نحو نظام اقتصادي دولي بديل من أجل دول الجنوب
قبل نحو شهر صدر مقال أكاديمي للكاتب الكوري الجنوبي الشهير ها جوون تشانج بالاشتراك مع الاقتصادي التشيلي خوسيه ميجيل أهاموودا حمل عنوان "نحو نظام اقتصادي دولي جديد للقرن الحادي والعشرين: وضع أجندة لسياسات الصناعة والتجارة من أجل الجنوب العالمي".
وها جوون تشانج لمن لا يعرفه هو أحد أعمدة الاقتصاد السياسي النقدي، وله كتابات بارزة في دراسات التنمية أهمها كتاب "السامريون الأشرار"، الذي فنَّد فيه الكثير من الحجج التي طالما ساقها صندوق النقد والبنك الدوليان في الدفاع عن السوق الحرة باعتبارها السبيل الوحيد للتنمية، حيث شدد على الدور التاريخي للدولة، وليس السوق، في دفع الصناعة وتطوير التكنولوجيا بدول جنوب شرق آسيا، خاصة بلده الذي عاش ما يعرف بالمعجزة الكورية.
يواصل ها جوون تشانج مسيرته النقدية في مجال التنمية من خلال المقال محل العرض والنقاش هنا، الذي يركز على أطر الحوكمة في مجال التجارة الخارجية.
منظمة التجارة العالمية ضد التنمية
يقدم تشانج وأهاموودا عرضًا تاريخيًا لمحاولات دول الجنوب العالمي، أو ما يعرف بالدول النامية، تعديل قواعد عمل الاقتصاد العالمي في مجالات الصناعة والتجارة والاستثمار منذ سبعينيات القرن الماضي، لكي تصبح هذه القواعد منحازة لمصالحها وليس لدول الشمال.
قيدت منظمة التجارة العالمية دول الجنوب وحرمتها من توجيه الاستثمارات الأجنبية أو دعم الصناعات المحلية
ولكن هذه المحاولات انتهت إلى الفشل بسبب موجة السياسات النيوليبرالية التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على بلدان الجنوب من خلال مؤسسات دولية من أبرزها منظمة التجارة العالمية التي تأسست في 1995.
وضعت منظمة التجارة الكثير من القيود على بلدان الجنوب حتى تمنعها من محاكاة التجارب الكورية والتايوانية أيضًا، فبينما استطاع هذان البلدان قبل عقدين أو ثلاثة من تأسيس المنظمة، بفضل تدخل الدولة في الاقتصاد، أن يدعما تعميق الصناعة وتوطين التكنولوجيا، فإن قواعد منظمة التجارة حالت دون تكرار هذه التجربة في بلدان أخرى من الجنوب العالمي.
قيدت التزامات دول الجنوب في ظل اتفاقات المنظمة من مساحات التدخل لتوجيه الاستثمارات الأجنبية، أو لدعم الصناعات المحلية، كما وضعت حواجز كبيرة تحول دون نقل التكنولوجيا من خلال تشديد إجراءات حماية حقوق الملكية الفكرية، خاصة فيما يخص براءات الاختراع والأسماء التجارية والأسرار الصناعية، مع لعب الولايات المتحدة دورًا مهمًا في تعقب ومعاقبة الشركات والدول المتهمة بالمخالفة.
العالم اليوم.. الأزمة والفرصة
الجدال حول دور الدولة في التنمية ربما كان قد بلغ ذروته خلال العقد الأول من الألفية الحالية، وقت أن كانت "النيوليبرالية" تتمتع بشيء من المصداقية لدى الأوساط الدولية، وتفرض هيمنتها عبر ترديد تصورات عن أن الدولة مستثمر فاشل والسوق هو الوحيد القادر على إحداث طفرة تنموية في بلدان الجنوب.
وفي مواجهة هذه النظرية الصاعدة، تبنَّى التيار النقدي-الذي كان ها جوون تشانج من قادته- أن السوق وحده لن يقدر على تحقيق هذه التنمية الموعودة، وأن بلدانًا متوسطة الدخل مثل مصر ستظل قابعة في نفس مستوى الدخل ما لم تتدخل الدولة.
تهشمت مصداقية النيوليبرالية مع اندلاع الأزمة المالية في الولايات المتحدة في 2008، عندما أصابت "النظرية" الاقتصاد الأمريكي في مقتل، وهو مركز الاقتصاد العالمي، فما بالنا بما فعلته في الدول الطرفية، لم يعد النقاش حاليًا يتمحور حول مدى قدرة النظام العالمي النيوليبرالي على تحسين دخل البلدان النامية، ولكن كيف نهدم هذا النظام ونعيد بناءه من جديد أو كيف نتعايش مع أزمته على الأقل.
في هذا السياق، يرى الكاتبان أن النظام الاقتصادي العالمي يواجه حاليًا أزمة عميقة متعددة الأبعاد، فهي من جهة سمحت للصين بالمزيد من الصعود على حساب الولايات المتحدة وأوروبا، ومن أخرى صارت الدول الغربية هي من تعارض مبادئ حرية التجارة بعد أن صارت لديها حاجة قوية لحماية صناعاتها المحلية.
وبالتزامن مع هذا تتحرك الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتدعيم صناعات مرتفعة التكنولوجيا من باب الأمن القومي وضمان التفوق الاستراتيجي الأمريكي على خصمها الصاعد: الصين.
يرى ها جوون تشانج وأهاموودا أنه بقدر ما تمثل تلك التغيرات خطورة على اقتصادات العالم النامي لأنها تأتي بالكثير من عدم اليقين، كما أنها تفتح الباب أمام فوضى قد يدفع ثمنها الأطراف الأضعف في الاقتصاد العالمي، إلا أن الاضطراب ذاته يمثل فرصة -ربما نادرة- لرفع مطالب ملموسة لتعديل النظام الاقتصادي العالمي لصالح دول الجنوب.
عودة السياسات الصناعية
يعدِّد المؤلفان نقاط قوة بلدان الجنوب في مرحلة ما بعد منظمة التجارة العالمية، هذه القوة مشروطة بقدرة تلك البلدان على تجاوز الخلافات والتنسيق فيما بينها.
أول هذه العناصر أن اقتصادات الجنوب اليوم أكبر كثيرًا مما كانت عليه وقت صعود النيوليبرالية، وذلك بفضل نمو اقتصادات آسيا في العقود الماضية خاصة الصين.
من ينظر إلى نصيب مجموعة السبع الكبرى من الاقتصاد العالمي في 1995 يجده عند 45% مقابل 17% للاقتصادات التي ستشكل مجموعة البريكس في 2010. أما في 2023 فقد أصبح وزن دول البريكس مجتمعة 32% من الاقتصاد العالمي في مقابل 29.9% لمجموعة السبع، بما يعني أن تزايد الوزن في التجارة والاستثمار العالميين يرفع من فرص تأثير دول الجنوب على تعديل القواعد الحاكمة.
اتفاقيات الملكية الفكرية وضعت بالأساس لحماية صناعات غربية من المنافس الآسيوي
انعكس هذا بالفعل على أرض الواقع من خلال إيجاد أدوات تمويل للتنمية تديرها دول الجنوب، مغايرة لمؤسسات نظام بريتون وودز: صندوق النقد والبنك الدوليين، على رأسها بنك التنمية الجديد وبنك البنية الأساسية الآسيوي، علاوة على الدور المتصاعد للبنوك الصينية، يساهم ذلك كله في تغيير أجندة التمويل نحو مشروعات أكثر ارتباطًا بالتنمية والصناعة في دول الجنوب.
ويضيف المؤلفان لهذه العوامل عامل الأيديولوجيا، الذي شهد تغيرًا كبيرًا في السنوات الماضية لصالح نماذج جديدة تتحدث عن دور متزايد للحكومات في التدخل الاستراتيجي من خلال سياسات صناعية تستهدف قطاعات ذات قيمة مضافة مرتفعة. عزَّز من فرص هذا التحول الأيديولوجي عودة السياسات الصناعية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الصين الشعبية.
كيف نستغل الظرف الراهن؟
القوة الصاعدة لبلدان الجنوب، وسقوط سمعة النيوليبرالية، يجب أن تُستغل لتوجيه ضربة للنظام العالمي وبناء نظام جديد، ما هي أولى الخطوات إذن نحو هذا المسار؟ يرى الكاتبان أن من أبرز هذه الخطوات هي التمرد على "التريبس".
يرى تشانج وأهاموودا أن اتفاقية التريبس، الخاصة بتنظيم جوانب الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة، وضعت بالأساس لحماية صناعات أمريكية وأوروبية بعينها من المنافسة المتزايدة من الاقتصادات الآسيوية في التسعينيات، وأنها خدمت أوضاع شبه احتكارية لبعض كبريات الشركات بزعم حماية ملكيتها الفكرية بما قيد كثيرًا من فرص نقل التكنولوجيا والخبرات والمهارات.
ساهمت التريبس في تجميد أوضاع اقتصادت الجنوب العالمي في مواضعها كاقتصادات حبيسة أنشطة منخفضة القيمة المضافة، بسبب ما فرضته من عوائق رفعت تكاليف الأنشطة عالية القيمة التي كان يمكن أن تدخل فيها بلدان الجنوب إذا كانت التكنولوجيا الغربية متاحة مجانًا.
وعبَّر ها جوون تشانج في كتابات سابقة عن قناعة، مدعومة بالكثير من الأدلة التاريخية، عن الارتباط الوثيق بين القدرة على ترقية الصناعات في بلدان مثل كوريا وتايوان بل والصين لاحقًا، وتجاوز قيود الملكية الفكرية. ويذهب في هذا إلى أن الحالات الأسبق إلى التقدم في الصناعات الدوائية في أوروبا، مثل ألمانيا وسويسرا، اعتمدت على ضعف نظم الملكية الفكرية في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ 20 كي تزيد من تنافسيتها في الأسواق العالمية.
يرى المؤلفان أن الوقت قد حان لبناء موقف موحد في هذا المجال بالتحديد بهدف صياغة قواعد تعبِّر عن المصالح الجديدة، بما يتجاوز القيود الاحتكارية التي رسختها التريبس منذ التسعينيات.
لا شك أن في مقال تشانج وأهاموودا الكثير مما يدعو للتفكير في المسارات الممكنة للتعامل مع أزمة الاقتصاد العالمي الراهنة، كما أن المقال يضع يده على عدد من القضايا ذات الأثر العميق على فرص التنمية المستقبلية.
لكن ربما أضعَف ما في المقال عدم إيلاء الاهتمام الكافي بصعوبات التنسيق بين دول الجنوب العالمي، ودرجة تماهيها في المصالح مع التفاوت المتزايد في هياكلها الاقتصادية.
ولعل الوزن الكبير للصين في الاقتصاد العالمي، وقدرتها على تجاوز صعوبات جمة في مجال تحصيل وإنتاج التكنولوجيا مرتفعة القيمة، يجعل هذا البلد غير مهتم بالضرورة بهموم دول الجنوب، التي لا تزال تعتمد على تصدير المواد الخام أو على الصناعات كثيفة العمالة.
وبالرغم من هذا التحفظ فإن مقال تشانج وأهاموودا لا يزال قيّمًا، إذا أخذنا في الاعتبار أن الخصومة الصاعدة بين الصين والولايات المتحدة، واتساع فجوة الخلاف بين الأخيرة وحلفائها الأوروبيين، كله من شأنه أن يزيد من مساحات التفاوض لدول الجنوب العالمي بين تلك القوى بحثًا عن فراغات تنفذ من خلالها لنظام مستقبلي أكثر قبولًا لمطالبها التنموية.