البيت الأبيض، فيسبوك
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في الكنيست، 13 أكتوبر 2025

ضغوط ترامب للتطبيع المجاني مع العدو

منشور الثلاثاء 23 كانون الأول/ديسمبر 2025

منذ التوقف المؤقت للحرب في غزة قبل أكثر من شهرين، وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تضغط على الحكومات العربية المتحالفة مع واشنطن من أجل قبول دمج إسرائيل في المنطقة والعودة لمسار تطبيع العلاقات معها.

كأن حرب الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون لعامين كانت مجرد جولة حرب أخرى في المنطقة، وليست نقطة تحول أعادت رسم خريطة المنطقة وأثرت على رؤية العالم لدولة الاحتلال ككيان يديره مجرمو حرب مع تضامن غير مسبوق مع حقوق الشعب الفلسطيني.

التطبيع مقابل الاستقلال

قد يكون التحدي الأكبر أمام الحكومات العربية الضامنة لاتفاق الهدنة الأخير، على رأسها مصر، خلال السنوات الثلاث المقبلة، هو موقفها من خطط ترامب الاستثمارية العبقرية لتطوير منطقة الشرق الأوسط برمتها وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل أن يتحقق إنهاء الاحتلال العنصري للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 وإقامة دولة فلسطين.  

تدرك كل دول العالم، من بينها الدول العربية، أنها مضطرة للتعامل مع رئيس أمريكي أهوج ومغرور لا يهمه سوى مجده الشخصي زاعمًا أنه الأفضل على الإطلاق ليس في تاريخ الولايات المتحدة فقط، بل في العالم برمته.

لذلك، فإن معارضة ضغوط ترامب علنًا ليست خيارًا متاحًا أمام القادة العرب الذين يراهنون على فهمهم للواقع المعقّد على الأرض. فغياب هذا الإدراك لدى ترامب، بعقليته التجارية وتطرفه في دعم إسرائيل، يجعل خططه أقرب إلى الطموح الجامح منها إلى المقترحات العملية.

حرْص ترامب على التطبيع تمثل في تقارير صحفية عن محاولاته الحثيثة دفع السعودية للإعلان عن انضمامها للاتفاقيات الإبراهيمية والتي يعتبرها واحدًا من أهم إنجازاته خلال فترة رئاسته الأولى بين 2017 و2021، كتمهيد لخبر تصديق نتنياهو على اتفاقية تصدير الغاز لمصر بعد ضغوط أمريكية.

إذ صاحبت الأخبار الواردة عن قرب تراجع مجرم الحرب نتنياهو عن قرار تعطيل صفقة الغاز مع مصر، تصريحات أمريكية نقلها موقع أكسيوس "هذه فرصة ضخمة لإسرائيل، بيع الغاز إلى مصر سيخلق اعتمادًا متبادلًا، وسيقرب بين الدولتين ويخلق سلامًا دافئًا ويمنع الحرب".

وأضاف المسؤول، الذي لم يكشف عن هويته، "ما قلناه لبيبي (نتنياهو) أنه يحتاج أن يحول السلام (مع مصر) إلى سلام دافئ، وأن يعمل بعد ذلك على تخفيف التصعيد في المنطقة. وإذا نجح الأمر مع مصر، فإنه يمكننا القيام بالشيء نفسه مع سوريا ولبنان والسعودية".

خطة المقاولين

مؤخرًا، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية ما قالت إنه نص خطة أمريكية عكف على صياغتها جاريد كوشنر صهر ترامب، مع مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، تعيد ببساطة تقديم مشروع ريفيرا غزة الذي طرحه ترامب فور توليه منصبه وأثار ضجة واسعة، ولكن في ثوب جديد يتحاشى النقطة الأكثر إثارةً للجدل والرفض وهي تهجير الفلسطينيين.

ولكن يبقى جوهر الخطة في تقديم القطاع نموذجًا للرخاء والازدهار الاقتصادي بديلًا لمطالب الفلسطينيين بالتخلص من الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، والاكتفاء بالإشارة لذلك الهدف بعبارات غامضة وبعد تلبية شروط إسرائيلية عديدة تجعل من إقامة الدولة الفلسطينية فعليًا أمرًا مستحيلًا.

ووفقًا لتقرير صحيفة وول ستريت جورنال، فإن خطة كوشنر وويتكوف تقدم رؤية لتحويل القطاع من "مدن خيام إلى مدينة تكنولوجية متطورة" بتكلفة إجمالية 112 مليار دولار.

ويتمحور جوهر الخطة حول إنشاء "رفح جديدة" في جنوب قطاع غزة، لتكون مركزًا حكوميًا واقتصاديًا مستقبليًا من دون الإشارة إلى ضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من تلك المنطقة الواقعة على حدود مصر أولًا.

وبينما تتكثف المفاوضات في الأيام الأخيرة للانتقال للمرحلة الثانية من خطة ترامب المكونة من 20 نقطة، التي تلتزم فيها إسرائيل بالانسحاب من المزيد من أراضي قطاع غزة، فإن الجانب الأمريكي يضغط من أجل البدء في بناء "رفح الجديدة" بشكل فوري، وبغض النظر عن التقدم في المفاوضات.

وتعتزم الولايات المتحدة، وفقًا للخطة، أن تقدم دعمًا ماليًا يغطي نحو 20% من التكاليف عبر المنح وضمانات الديون، على أن تجمع المبلغ المتبقي من دول الخليج وتركيا ومصر. وكسابقة، ينصّ المشروع على أن تسدد غزة ديونها، من بين أمور أخرى، من خلال استغلال 70% من ساحلها تجاريًا بدءًا من السنة العاشرة وذلك على نمط المنتجعات التي نعرفها جيدًا في الساحل الشمالي.

سلام الأوهام

تفاصيل الخطة تعيد للأذهان تصريحات مبعوث ترامب للبنان وسوريا وسفير أمريكا الحالي لدى تركيا توم برّاك، التي تحدث فيها كمستشرق خبير في تاريخ الشرق الأوسط وليس مجرد مسؤول سياسي.

برَّاك الذي يشترك مع ترامب وكوشنر وويتكوف في كونه مطورًا عقاريًا قال لصحيفة نيويورك تايمز، نهاية الشهر الماضي، إنه لم يعد يؤمن بشعار تحقيق السلام في المنطقة ويعتبره وهمًا بالنظر إلى مدى عمق الصراع والخلافات في المنطقة، بجانب هشاشة الدول التي خلقها ورسم حدودها المستعمرون السابقون، تحديدًا بريطانيا وفرنسا.

برّاك يعطي الأولوية لدعم التعاون بين دول المنطقة لتحقيق الرخاء الاقتصادي ومنع المزيد من القتل، بدلًا من الحديث عن تحقيق السلام.

ويتطلع إلى الوصول لنقطة يصبح المهم فيها "ليس الأرض التي تسيطر عليها ولكن الطريقة التي تعيش بها". بالتالي إذا ضمن الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون حياة أفضل وتمتعوا بالرخاء الاقتصادي، فإن ذلك سيجعل من قضية الأراضي وإنهاء الاحتلال الصهيوني التي يتمسك بها العرب قضية ثانوية قد يتناسونها مع الوقت.

وقال برّاك إنه في دول مثل لبنان وسوريا يقوم الناس بقتل بعضهم البعض منذ عقود طويلة لدرجة أن "الحقائق لم تعد هي الأكثر أهمية الآن"، لذلك فالمطلوب من وجهة نظره أن يكون هناك "وقت مستقطع" يتوقف فيه القتل ويُركز على التنمية الاقتصادية.

تصريحات برّاك، ومثله كوشنير وويتكوف، عن منح الأولوية لتحسين الأوضاع المعيشية لشعوب المنطقة وتأجيل الحديث عن الحقوق والأرض والقضايا الشائكة، قد تبدو براقة للأمريكيين وربما بعض الأوربيين.

لسنا كالبارحة

لكن ما شهدته المنطقة من حرب إبادة لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لتعود بعدها إسرائيل للتصرف وكأنها دولة عادية في المنطقة رغم ارتكابها مجازر مروعة استشهد فيها ما يزيد عن 70 ألف فلسطيني وأصيب نحو 200 ألف بجانب ما لحق بالقطاع من دمار واسع شمل نحو 85% من مبانيه.

والأهم أن صمود الشعب الفلسطيني وتمسّكه بأرضه ثابت لا يتزعزع، فما من قوة في العالم تستطيع أن تجعله يتخلى عن حلمه وحقه في إقامة دولته على أرضه، مقابل وعود الرخاء التي يقدّمها ترامب وفرقته من المطورين العقاريين.

وإذا كان ترامب وكبار المسؤولين الأمريكيين يرددون أنه من الغباء تصور المضي قدمًا في تنفيذ الخطة من دون التخلص من كل سلاح حماس وإنهاء أي تهديد محتمل لإسرائيل لأن ذلك سيعني العودة للحرب مجددًا، فإن تجاهل المطلب الفلسطيني الأهم بشأن حقهم في إنشاء الدولة وإنهاء الاحتلال العنصري البغيض سيجعل كذلك من تحقيق السلام أو حتى الرخاء الاقتصادي وهمًا وسيبقى شبح الحرب مطلًا برأسه دائمًا كما هو الحال الآن.

كما أن ازدياد عزلة إسرائيل على المستوى الدولي وتحولها إلى دولة منبوذة بعد مجازرها في غزة، وتصاعد التهديدات التي يتعرض لها اليهود في مختلف دول العالم، مثل ما شهدنا مؤخرًا في الهجوم الإرهابي في سيدني بأستراليا، تؤكد على التغيير الذي تسببت فيه السياسات الإجرامية لحكومة نتنياهو المتطرفة.

بعد حرب الإبادة في غزة، لم تعد إسرائيل الملاذ الآمن القادر على حماية اليهود في العالم، كما تدعي الرواية الصهيونية، بل السبب وراء تعرضهم للتهديد والقتل في كل أرجاء العالم. وهذه تطورات لن تنفع معها وعود ترامب وفريقه بالرخاء الاقتصادي والتنمية لشعوب المنطقة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.