"ست" مروان حامد.. دليل الخطايا السينمائية
سألني صديق لا يمت لعالم صناعة الترفيه بصلة، إذا كان الكاتب يكتب السيناريو، والمصور يصوّر، والمونتير يُقطِّع المشاهد، ما هو دور المخرج؟ الإجابة واضحة في ذهني منذ بدأ اهتمامي بالسينما، قبل عقود. دور المخرج هو اختيار أنسب حل في كل موقف، لأن الخيارات غير محدودة، وعليه في كل لحظة أن يختار الأفضل لرؤيته الفنية الأنسب للعمل.
ومن أكثر المُخرجين الذين أُتيحت لهم خيارات -وفرص- غير محدودة المخرج مروان حامد مشواره السينمائي بفيلم عمارة يعقوبيان (2006). كان واضحًا أن شابًا بأفكار جيدة أتيحت له خيارات وفرص غير محدودة، سيناريو كتبه أحد أهم الكتاب في تاريخ السينما المصرية -بالمصادفة هو والده- السيناريست وحيد حامد، مع بطولة لأهم وأشهر ممثل مصري على قيد الحياة عادل إمام.
تقريبًا جُمع له فريق عمل يشبه أفلام مارفيل التي تجمع كل الأبطال الخارقين، وميزانية مفتوحة من شركة جودنيوز سينما، ودعاية غير محدودة وعرض غير رسمي في مهرجان كان. النتيجة: فيلم متماسك وشخصيات عالقة في ذهن المشاهدين ناتجة في الأساس عن سيناريو محكم وتفاصيل يجيد وحيد حامد زرعها في تاريخ كل شخصية، ليبدو كأنه يكتب رواية ضخمة ويختار منها أجزاءً قصيرة لعرضها في الفيلم.
لم يقدم مروان في الفيلم شيئًا جديدًا، لكن مع تجاربه اللاحقة ومن أبرزها إبراهيم الأبيض (2009) والفيل الأزرق 1و2 (2014) و(2019) وكيرة والجن (2022) سيقدم نفسه مخرج أكشن بشكل مميز، يمتلك ما يمكن تسميته بصورة جيدة. ليست كادرات فنية ذات معنى عميق بقدر كونها مبهرة للمشاهد من حيث تفاصيلها وإضاءتها.
هكذا اتسمت أعمال مروان بالإيقاع السريع الجذاب المميز للأفلام التجارية التي تحصد إيرادات كبيرة، حتى جاء الإعلان عن فيلم الست سيرة أم كلثوم، وهي من هي. لاقى المقطع الترويجي انتقادًا واسعًا بسبب الإيقاع السريع غير المتناسب مع الصورة الذهنية للست ولا توقعات الجمهور، لكن يبقى الأهم هو ما قدمه في الفيلم الذي امتد لما يقارب الثلاث ساعات.
عشوائية الأغاني والموسيقى
يمكن تحليل الفيلم من زاوية قدرة مروان على خلق صورة سينمائية مميزة أو سرد قصة أم كلثوم بطريقة مناسبة، لكن دعنا نتناول كل عنصر من عناصر صناعة الفيلم ونرى كيف كانت قراراته في كل جزء، هل يتحمل صناع الفيلم اختيارات المخرج أم أنها رؤيتهم أيضًا؟
من غير المعتاد أن تكون الموسيقى أول ما أختار تحليله في فيلم، إلا لو كان الفيلم عن الست التي صنعت مسيرة موسيقية لا تزال مؤثرة بعد أكثر من 120 سنة من ميلادها (1898)، فماذا قدم هشام نزيه لموسيقاها؟
انقسمت الموسيقى لثلاثة أنماط: مقاطع غنَّتها نسمة محجوب وأخرى من أغاني أم كلثوم وموسيقى تصويرية. كانت مقاطع نسمة موفقة في معظمها، لكن خيارات الأغاني بدت وكأنها تسعى لاستبعاد الأغاني الأشهر لكوكب الشرق مقابل أخرى أقل شهرة. أما المقاطع الأصلية، فلم تراعِ الاختيارات توقيت الأغاني ولا معانيها.
أفضل مثال على ذلك هو استخدام مقطع أعطني حريتي أطلق يديَّا في مشهد لمحاولة تحرر "الشابة" من قبضة أبيها، كان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، أي نحو ثلاثين عامًا قبل غناء "السيدة" للأطلال للمرة الأولى عام 1966.
هنا أغفل مروان العلاقة الزمنية بين الأغنية وصوت أم كلثوم، وقراراتها وأغانيها، فكان من الصعب تخيل الشابة تغني رائعة إبراهيم ناجي ورياض السنباطي، إضافة لإغفال أو عدم فهم قيمة ورمزية الأغنية التي احتفظت بها لسنوات قبل أن تغنيها لأول مرة في 7 أبريل/نيسان 1966 على خشبة مسرح دار سينما قصر النيل بالقاهرة، ثم غنتها بعد نكسة 1967، لأول مرة خارج مصر في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 على مسرح الأوليمبيا في باريس.
منذ تلك اللحظة ارتبطت الأغنية وخاصة ذلك المقطع بمقاومة إسرائيل. أعادت كوكب الشرق المقطع لأكثر من 25 مرة في حفلتها في تونس (1968)، كان الجميع يفهم من المحيط للخليج معنى ذلك المقطع، لكن المخرج اختار له معنىً جديدًا سيفشل حتمًا أن يغير ما استقر في عقول الجماهير لأكثر من ستين عامًا.
كل اختيارات المقاطع بصوت أم كلثوم كانت منقطعة الصلة بواقع الأغاني وتوقيتها ومغزاها حتى نهاية الفيلم، لكن تلك الخيارات على ضعفها لا تصمد أمام ما قدمه هشام نزيه في الموسيقى التصويرية للفيلم والتي تقترب بشدة من كونها جريمة فنية.
لو لم يكن فيلمًا عن أم كلثوم، لربما أصبحت موسيقاه التصويرية جيدة، لكني لا أعرف حقيقةً ما دار في عقل هشام نزيه حين قرر تأليف موسيقى غربيةً باستخدام آلات نفخ غربية وإيقاع غربي لمشهد الوصول إلى محطة مصر في ثلاثينيات القرن الماضي. هل يمكن صناعة موسيقى تصويرية عن أهم مطربة في تاريخ الوطن العربي كله باستخدام أدوات غربية لا تمت بأي صلة لما قدمته وهو يتجاوز ما يمكن حصره؟
لا، لا يمكن كتابة موسيقى تصويرية غير ذات صلة بموضوع الفيلم وبطلته. يجب على كل عنصر في أي فيلم أن يكون معبرًا عما يقدمه وعن شخصياته. هل قدم نزيه موسيقى عربية مرتبطة بأم كلثوم ورفضها مروان حامد؟ ربما. هل قرار استخدام موسيقى نزيه المُشَوِّهَة للفيلم بيد المخرج أم مؤلف الموسيقى؟
إنه قرار المخرج بلا شك، قرار متناسب مع كل تاريخه في صناعة أفلام بتأثر غربي وبحث عن إيقاع سريع يدفع الأدرينالين في عروق مشاهديه. هل نسي أن الفيلم عن أم كلثوم؟ هل تغاضى عن موسيقاها؟ هل طلب من نزيه موسيقى على طريقة فيلم إبراهيم الأبيض؟ لا أعرف، ولا أهتم. ما قدمه الفيلم من ناحية خيارات الموسيقى هو أمر مشين لمنطق صناعة السينما.
بالتة ألوان بيد طفل كبير
منذ أن بلغت ابنتي الثالثة من عمرها اعتدت أن أصطحبها في مشاويري للسوبر ماركت ومحال الألعاب الكبرى، أعطيها مبلغًا محددًا مسبقًا من المال وأطلب منها أن تختار فقط ما يناسب ما اتفقنا عليه، اعتادت ليلى منذ ذلك الوقت أن تختار فقط ما يناسبها ولا تحاول جمع كل شيء حتى لو كان بوسعها شراؤه، تعلمت ليلى أن وجود الكثير من الخيارات لا يعني الحصول عليها كلها.
عندما تصنع فيلمًا عن زمن فات، ربما تختار ألوانًا مناسبة لكل فترة أو لكل مرحلة ذات معنى في عقل بطل الفيلم، عندما يتذكر البطل ماضيًا بعيدًا تلونه بالأبيض والأسود، عندما تقع الأحداث في سبعينيات القرن الماضي تلونها بشكل مناسب لتلك الفترة، وعندما نعود للثلاثينيات تختار لونًا جديدًا، هل جربت أن تستخدم كل الألوان في اللحظة نفسها؟ لا أعرف إذا كانت تلك سابقة لمروان حامد أم لا، لكنها ربما لضعف ذاكرتي أول مرة أشاهد فيها مشهدًا يدور في نفس الفترة الزمنية (الزمن الحاضر لدقائق) تستخدم فيه كل الألوان الممكنة.
يفتتح فيلم الست برحلة أم كلثوم إلى باريس للغناء على مسرح الأولمبيا الشهير دعمًا للمجهود الحربي بعد نكسة 1967. اختار مروان أن يجمع كل مؤثرات الألوان في المشهد نفسه، تارة يلونها بالأبيض والأسود وتارة يعود لألوان "ريترو" التي تُستخدم للإيحاء بأن الصورة من الماضي، ثم يعود لاستخدام ألوان أكثر تباينًا. اغتوى بالإتاحة فقرر أن يبهر مشاهديه بكل مؤثر موجود في برامج تحرير الفيديوهات، كلها مرة واحدة دون سبب يمكن إدراكه.
حاولت في مشاهدتي الثانية للفيلم أن أتبين سببًا لجمع كل هذه المؤثرات في مشهد يقع خلال دقائق معدودة، فلم أجد إلا واحدًا: استعراض الأدوات المتاحة، ربما خوفًا من اختيار عنصر واحد منها، ربما لإبهار المشاهدين، وربما لغياب أي رؤية في اختيار الألوان.
النتيجة: كل اختيارات الألوان على مدار الفيلم غير مبررة، حتى أن بعض المشاهد اختار فيها مروان ألوانًا حديثةً للغاية كأنها إعلان رمضاني، خاصة مشهد توزيع أم كلثوم للهدايا على الأطفال، إضاءة باهرة، ألوان حديثة لا تتوافق مع أي مقطع آخر في الفيلم، الخيارات كثيرة؟! لنجمعها كلها في فيلم واحد.
عيون منى زكي
قال صناع الفيلم إن قرار اختيار منى زكي للدور رغم أنها لا تشبه أم كلثوم سببه الإيمان بقدراتها التمثيلية الكبيرة، وهو خيار يمكن للمخرج أن يذهب إليه ولا مشكلة في ذلك، وربما اختار ألَّا يكون هناك شبه متطابق لأي من أبطاله مع الشخصيات الرئيسية، ليحرره من البحث عن التشابه الجسدي والحصول على أقوى أداء ممكن.
اختار مروان بشكل متكرر على طول الفيلم كله عيون أم كلثوم لتكون المعبر الأساسي عن مشاعرها. عشرات المشاهد لعيون منى زكي في دورها، فهل نجحت في التعبير عن مشاعر الشخصية؟ للأسف هذا لم يحدث مطلقًا، إذ تحولت المشاهد الملغمة بالمشاعر أو التي يُفترض بها أن تكون كذلك إلى عبء إضافي على الفيلم، خاصة وأن خيارات تناول كل حكاية في حياة الست المستعرضة في العمل لم تُعط منى مجالًا للتمثل أصلًا. وعوضًا عن ذلك افترض المخرج أن اقترابه من العيون في مشاهد الكلوز ستكون كافية للتعبير عن قصصه المبتورة.
قدمت منى مشاهد جيدةً لأم كلثوم الشابة المتمردة والخجولة أحيانًا، لكنها فشلت في تقمص أشهر ما عبرت به الست عن نفسها: انفعالاتها الجسدية على المسرح، وظهرت منى كأنها ممسوسة، لم تقترب إطلاقًا من الشخصية التي تؤديها مثلما لم تقتنص خجلها في حواراتها التليفزيونية التي تبرز دومًا، حتى وإن كانت مجرد قناع ترتديه تلك الشخصية المتجبرة.
أحمد مراد.. والـHook الأمريكي
لنحاول، دون الخوض في كل الجدل الذي أثاره الكاتب والسيناريست أحمد مراد في حواراته عن الفيلم، فهم ما قدمه أحد أكثر كتاب الروايات مبيعًا وصاحب مجموعة من الأفلام الأعلى إيرادًا في تاريخ السينما المصرية.
تُكتب السيناريوهات في أشكال وأنماط مختلفة، أشهرها الفصول الثلاثة، وهي رغم بداهتها كأسلوب لا تستخدم بالطريقة نفسها في كل الأفلام أو الحكايات، هل هي فصول ثلاثة على نمط المسرح الإغريقي، أو المسرح الحديث، أم أنها مجرد عناصر موجودة في كل حكاية منذ ما قبل التاريخ، بداية ووسط ونهاية؟
هناك أيضًا نمط شائع في العديد من الأفلام التجارية، خاصة في السينما الأمريكية، يعتمد على الفصول المتتابعة، حيث يحتوي كل فصل على بداية ووسط ونهاية واضحة قبل الانتقال إلى الفصل التالي، حتى يصل الفيلم إلى نهايته.
اختار أحمد مراد أن يكتب الفيلم كفصول يحدها في بدايتها ونهايتها حفل الأولمبيا، حتى لو حادت نهاية الفيلم عن الحفل لتنتقل لجنازة أم كلثوم، ثم بشكل غير مفهوم تتابع لقطات وأغانٍ لها قبل وفاتها، لكن دعنا نتناقش فيما كُتِب.
استخدم الشكل الأمريكي التقليدي المتمثل في بدء الفيلم بـHook يخطف انتباه المشاهد ويلقيه في أجواء العمل دون مقدمات. خيار مناسب لأفلامه السابقة مع مروان لكنه ليس الأفضل لفيلمنا هذا. يبقى خيارًا فنيًّا ممكنًا بالطبع، إلا أن ما اختاره السيناريو كان في الحقيقة قصة خاطفة مفتعلة وغير حقيقية، أو على أقل تقدير لي ذراع منه للقصة لتبدو كأنها حادثة على وشك الوقوع، لنكتشف أن ما وقع هو محاولة معجب بالست أن يقبل قدميها فتسبب في سقوطها.
يتشابه مشهد السقوط مع مشهد بداية فيلم La Vie En Rose عن حياة المطربة الفرنسية الشهيرة إديث بياف، لكن سقوط إديث كان إشارة لسقوطها عن عرش الموسيقى، وهو ما لم يكن حقيقةَ حادثةِ أم كلثوم.
انطلق بعدها مراد بالنسق الأمريكي الشهير: بداية الرحلة، كما يسمى في أدبيات كتابة السيناريو الأمريكية، رحلة حقيقية تخوضها الطفلة أم كلثوم مع أبيها وأخيها لساعات لتغني وتنشد، وحكى قصصًا عن بدايتها ليصنع منها شخصية إنسانية تعيش معاناة لتتمكن في اللحظة المناسبة من تخطي تلك الأحداث، إضافة لقدرة الحوادث الصغيرة في البدايات على أن تكون محرك قرارات الشخصيات في مستقبلها، وهو خيار فني مميز ومتوقع.
ولأن بعض القصص بدت صعبة التصديق أو هكذا رأى مراد، استعان بقرار منه أو من مروان، بأرشيف صوتي لأم كلثوم تعيد حكي ما عُرض على الشاشة، وهو خيار فني جيد وكان يمكن البناء عليه، لكن بعد مشهدين فقط قرر المخرج والسيناريست التخلي عن هذا الخيار، فلماذا إذًا عُرض في البداية؟
عشرات الحكايات والقطعات
كيف تحكي عن امرأة عشقها كل من حولها من رجال؟ كيف تحكي عن أشهر عزباء حتى سن الخمسين؟ كيف تحكي عن علاقات أم كلثوم العاطفية؟
اختار أحمد مراد تقديم حكايات مبتورة عن علاقاتها العاطفية، لم يظهر حوار واحد مطول وعميق بين أم كلثوم ومحمد القصبجي/تامر نبيل طيلة الفيلم، حتى لحظة مواجهتهما، عندما اقتحم بيتها. كيف وقع الحب؟ لم نعرف، لم تظهر إلا لقطة وحيدة له ينظر إليها وهو يعزف، لم تكن كافية لسرد أي حكاية عن العلاقة.
أمَّا علاقتها بأحمد رامي/محمد فراج التي أفردت لها عدة مشاهد، فكانت ضعيفة للغاية، لم تهتم إطلاقًا بالإشارة إلى قصة متداولة يعرفها الجميع عن حب مستتر في قصائده التي كتبها لتغنيها. واكتفى المخرج بمشهد اعتراف رامي بحبه وصد أم كلثوم له. ورغم أداء محمد فراج الجيد في معظم مشاهده فإن اختيار مروان لصورة أحمد رامي الشهيرة واضعًا يده على وجهه بدت مبتذلة لأقصى درجة، وكانت الشبه الوحيد بين رامي وفراج كما رآها المخرج.
لا تقع عينا المخرج على الحب ولا يهتم بطريقة تشكله، يطعمنا إياه كالأطفال في معلقة من كادرات مضاءة بشكل مبهر وديكورات مذهلة لرجال يعبرون لأم كلثوم عن حبهم، وتنتهي العلاقات إما برفضها، أو رفض الملكة نازلي، أو خطوبتها، أو زواجها. بصقت ما قدَّمه مروان ولم أستسغه.
أو ربما هذا ما قدمه أحمد مراد ككاتب؟ فما هو الأهم، أن ترى الحب يتشكل أم ترى الصراع؟ أيهما أسرع إيقاعًا وحيوية؟ يجدها السيناريست الدراما الحقيقية في النتائج وليس في الحكايات، لذلك بدا كل اسكتش من الاسكتشات عبارة عن محاولة لصناعة حكاية مثيرة وسريعة تلج مباشرة لقلب الدراما ليتسارع معها الأدرينالين المفترض للمشاهد.
فرض سيناريو مراد هذا الإيقاع، والتقطه مروان ليصل به لذروة السرعة في شكل قطعات متتالية تصرخ في وجه المشاهد بأن ينتفض الآن، فاللقطات سريعة والقطعات متتالية والزوايا لا نهائية والألوان تتغير والموسيقى درامية، لماذا لا تنبهر عزيزي المشاهد؟
لأن الإيقاع ابن الحكاية، لا يمكن فرض إيقاع على الحكاية، الحكاية نفسها تحدد الإيقاع، لكن مروان حامد يعرف طريقة واحدة لصناعة السينما، قاعدة ذهبية، لا يجب أن يشعر المشاهد بالملل، وطريقته في تحقيقها أن يُغيَّر الصورة أمامه، فعندما اختار أن يسرد بلغته السينمائية مشاهد حفلات أم كلثوم، صوَّر عددًا لا نهائيًا من اللقطات الضيقة للجمهور فردًا فردًا ليقطع بها المشاهد سريعًا.
هكذا يحكي تأثر الجمهور، هكذا يحكي موسيقى أم كلثوم وتأثيرها. ربما لو قرأ قليلًا عنها وهو بالضرورة يعرف أن الست حتى نهاية عمرها كانت تخاف من الجمهور، ربما أعاد التفكير في أسلوبه.
هناك حكاية متداولة عن أم كلثوم تشرح فيها طريقة تغلبها على الخوف من مواجهة الجمهور، من خلال اختيارها شخصًا واحدًا من الحضور تمعن النظر تجاهه وتتخيل أنها تغني له فقط.
استخدم مروان هذه الفكرة، وصنع منها حكاية من وحي خياله فقط، حينما كرر مشاهد تخيل الست والدَها المتوفى يظهر في المسرح، وعززها بمشهد ينصح فيه الأب الذي جسد دوره سيد رجب بشكل مثالي، ابنته الصغيرة أن تنظر إليه وهي تغني وأن تنسى كل ما حولها.
أين وحيد حامد؟
امتاز وحيد حامد بقدرة مذهلة على صناعة شخصيات تبقى في الذاكرة، مهما كان دورها صغيرًا ينجح دومًا في خلق تفصيلة ترسخ الشخصية في الذاكرة، والأمثلة لا نهائية. ربما كان وحيد حامد أبًا مثاليًا بجانب كونه أهم من كتب السيناريو في تاريخ السينما المصرية، لكن لا يبدو لي معلمًا ممتازًا، أو ربما لم يكن الابن طالبًا نبيهًا.
لم يرث مروان من والده شيئًا من قدرته على صناعة الشخصيات ولا تقدير أهميتها، فكانت كل اختياراته لقصصه في الفيلم مبتورة من جهة، وغير مؤثرة من جهة أخرى، لم يقدم أي ملمح لأي من أبطاله ليبقى أثره في ذهن المشاهد، اللهم إلا سيد رجب في دور الأب، والذي أظن أنه سيبقى مخلدًا في ذاكرة من يشاهد الفيلم، ليغدو الأب الرسمي في عقولهم.
كل الشخصيات قُدِّمت على عجل وبدون عمق حقيقي واستنادًا لضخامة الإنتاج وعلاقات صناع الفيلم، أتوا بأشهر الممثلين المصريين لأداء كل الأدوار الصغيرة أو الهامشية في الفيلم لكن ذلك لم يُساعد في أن يترك أيٌّ منهم أثرًا، ربما باستثناء نيللي كريم في دور الملكة نازلي التي جسدت في لقطات قصيرة التسلط الملكي، وإن عابها الحوار غير المتناسب مع الزمن أو الشخصية، وهي بالضرورة مشكلة صنعها أحمد مراد.
على مستوى اللغة لا يمكن للحوار الدائر في ثلاثينيات القرن العشرين أن يكون مماثلًا لذلك الدائر اليوم، لا يمكن تصور الملكة نازلي/نيللي كريم تقول لشريف باشا/كريم عبد العزيز رفضًا لسعيه الزواج من أم كلثوم "انسى"، لا يمكن لأحمد رامي أن يقول "السؤال بقى..."، لا يمكن لضابط الشرطة أحمد حلمي أن يتحدث بالطريقة التي حكى بها، لو شاهد أحمد مراد فيلمًا قديمًا لربما تمكن من إعادة صياغة جمله الحوارية، التي تبدو أنها تبحث عن القفلة الحراقة و"الإفيه"الذي يعلق في ذهن المشاهد .
البيت الموحش والقاعات الفارغة
لم أهتم أبدًا بما أثار الجدل حول الصورة التي يقدمها الفيلم عن ضعف أم كلثوم أو تسلطها، تلك خيارات فنية للمخرج وصناع الفيلم ولهما مطلق الحرية لاختيارها، لكن كيف لنا على مدار أقل من ثلاث ساعات ألا نرى كيف تصنع أهم مطربة وربما أهم صانعة موسيقى في تاريخ الوطن العربي، موسيقاها؟ والأدهى من ذلك أن أحمد مراد ومروان حامد اختارا عرض عزلة أم كلثوم عن العالم بتصوير بيتها فارغًا كأنه قبر.
في واقع الأمر كان البيت مقرًا لآلاف الاجتماعات، وشاهدًا على مئات الأغاني التي خرجت للنور، ربما يصير فارغًا ولا يسكنه إلا الوحشة ليلًا، لكن مروان ومراد اختارا أن يحولاه مقرًا للوحدة، رغم أن التباين بين صخب البيت نهارًا وفراغه ليلًا كان سيعطي المشاهد صورة مثالية لفهم الحالات المتباينة التي عاشتها أم كلثوم.
منذ اللحظة الأولى لدخولي قاعة السينما التي قصدتها لمشاهدة "الست" تعجبت من فراغها. خلطة أحمد مراد، ومروان حامد، وصورة أم كلثوم، ووجه منى زكي، كان يفترض بها أن تجذب الجمهور لمشاهدة الفيلم حتى لو خرج غير راضٍ. لا أعرف السبب، لكن ربما يكون ذلك نتيجة لمقطع الفيديو الترويجي الذي لم يلق النجاح المطلوب.
ربما على أحمد مراد ومروان حامد أن يعيدا التفكير في اللغة المناسبة لسرد الحكايات السينمائية، أو ربما عليهما أن يتمسكا بما نجحا مسبقًا فيه بصناعة أفلام أكشن تحقق إيرادات عالية ولا تجلب لهما صداع الدفاع عن كل خيار في عملهما، أما ما قدماه عن الست، فالجيد أن سيرتها أبقى، وسطوتها وغناءها وموسيقاها وصورتها راسخة للحد الذي سيجعل الفيلم منسيًا أسرع مما يظن صانعوه.