برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
بليغ حمدي

بليغ "المزيكاتي".. حياة صاخبة على إيقاع الموسيقى

منشور الجمعة 19 كانون الأول/ديسمبر 2025

يتتبع كتاب المزيكاتي للكاتبة والسيناريست وسام سليمان سيرةَ بليغ حمدي، ابن شبرا، صاحب المشروع الفني الخالد، والحياة الصاخبة التي شهدت لحظات انتصار وانكسار، بلغت ذروتها بالحادث الشهير لمقتل الفنانة المغربية سميرة مليان، التي عُثر على جثتها أسفل منزله بحي الزمالك.

هذه الدراما الحياتية لم تكتفِ وسام سليمان بتقديمها في كتاب سيرة عادي، لكنها اختارت قالب "الرواية" ليستوعب اللحظات والمواقف التي وإن انتمت للواقع فإنها تفارق المعتاد والمتوقع في الحياة الاعتيادية، لذا تُوصف كلمة الغلاف الكتاب الصادر عن دار المرايا على أنها "ليست سيرة متخيلة وليست سيرة متخيلة إنها سيرة روائية لموسيقي كبير، كان يحب أن يقول عن نفسه وباللهجة المصرية مزيكاتي". 

قدَّمت وسام سليمان عددًا من السيناريوهات لأفلام مثل أحلى الأوقات وبنات وسط البلد وفي شقة مصر الجديدة وفتاة المصنع، ونالت جوائز بينها جائزة المهرجان القومي للسينما المصرية وجائزة ساويرس وجائزة مهرجان الإسكندرية السينمائي.

البدايات من "ماريا"

اقتنيتُ الكتابَ منذ شهور عديدة. وضعته إلى جانبي، واحتشدت لقراءته لأسباب عدة؛ على رأسها محبتي لبليغ ومعرفتي بقدره في المقام الأول، ثم القضية الشهيرة التي ارتبط اسمه بها وحيّرتني إلى أن عرفت الملابسات أولًا من المؤلف المسرحي علي سالم ثم من شقيق بليغ المثقف والكاتب الصحفي الراحل الدكتور مرسي سعد الدين؛ أول متحدث باسم رئاسة الجمهورية وأول رئيس للهيئة العامة للاستعلامات.

كتبت وسام سليمان سيرة بليغ بروح السيناريو؛ مشاهد لماحة، عرض متتابع ومشوق لحياة الفنان الراحل وفنه وعذوبته وشطحاته وعلاقاته العاطفية الملتهبة دائمًا.

ولد بليغ حمدي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1931 كما اتفقت أغلب المصادر في حي شبرا مصر، وهو ما يتوقف الكتاب عنده؛ متتبعًا البدايات المبكرة لابن الحي المتنوع الذي كان يحتضن كل الجنسيات والأديان والعقليات والاختلافات بسماحة ومحبة وأُلفة؛ حي الطبقة الوسطى التي اندثرت أو تكاد، طبقة المتعلمين والأفندية والأُسطوات والفنانين من مختلف الجنسيات والأديان؛ من الشوام والجريك والأرمن والطليان جميعًا في أحضان المصريين مسلمين ومسيحيين ويهودًا.

نرى حب بليغ الأول لماريا اليونانية، جارته، ومدى فجيعته برحيلها. ثم تتوالى قصصه العاطفية المرهفة دائمًا وغير المستقرة حتى بالزواج، وأشهرها قصة الحب التي جمعته بالفنانة الراحلة وردة الجزائرية، وانتهت بزواج دام لـ6 سنوات ثرية.

موال ما زال يبكيني

احترف بليغ الموسيقى في سن صغيرة. بدأ مغنيًا، حيث قدم عددًا من الأغاني للإذاعة، قبل أن يحترف التأليف والتلحين، ويرتبط اسمه بفنانين بقدر أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة وشادية، قدم معهم عددًا من الأغاني الشهيرة والألحان الخالدة التي ترسخت في الوجدان المصري؛ تخونوه وعمره ما خانكم؛ خسارة خسارة فراقك يا جارة لعبد الحليم حافظ، وحب إيه للست التي لحنها عام 1960، وهو في أواخر العشرينات من عمره، فترسخ ملحنًا دائمًا لأغاني كوكب الشرق بعد ذلك.

قدَّم بليغ "أنساك.. دا كلام.. أنساك.. يا سلام" من كلمات الشاعر مأمون الشناوي، ثم بعدها "زى الهوي" و"جانا الهوى" و"موعود" و"على حِسب وداد قلبي يا بوي" و"يا حبيبتي يا مصر" و"موعود"، حتى نكسة يونيو/حزيران 1967 وموال النهار لعبد الرحمن الأبنودي، الذي أبكانا فيه بليغ وعبد الحليم يتحسر على ما حدث؛ "بلدنا ع الترعة بتغسل شعرها.. جانا نهار ما عرفش يدفع مهرها"، ذلك الموال الذي ما زال يبكيني حتى هذه اللحظة عن عصر بحاله، وأحداث عظيمة، لكنها انتهت بنكسة وحسرة ما كانت في الحسبان، كسرت جيلًا بأكمله هو جيلي الذي ولد مع قيام ثورة 1952، وعاش وفرح بأحداثها، حتى اكتوى بانكسارها الموجع في يونيو 1967.

انعكست المشاعر الوطنية المحتدمة بعد النكسة على بليغ الذي أصرَّ على الإقامة والمبيت بالإذاعة المصرية وقت الحرب مقدمًا ألحانه للأغاني الوطنية التي رفضت الهزيمة وحاولت مداولتها.

لم يقتصر عطاء بليغ على موسيقى أغنياته، لكنه قدم للسينما الموسيقى التصويرية لفيلم شيء من الخوف من تأليف ثرورت أباظة وإخراج حسن كمال، كما صنع موسيقى أعمال مسرحية، من بينها ريا وسكينة، وعينه على المسرح الغنائي كغيره من الموسيقيين الكبار، في مقدمتهم الشيخ سيد درويش.

جريمة في الحي الراقي 

أكثر ما لمسني في الكتاب هو الصدق في سرد الكثير من الحكايات التي سبق وسمعتها من أخيه الدكتور مرسي سعد الدين في لقاءاتنا الأسبوعية بمطعمي إستوريل بوسط القاهرة أيام الأربعاء، وPub 28 في الزمالك، أيام الاثنين، حيث توطدت علاقتنا وانتظمت لقاءاتنا لأعوام حتى رحل عن عالمنا.

تلمَّستُ من شقيق بليغ روحَ ما ذَكَرَته الكاتبة في سياق الكتاب من الكرم الحاتمي للراحل والرقة المتناهية في تعامله مع الناس والحياة؛ حكاياته وعذابات في دراسته الجامعية مع ارتباطه بالمزيكا وضجره من ملاحقة أخته صفية له ليهتم بدراسته، التي لم يستطع إرضاءها بإكمال دراسته للحقوق حتى توقف عنها.

أما القضية الشهيرة التي دمرت حياة بليغ ومستقبله، فيبدأ الكتاب من لحظةٍ تاليةٍ لوقوعها والمؤلف الشهير في منفاه بباريس يسأل عن مسار القضية التي وقعت في 17 سبتمبر/أيلول عام 1984، حين استيقظ سكان حي الزمالك الراقي على صخب العثور على جسد الفنانة  المغربية سميرة مليان ملقى أسفل شرفة منزل بليغ. قيل إنها انتحرت قفزًا من شقته وقيل إنها أُلقيت، وظلَّت ملابسات موتها غامضة، واضطر بليغ للسفر إلى فرنسا للهرب من الملاحقة. 

من يعرف طبيعة بليغ الشخصية بالغة الكرم والخجل المرحبة بكل من يقابله في حياته ولو عَرَضًا، يدرك أنه كان يفتح بيته بكرمه العاطفي لكل أصدقائه ومعارفه ومعارف معارفه دون حساب، يستقبلهم في البيت بكرم وترحاب في جميع الأوقات خلال ساعات الليل والنهار، سواء كان صاحب البيت موجودًا أم متغيبًا أم نائمًا أم مستيقظًا.

كان الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء يأكلون ويشربون ويسهرون، كما يحلو لهم، ولا يعرف بليغ من بالبيت، ولا من جاء مع من، فالجميع على الرحب والسعة في رحاب كرمه الحاتمي وإنسانيته المتدفقة وترحيبه، هذا ما حكاه لي الأستاذ علي سالم، مبررًا للفنان الراحل عدم معرفته بما جرى في شقته في ذلك المساء القاسي. 

أكد سالم على كرم وطيبة وبساطة الرجل، الذى لم يكن يعرف المطربة التي ألقت بنفسها من شرفة منزله، فكانت القضية وتوابعها من الهجوم والتشفي في ذلك الجو الملتهب بالتعصب والعنف وادعاء الفضيلة في فترة عصيبة مرت على مصر في سنوات نهاية القرن العشرين.

تتنقل وسام سليمان بين مشاهد تسرد الحياة الغنية لبليغ؛ تورط القارئ معها عبر طريقة الكتابة التي اختارت أن تتتابع كما يحدث في السيناريو، ولا عجب فهي بدأت في تتبع قصة بليغ، كما تقول في حديث صحفي، عندما عرض عليها أحد المخرجين كتابة سيناريو رومانسي عن علاقة الحب بين بليغ وورد.. وحين توقف المشروع لم يكن لديها سوى الكتابة عنه عبر وسيط الأدب.