهزة ومواصفاتها، تمهيدًا لاقتصادٍ تُدار فيه الوسائط التقنية وفق حاجات المجتمع لا وفق ربحٍ يُملى من قمم الاحتكار.
هكذا فقط تستعيد التكنولوجيا معناها البسيط، أن تخدم حياة الناس وتُنمّي قُدراتهم. وفي هذا الطريق، يكون الحقّ في الإصلاح عتبة واقعية نحو أفق أوسع يشمل إعادة تعريف المعرفة اجتماعيًا، ودمقرطة القرار التقني، وتقويض الفاصل بين من يصنع ومن يقرّر، لتعود الثروة المعرفية إلى مصدرها الشرعي، المجتمع.