الديك الراقد على نصف ثروة مصر
في غرفة التحقيق واجهه المحقق بما لم يخطر له على بال؛ نظر إليه وقال في جدية ظاهرة:
- أنت راقد على نصف ثروة مصر.
ضايقته كلمة "راقد"، فهو طوال حياته يطالب الناس بألا يتحولوا إلى "فراخ"، يكتفون من متع الحياة في عشتهم الضيقة بما يُرمى إليهم من فتات: بقايا أرز مطبوخ، وكسور خبز فائضة من طبلية تحلق حولها سبعة جوعى، وقعور حلل الطبيخ البائت.
تذكر في هذه اللحظة مقاله عن رفض "تدجين البشر"، فرفرف بكفيه اللتين كانتا تحطان على ركبتيه، وابتلع ريقه، متسائلًا في اندهاش: كيف لرجل يعيش في شقة لا تزيد عن سبعين مترًا في إسكان شعبي وزعته المحافظة ذات يوم بعيد أن يرقد على نصف ثروة البلد؟
ابتسم المحقق، وقال ممتعضًا: أنت خبير اقتصادي، وتعرف ما أقصد. أنا هنا من يسأل، وأنت تجيب.
شعر في هذه اللحظة أن له عُرفًا أحمر طويلًا، يشمخ فوق زغب وريش قصير يكسو عنقه، فقال مبتسمًا:
- لا يمكنني أن أرقد على شيء.
اكتسى وجه المحقق غضبًا، وسأله في حزم: أتنفي التهمة إذن؟
كتم صوصوة وكركرة حاولت أن تخرج من فمه. جمع شتات نفسه التي تكاد تنفجر من فرط المفاجأة والغيظ. استعاد ابتسامته، وأجاب:
- الديوك لا ترقد على شيء، إنما تلقح الدجاج، وتوقظ الناس للصلاة، وتنقر وجه من يعتدي على الكتاكيت.
عاد المحقق إلى الغضب: إذن تعترف بأنك ديك؟
جاءت هذه المرة الإجابة قاطعة:
- نعم، أنا ديك إن كنت لا ترى الناس أمامك سوى دجاج جائع، وأسد إن كنت ترى البلاد قد صارت غابة متوحشة بفعل سياسات جائرة أورثتنا فوضى واضطرابًا، مع تغييب القانون بفعل فاعل.
ابتسم المحقق في مكر، ونظر إلى الكاتب الذي كان منهمكًا في تدوين كل شيء:
- تكفيك التهمة التي تواجهها، وهي جناية دون شك، فلا تورط نفسك في جرائم أخرى.
قهقه المتهم: لا ينتظر الديوك في النهاية ممن استولى على العشة سوى الذبح، وأنا مستعد لكل شيء.
صمت المحقق برهة، ثم قال: أنت تعرف أن صياح الديكة يكون أحيانًا اعتراضًا، وقد يسبب للبعض إزعاجًا شديدًا.
هز المتهم رأسه: هذه تهمة جيدة، أنا فعلًا معترض، وما أقوله وأكتبه يزعج من يتحكمون في العشة وينسون الدجاج جائعًا ويأخذونه إلى الذبح كل يوم.
توقف المحقق حين أدرك أن المتهم يأخذ الموضوع إلى طريق آخر. قلَّب أوراقًا أمامه، وأمعن النظر في أخرى أخرجها من مظروف فوق مكتبه، ثم أشار إلى كومة ثالثة اصطفت على الأرض عن يمينه:
- هذه الأحراز تقول بلا مواربة أنك راقد على نصف ثروة البلد.
رمى المتهم بصره إلى كومة الورق، ثم استأذن ليبتلع قرصًا من دواء الضغط، وآخر من دواء القلب، وثالثًا لعلاج السكري، وتمنى في هذه اللحظة لو كانت معه حبة من عقاقير الاكتئاب.
حين رفع أول قرصٍ إلى فمه، شعر أن له منقارًا طويلًا، فمده سريعًا والتقطه من فوق كفه المفرود، وهو يغلب ارتعاشًا سرى في أوصاله. فعل الأمر نفسه مع الثاني والثالث، وتجرع قليلًا من الماء ثم قال هازئًا وهو يشير إلى كومة الورق: أهذه نصف ثروة مصر التي تقصدها؟
رد المحقق في غضب: النيابة تَسأل، ولا تُسأل.
استعاد المتهم رباطة جأشه، وقال: هو سؤال على سبيل الاستفهام.
نظر إليه المحقق وقال في غضب: أرى سخرية في عينيك، وهذه تهمة جديدة.
تذكر المتهم في هذه اللحظة أنه حين داهمت الشرطة شقته البسيطة لتقبض عليه وأوراقه وكتبه ولابتوبه وموبايله، لتعتبرها أحرازًا معتبرة، كان يجلس في الصالة تأكله الهموم لعجزه عن تدبير ما يكفي لعلاج أسنان زوجته، وإجراء تحاليل شاملة طلبها طبيب الباطنة الذي زاره قبل يومين، وتوفير ما يكفي من نقود للطعام والشراب ودواء الأمراض المزمنة حتى يحين موعد صرف معاشه البسيط.
لاحظ المحقق شروده، فقال له: التزم الجدية، فأنا لا أمزح.
أعاد المتهم عينيه إلى كومة الورق، وقال:
- إذا كنتم ترون في أوراق لا تعدو أن تكون كتابًا ضخمًا حول نهب مصر على مدار عقود، نصف ثروة مصر، فلماذا لا تطرحونها صكوكًا لمن يشتري؟ فما فيها من أرقام يكفي لسداد الديون الخارجية والداخلية، وبناء مدارس ومستشفيات، وإعادة دعم السلع، وزيادة ما يصرف للفقراء من "صندوق تكافل وكرامة" الذي لم يعد يمثل شيئًا ذا بال بسبب التضخم الذي رفع الأسعار بشكل رهيب.
ضرب المحقق بيسراه على مكتبه في غضب: يبدو أنك لا تريد أن تكف عن السخرية.
لم يعبأ المتهم بإضافة جناية جديدة إلى اتهاماته: لا أرى ما يدعو إلى الجدية، فبدلًا من إخضاع من سرقوا ونهبوا للتحقيق، يؤتى بي أنا، مع أني لم أسرق ولم أنهب، إنما بحثت وسجلت ما تم نهبه، وذكرت أسماء الناهبين والسارقين.
رفع المحقق تقريرًا أمامه، سبق وتسلمه من جهة حكومية: الأرقام التي ذكرتها في كتابك ليست دقيقة.
رد المتهم في جدية هذه المرة: ليس كتابًا منشورًا. لو نزل السوق وقرأه الناس لكان للنيابة أن تعتبر ما ورد في كتابي من باب الكذب أو نشر الشائعات، إنما هي أوراق لم تتح للاطلاع، ولو أن من أرسلوا التقرير إليك، وفروه لي ولغيري من قبل، لأعدت النظر فيما كتبت.
ابتسم المحقق وقال: تعترف إذن بأن أرقامك غير دقيقة.
شعر المتهم أنه يُسحب إلى فخ، فاستدرك: أنا نقلت أرقامي مما هو متاح، وليكن التحقيق مع من ضنّ بالمعلومات على الشعب، رغم أن الدستور يلزمه بذلك.
ضاق المحقق من سماع كلمة "الدستور": كل من يمثل أمامي يحدثني عن الدستور، وكأني أجهله.
قال المتهم في تبرم: الذكرى تنفع المؤمنين.
هز المحقق رأسه، وقال بعد أن سحب ورقة أخرى أمامه: تتحدث عن الإيمان، إذًا لم نخالف الحقيقة حين اتهمناك بالانضمام إلى جماعة إرهابية.
قهقه المتهم: المؤمن الحقيقي لا يمكن أن يكون إرهابيًا، وعلى العموم أنا معروف بين الناس بأنني يساري.
نقر المحقق على مكتبه بأصابعه، وقال: يبدو أنك لم تطلع على تعديلات قانون العقوبات، وقانون الإرهاب، فاصطلاح "جماعة إرهابية" ينسحب حتى على ملحدين تراهم السلطة يهددون الدولة.
ثم تلا عليه اتهامًا جديدًا: أنت تعمل على هدم الدولة وزعزعة الاستقرار، وإثارة البلبلة.
قهقه المتهم: هناك خلل في الترتيب، فما يفيد دولة قد هُدمت بالفعل، أن تبحث عن استقرار، أو تهتم بمن يثيرون بلبلة.
ارتبك المحقق قليلًا، وسأل في غضب: أتهزأ من كاتب التقرير الذي حوى اتهامك؟ هذه تهمة جديدة.
رد في هدوء: لا أهزأ من أحد، لكنني أتعجب من إهانة المنطق.
زاد المحقق في غضبه، وقال: لو فعل المنطق نفسه ما فعلت لاتهمناه، وحبسناه إلى جوارك.
هز المتهم رأسه: المنطق محبوس فعلًا منذ سنوات، يتم التجديد له بانتظام، وسيتم تدويره في قضايا جديدة، وقد يموت في محبسه.
ساد صمت، قطعه المحامي قائلًا: موكلي لا يعني ما قال حرفيًا، إنما يريد للتحقيق أن يجري وفق القانون.
ابتسم المحقق، وقال: القانون لا يحمي المغفلين.
غضب المتهم: أنا أرفض اتهامي بالغفلة، ويمكنك اعتباري ديكًا عصيًّا على الذبح، ويصر على إيقاظ النائمين، وما أكثرهم بين أهل بلادي.
قهقه المحقق: هذا لا يخرج أبدًا عن وصفك في تقارير الأمن بأنك "عنصر إثاري"،
وهذه بالقطع تهمة جديدة.