تصوير إيناس مرزوق، المنصة
السياح الأجانب ملتفون حول تابوت توت عنخ آمون، المتحف الكبير، الجيزة، نوفمبر 2025

جرحنا النرجسي يبهر العالم

منشور الثلاثاء 2 كانون الأول/ديسمبر 2025

شاشاتٌ صغيرةٌ في عربات الخط الثالث لمترو القاهرة تعرضُ مقاطع فيديو قصيرةً لآداب التعامل واستخدام المرفق ومحطاته، وأخرى سياحيةً تظهر فيها معالم أثرية ومتاحف. الشمس الساطعة على أعمدة الكرنك، توسِّع من المكان وتبدد ظلمة النفق الذي يجري فيه القطار. لقطات خاطفة لمعالم مبهرة يعز وجود نظيراتها في بلاد أخرى، يتحرك بين جنباتها السيَّاح الأجانب.

هناك بالطبع مصريون يزورون الآثار لكن الكاميرات لا تراهم، لأن الوعي واللاوعي العام تشكَّلا على هذه العلاقة بين الأثر المصري والزائر الأجنبي. الزائر الأبيض تحديدًا. وهي صورة يُعاد إنتاجها بتلقائية دون اهتمام بالعلاقة بين المصري وآثار أجداده. وحتى لو كانت هذه العلاقة غير موجودة، فمسؤولية الإعلام ومؤسسات الثقافة إعادة بنائها.

جرح الذات الوطنية

متلازمة الأثر والسائح الأبيض تعكس اعتقادًا بأن آثارنا ليست عظيمةً بذاتها؛ لكونها معجزات معمارية، بل لأنها أبهرت السائح. لهذا من الطبيعي أن نختفي حفاظًا على نقاء العرق الأبيض في الصورة، لأننا نستمد قيمتنا وقيمة آثارنا من وجوده!

المؤسف أن إمعاننا في الاختفاء جعل العالم الأشقر عاجزًا عن رؤيتنا أو ربطنا بآثارنا؛ فمعظم الغربيين يعرفون الحضارة الفرعونية بوصفها حضارةً عجيبةً في مكان ما من العالم، بينما القليل منهم يعرف موقع مصر على الخريطة. ولا يمكن قراءة الحرص على صورتنا في عين الآخر إلا بوصفه جرحًا في الذات الوطنية، يأخد أشكالًا مختلفةً من تَسوُّل اعتراف آخر نعتبره أعلى منزلة منا، والتيه على آخر نتصوره أدنى، والحساسية المفرطة تجاه كلمة نقد توجه من آخر لأي شيء مصري، حتى لو تعلق الانتقاد بنقص حُمرة طماطمنا.

نعاني من جرح نرجسي عميق، يتجاوز الفرد ليشمل واقع الدولة نفسها، لأن الدولة يديرها أفرادٌ في النهاية، ومن شأن الاعتراف بهذا الجرح أن يصحح علاقتنا بأنفسنا ويعالج الخلل في علاقة المصري مع ذاته وأرضه والسلطة التي تحكمة، الأمر الذي سينعكس حتمًا على علاقتنا بالعالم من حولنا، ويصحح موقع مصر الإقليمي والدولي؛ فالثقافة ليست منفصلة عن السياسة. والذات الوطنية المتوازنة بلا تضاؤل أو تعال هي الركيزة الحقيقية للقوة.

https://youtu.be/9QYgw_DK450?si=MYNu6xBzUcDQRTk1

مركزية الغرب

كان سهلًا على أوروبا استعمار الوعي وترسيخ صورتها مركزًا للعالم بحكم استعمارها لبقية الشعوب، وعندما تسلمت الولايات المتحدة الرايةَ منها عقب الحرب العالمية الثانية استفادت من هذه الصورة وصار مفهوم الغرب، الذي يشمل أمريكا مركز العالم. حاولت حركات التحرر الوليدة منتصف القرن العشرين مقاومة هذه المركزية برومانسيةٍ وقلةِ خبرة، كما حاولت دراسات ما بعد الاستعمار تفكيك ركائز هذه المركزية بوعي كبير. لكن انتكاس الثورات الرومانسية وتحولها إلى دكتاتوريات خيالية أقسى من الاستعمار جعل مقاومة المركزية الغربية فكرةً محدودةَ الانتشار تتداولها النخب المثقفة، بينما تلعق الكثرة الغالبة في بلاد الجنوب العالمي هزائمها وخيباتها وتعود للتسليم بتفوق الغرب، حتى باتت كلمة "العالم" تعني الغربَ في الفهم العام.

لا يُقال هذا صراحةً لكن ذلك بالفعل ما يُضمره خطابنا السياسي والثقافي. العالم أشقر الوجه والشَعر، وهذه الرؤية تتجلى في مجموعة من اللقطات السريعة تعرضها شاشة بحجم راحتي اليد في المترو كما تتجلى في مناسبات كُبرى.

الهوية الإفريقية معطلة حبيسة كليشيهات الخطب المكررة بينما يتوجه الفعل صوب العيون الزرقاء

الشعار الذي تسيَّد إطلاق المتحف الكبير هو "هدية مصر إلى العالم". وكشف عرض الافتتاح أن الغرب هو ما نعنيه بكلمة "العالم". فور انتهاء الحفل نشرتُ على فيسبوك تعليقًا قصيرًا قرأت فيه بعض الدلالات والرموز، وفضَّلت انتظار انتهاء الضجة حتى أتناول الأمر بتوسع وهدوء أكبر في مقال المنصة، فالأمر لا يتعلق بسيرة أجدادنا وإنجازاتهم بقدر ما يتعلق بحياتنا نحن الآن، وبالمسافة بين واقعنا والصورة التي نرسمها.

بغض النظر عن المستوى الفني، الانحياز كان إلى موسيقى العيون الزرقاء، مع موتيفات موسيقية مصرية. البعض دافع عن هذا الاختيار باعتباره رغبةً في الحوار مع العالم، وهو دفاع مردود، أولًا لأن الحوار مع الآخر يكون بما لدينا وليس بما لديه، وما لدينا كثير، من مصر تتحدث عن نفسها ويا حبيبتي يا مصر إلى المقطوعات الموسيقية التي تصلح بديلًا عربيًا للتأليف السيمفوني، يندرج في هذا كل تراث عطية شرارة، مع عشرات المقطوعات من تأليف كبار موسيقيينا.

وإذا افترضنا أن الحوار يمكن أن يكون بتقديم موسيقى العالم؛ فالعالم فيه الهند والصين واليابان، وبالطبع وقبل الجميع فيه إفريقيا، عمود هويتنا الموازي للمكون العربي. لكن الهوية الإفريقية معطلة، حبيسة كليشيهات الخطب المكررة، بينما يتوجه الفعل صوب العيون الزرقاء. وقد آن الأوان للانتباه إلى إفريقيا في كل فعل ثقافي؛ مهرجاناتنا السينمائية ومعارض الكتب ومؤتمرات الأدب، إلى غير ذلك من مناسبات.

العدالة الثقافية

مشهد من فيلم المومياء - يوم أن تحصى السنين

السؤال الثاني حول المتحف الكبير وافتتاحه يتعلق بالرؤية التي تحكم هذه المنشأة الضخمة والأنيقة؛ هل يندرج المتحف ضمن منظومة الأرقام القياسية في العمارة التي تُشكل ركيزةً في توجهات الحكم في هذه المرحلة؟ أم يندرج في إطار إضافة ثقافية ومتحفية متكاملة تُعمِّق علاقة الناس بالأثر؟ أم نضعه ضمن منظومة ثقافية كاملة؟

إن كان المتحف رقمًا قياسيًا آخرَ في العظمة المعمارية، فقد أدى دوره على أكمل وجه بوصفه لقطة احتفال، عرضها التليفزيون وسرعان ما انتقلت إلى شاشة العرض الصغيرة بجدار عربة المترو، يطالعها الواقفون في الزحام. أما إن كان جزءًا من رؤية لدور المتحف ووظائفه الثقافية الموجهة للمواطن أولًا، فيجب أن تتبعه خطوات نهوض بالمتاحف القائمة، ووضع سياسات تسعير لتذاكر الدخول تراعي غير القادرين فتتدرج من المجاني إلى سعر تذكرة المتحف الكبير، وكذلك إتاحة التخفيض والدخول المجاني في أيام الاحتفالات والمناسبات الوطنية.

هذه الإجراءات ضرورية من أجل تحقيق العدالة الثقافية، التي يجب أن تتحقق كذلك من خلال خريطة متوازنة للمتاحف في المدن المختلفة وأحياء العاصمة، ومن المهم جدًا الإقلاع عن الاستخفاف بالثقافة الذي نشأ منذ عقود، وجعل أول أفكار حل مشكلات المرور تتوجه إلى تفريغ قلب العاصمة من المنشآت الثقافية.

هذا المبدأ يتطلب ألا يكون المتحف الكبير بديلًا للمتحف المصري العريق بالتحرير، لأن هذا الأخير يقع على مسافة متساوية من سكان العاصمة جميعًا. هذا بخلاف قيمته المعمارية والتاريخية بوصفه أول مبنى في المنطقة ومن أوائل المباني في العالم التي أُنشئت بهدف العرض المتحفي منذ الأساس، متناغمًا مع العمران حوله من خلال طراز الكلاسيكية الجديدة، وقد تجاوز عمره الـ120 عامًا، لم ينتقص من أبهته سوى الحديقة التي صُودرت، وكانت رئته وإطلالته على النيل.

لا يبدو المتحف المصري في أفضل حالاته الآن، يحتاج إلى إنعاش، وليت الحكومة تتراجع عن مشروع بناء فندق على أنقاض الحزب الوطني، وترد إلى المتحف حديقته، وهناك الكفاية من الفنادق التي تحيطه من كل الجهات، وسيضاف إليها قريبًا مجمع التحرير.

ليست المتاحف سوى مكون واحد من مكونات البناء الثقافي الذي قام عليه قلب القاهرة، هناك دور السينما المتداعية، التي تستحق الترميم والعودة إلى الحياة انتصارًا لتاريخها وتجديدًا لدورها في قلب المدينة، وكذلك المسارح، وأظن أن حصار المسرح القومي بالباعة الجائلين وميكروفوناتهم لا يرضي شيطانًا أزرق ولا أسود العينين. ولا يمكن لعاقل أن يتصور أن الدولة التي تعصف بالممتلكات الخاصة في أحياء سكنية كاملة أو بمقابر أثرية هي نفسها التي لا تستطيع أن تدافع عن مداخل المسرح وتؤمن الطريق إليه.

طبعًا تستطيع، إذا ولدت استراتيجية ثقافية تستهدف بناء الذات وتلمس موقعها ودوائر انتمائها والحوار معها من أجل علاج جرحها النرجسي، بدلًا من الاستمرار في مخاطبة العالم الأشقر.