من مظاهرة لمجموعة حركة من أجل العدالة التركية للمطالبة بالكشف عن قتلة جمال خاشقجي- الصفحة الرسمية للحركة على فيسبوك

الرواية الأخرى من زميل سابق لخاشقجي: شهيد الكلمة المزعوم

منشور الأربعاء 17 أكتوبر 2018

نشرت مجلة سبكتاتور البريطانية مقالا للمعلق السياسي" جون آر. برادلي" عن الكاتب السعودي جمال خاشقجي، الذي اختفى في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول بعد أن دخل إلى القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركية، ولا يزال سؤال "أين جثته؟" معلقًا حتى هذه اللحظة.

ومع الاعتراف السعودي مؤخرًا بـ "وفاة خاشقجي نتيجة عراك بالأيدي" داخل القنصلية نستطيع القول أن القصة تبدأ الآن. القصة التي تحكي عن صحفي دخل في علاقة متشابكة مع العائلة الحاكمة السعودية انتهت بالانفصال عنها وتوجيه نقد لاذع لها في مقالاته بعد أن كان واحدًا من أشهر مؤيديها.

الجميع يحكي عن خاشقجي باعتباره بطلًا صحفيًا، لكن هذه الترجمة تحاول توضيح أن جعل خاشقجي "أيقونة لحرية التعبير عن الرأي" ليس هو الأمر الصائب لفهم ما يحدث في المملكة.


 

كرجل قضى ثلاثة عقود من العمل بشكل وثيق مع أجهزة الاستخبارات في العالم العربي والغرب، كان المعارض السعودي وكاتب الرأي لدى صحيفة واشنطن بوست جمال خاشقجي، يعلم أنه مُقدم على مخاطرة كبيرة بدخوله القنصلية السعودية في اسطنبول، في محاولة للحصول على وثيقة تبين أنه طلق زوجته السابقة.

كان خاشقجي مقربًا من البيت الحاكم السعودي قبل أن يتحول إلى ناقد لمحمد بن سلمان -الحاكم الفعلي للمملكة، والذي لا يتسامح مطلقا مع أي نقد كان- عاش الكاتب السعودي في واشنطن طوال العام المنصرم، في منفى اختياري وسط حملة قمع ضد الأصوات المستقلة في وطنه.

 

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان 

بات خاشقجي محببًا لدى المعلقين الغربيين عن الشرق الأوسط. كان الرجل الذي يتابعه أكثر من مليوني شخص على تويتر، من أشهر النقاد السياسيين في العالم العربي، وضيفًا منتظمًا على شبكات التلفزيون الإخبارية الرئيسة في بريطانيا والولايات المتحدة. هل يجرؤ السعوديون على إلحاق الأذى به؟ اتضح أن الإجابة على هذا السؤال كانت "بالتأكيد".

في أعقاب زيارات خاطفة للقنصلية (في تركيا)، وقبلها السفارة السعودية في واشنطن، تم استدراج خاشقجي وفق خطة قاتلة شديدة الوقاحة والبربرية، لو قرأناها كخط روائي في عمل أدبي لجون لو كاريه؛ لوجدناها بعيدة المنال وصعبة التصديق: دخل قنصلية بلاده في اسطنبول، لكنه لم يظهر. زعم مسؤولو الشرطة والاستخبارات التركية، أن فريقا مؤلفا من 15 شخصًا يحملون جوازات سفر دبلوماسية سعودية وصلوا صباح نفس اليوم في طائرتين خاصتين. وصلت قافلتهم من سيارات الليموزين إلى مبنى القنصلية قبل وقت قصير من وصول خاشقجي.

مهمتهم غير السرية؟ أن يعذبوا ثم يعدموا خاشقجي وتصوير هذا الفعل المروع بالفيديو كي يشاهده من أعطى الأمر لتابعيه عديمي الرحمة هؤلاء. يقول المسؤولون الأتراك إن جثة خاشقجي قُطِّعَت أوصالها وعُبئت في صناديق قبل نقلها في سيارة (فان) سوداء اللون ذات نوافذ مظلمة. أما فرقة الاغتيال؛ فقد فرت من البلاد. 

 

صورة من كاميرا المراقبة التي رصدت دخول خاشقجي للقنصلية السعودية قبل اختفائه

كان النفي السعودي سريعا. قال السفير (السعودي) لدى واشنطن إن التقارير التي تفيد بأن السلطات السعودية قتلت خاشقجي "مزيفة تماما". لكن في ظل هذه الظروف -مع وجود خطيبته في انتظاره، وعدم وجود أي كاميرات أمنية ترصد تركه السفارة- فإن العالم يتساءل إذا كان بن سلمان قد أشرف على هذا القتل. عندما صرح مسؤول سعودي آخر قائلاً "بدون جثة، لا توجد جريمة"، لم يكن من الواضح ما إذا كان يسخر أم لا.

هل هذا الأمير الإصلاحي العظيم، الذي يتبنّى أهدافا يصفق لها الغرب؛ يستخدم أساليب وحشية للتخلص من أعدائه؟ ما نعرفه حتى الآن أبعد من أن يكون مشجعًا. صحيفة تركية قريبة من الحكومة نشرت هذا الأسبوع صورًا فوتوغرافية وأسماء القتلة السعوديين المزعومين، وتزعم أنها حددت شخصيات ثلاثة منهم، كأفراد في فريق الحماية الشخصية لابن سلمان.

هناك أيضا تقارير في وسائل الإعلام الأمريكية، تفيد بأن كل المقاطع التي التقطتها كاميرات المراقبة تمت إزالتها من مبنى القنصلية، وأن جميع الموظفين الأتراك المحليين هناك منحوا إجازة مُفاجِئة (يوم الاختفاء). وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز؛ كان من بين فريق الاغتيال أكبر خبير في الطب الشرعي بالمملكة، والذي أحضر منشارًا للعظام كي يقطع به جثة خاشقجي. لم يتم التحقق من أي شيء من ذلك بشكل مستقل، ولكن هناك رواية شديدة السواد آخذة في الظهور.

في كثير من النواحي، كان نظام "بن سلمان" ثوريًا؛ فقد سمح للنساء بقيادة السيارات، وقف إلى جانب إسرائيل ضد إيران، وقلص دور الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف).

عندما كان بوريس جونسون وزيرا للخارجية (في بريطانيا)، قال إن بن سلمان كان أفضل شيء يحدث للمنطقة خلال عقد من الزمن على الأقل، وأن أسلوب حكم هذا الأمير البالغ من العمر 33 عاما كان مختلفا تماما. لكن الوحشية وإراقة الدماء لم تتوقف. فالمملكة العربية السعودية لا تزال تنفذ العديد الاعدامات بقطع الرؤوس في الساحات العامة، وغيرها من العقوبات الجسدية الوحشية. وهي تواصل شن حرب في اليمن أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 10 آلاف مدني.

هناك تقارير تفيد بأن الأمراء ورجال الأعمال الذين احتجزوا في حملة ضد الفساد تعرضوا للتعذيب، وسُحق المتظاهرون الشيعة في الشوارع وتحولت قراهم إلى أنقاض. وحُكم على نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي بالجلد آلاف المرات. واعتقلت السلطات عائلات النشطاء الذين يعيشون في الخارج بشكل تعسفي.

وفي محاولة لتبرير ذلك، قال بن سلمان هذا الأسبوع إنه "يحاول التخلص من التطرف والإرهاب دون وقوع حرب أهلية، دون تعطيل نمو البلاد، مع تقدم مستمر في جميع المجالات". وأضاف "إذا كان هناك ثمن صغير ندفعه من أجل هذا؛ فإنه أفضل من دفع دين كبير للقيام بهذه الخطوة".

 

من مظاهرة للمطالبة بمحاكمة قتلة جمال خاشقجي في تركيا

شهيد الكلمة؟

أثار مصير خاشقجي غضبًا عالميًا على الأقل، لكنه كان لأسباب خاطئة. يقولون إنه صوت ليبرالي تقدمي سعودي يناضل من أجل الحرية والديمقراطية، وأنه شهيد دفع أقصى ثمن لقول الحقيقة في وجه السلطة. هذا ليس خاطئًا فحسب، بل يصرفنا عن فهم ما تخبرنا به الحادثة عن ديناميكيات السلطة الداخلية لمملكة تمر بفترة غير مسبوقة من الاضطرابات. إنها أيضًا قصة عن كيف تورَّط رجل واحد في علاقة متشابكة مع عائلة سعودية حاكمة تعمل مثل المافيا. بمجرد الانضمام إليها؛ تصير تابعًا لها مدى الحياة. وإذا حاولت الخروج عنها؛ تصبح غرضًا وَجَب التخلص منه.

في الحقيقة، لم يكن لدى خاشقجي الكثير من الوقت من أجل ديمقراطية تعددية على النمط الغربي. في السبعينيات انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي أنشئت لتخليص العالم الإسلامي من النفوذ الغربي. لقد كان سياسيا إسلامويًا حتى النخاع؛ إذ امتدح الإخوان المسلمين مؤخرا على صفحات واشنطن بوست. لقد دافع عن المعارضة الإسلامية "المعتدلة" في سوريا، التي بلغت جرائمها ضد الإنسانية معدلات قياسية. غلف خاشقجي مرارًا وتكرارًا معتقداته الإسلاموية بإشارات ثابتة عن الحرية والديمقراطية. غير أنه لم يُخْفِ أبدًا تأييده للقوس الممتد لجماعة الإخوان المسلمين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

كان نداءه المتكرر إلى بن سلمان في مقالاته، ليس تطبيق الديمقراطية التعددية على النمط الغربي؛ بل تبنّي صعود الإسلام السياسي الذي أطلقه الربيع العربي دون قصد. بالنسبة لخاشقجي، كانت العلمانية هي العدو.

صحفي المخابرات

كان خاشقجي صحفيًا في الثمانينيات والتسعينيات، لكنه أصبح بعد ذلك لاعبًا أكثر منه متفرجًا. قبل العمل مع مجموعة من الأمراء السعوديين، ترأس تحرير صحف سعودية. وتتمثل المهمة الحصرية لرئيس تحرير صحيفة تعينه الحكومة السعودية؛ في ضمان عدم وجود أي شيء يشبه للصحافة النزيهة على صفحاتها. كَنَزَ خاشقجي الأموال في البنوك – وكانت الحياة الرغدة دائمًا، أولى أولوياته. على أي حال، الأفعال أعلى صوتًا من الكلام. 

اختار خاشقجي ياسين أقطاي، النائب البرلماني السابق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا (AKP)، ليكون هو الشخص الذي تتصل به خطيبة الصحفي السعودي إذا لم يخرج من القنصلية. في الواقع حزب العدالة والتنمية هو الفرع التركي لجماعة الإخوان المسلمين. كان صديقه الأكثر ثقة آنذاك مستشارًا للرئيس أردوغان، الذي بات معروفًا بأنه أكثر الزعماء ملاحقة للصحفيين على وجه الأرض. لم ينتقد خاشقجي أبدًا أردوغان. لذا يجب ألا ننظر إلى هذا على أنه اغتيال ليبرالي إصلاحي.

تمتع خاشقجي بهذه المكانة غير المُستحقّة في الغرب، بسبب الدعاية التي صاحبت إقالته من منصبه رئيسا لتحرير صحيفة الوطن السعودية اليومية في عام 2003. (لقد جئت بخبر إقالته لوكالة رويترز. وكنت أعمل إلى جانب خاشقجي في جريدة عرب نيوز السعودية خلال السنوات السابقة). تم فصل جمال لأنه سمح لكاتب عمود بانتقاد مفكر إسلامي يعتبر الأب المؤسس للوهابية. وهكذا، بين عشية وضحاها، أصبح خاشقجي يُعرَّف بأنه ليبرالي تقدمي.

 

فات خاشقجي أن العائلة الحاكمة تُدار كالمافيا. ما إن تدخلها؛ حتي يستحيل عليك الخروج منها إلا بالموت 

لكن الإخوان المسلمين كانوا دائمًا على خلاف مع الحركة الوهابية. ويعتقد خاشقجي وزملاؤه الذي يعيشون في الخارج في فرض الحكم الإسلامي عبر الانخراط في العملية الديمقراطية. الوهابيون يكرهون الديمقراطية إذ ينظرون إليها كاختراع غربي. بدلا من ذلك، اختاروا أن يعيشوا الحياة كما يفترض أنها كانت موجودة في زمن نبي الإسلام (محمد). في التحليل النهائي، رغم ذلك، فهي وسائل مختلفة لتحقيق نفس الهدف: الثيوقراطية (الحكم الديني) الإسلاموية. وهذا أمر مهم، لأنه على الرغم من أن بن سلمان قد رفض الوهابية -من أجل إسعاد الغرب- فهو لا يزال ينظر إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنها التهديد الرئيس الذي يحتمل أن يعرقل رؤيته لسعودية جديدة.

معظم رجال الدين السعوديين الذين سُجنوا خلال العامين الماضيين -أصدقاء خاشقجي- لهم علاقات تاريخية مع جماعة الإخوان المسلمين. ولذا ظهر خاشقجي كزعيم فعلي للفرع السعودي (للإخوان المسلمين). وبالنظر إلى لسيرته ونفوذه، كان خاشقجي أكبر تهديد سياسي، من خارج العائلة المالكة، لحكم بن سلمان.

الأسوأ من ذلك، من وجهة نظر العائلة المالكة، فخاشقجي كان له يد قذرة في العلاقات السعودية مع تنظيم القاعدة قبل هجمات 11 سبتمبر. كان صديقا لأسامة بن لادن في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان والسودان؛ إذ كان يُمجِّد جهاد بن لادن ضد السوفييت في تقاريره من هناك. في ذلك الوقت، كان خاشقجي يعمل لدى المخابرات السعودية في محاولة لإقناع بن لادن بعقد سلام مع العائلة المالكة. النتيجة؟ كان خاشقجي هو السعودي الوحيد من خارج بيت الحكم الذي له فضل على العائلة المالكة، لتعامله اللصيق مع تنظيم القاعدة في الفترة التي سبقت هجمات 11 سبتمبر. كان ذلك سيكون أمرًا خطيرًا إذا قرر تصعيد حملته للحط من شأن ولي العهد.

مثل العائلة المالكة السعودية، أبعد خاشقجي نفسه عن بن لادن بعد أحداث 11 سبتمبر (التي شاهدتها مع خاشقجي في مكتب عرب نيوز في جدة). لكنه بعد ذلك عمل كمستشار للأمير تركي الفيصل، إبان عمل الأخير سفيرا للسعودية في لندن ثم في واشنطن. وكان تركي الفيصل رئيسًا للاستخبارات السعودية من عام 1977، حتى عشرة أيام فقط سبقت هجمات 11 سبتمبر (2001)، عندما استقال على نحو غير واضح. مرة أخرى، من خلال العمل جنبا إلى جنب مع الأمير تركي أثناء مهام عمله سفيرا، اتبع خاشقجي نفس النهج الذي اتبعه خلال تغطيته عن بن لادن؛ تداخل الصحفي مع مسؤولي الاستخبارات البريطانية والأمريكية والسعودية. باختصار، كان قادرا بشكل فريد على الحصول على معلومات داخلية لا تقدر بثمن.

ربما انتاب السعوديون أيضا قلق من أن خاشقجي أصبح من تابعا أمريكيا. في واشنطن، في عام 2005 ، أخبرني أحد كبار المسؤولين في البنتاجون عن خطة سخيفة، تقضي بـ"إخراج آل سعود من شبه الجزيرة العربية" (كما كان الحال بعد الغضب الذي حدث في 9/11). تضمنت الخطة تأسيس مجلس من الشخصيات السعودية المختارة في مكة المكرمة لحكم البلاد تحت رعاية الولايات المتحدة بعد سيطرة الولايات المتحدة على النفط. وسمى المسؤول ثلاثة سعوديين كان فريق البنتاجون على اتصال منتظم بهم فيما يتعلق بالمشروع. أحدهم كان خاشقجي. أمر خيالي، بالتأكيد، لكنه يبين إلى أي مدى كان ينظر إليه أولئك الذين يتخيلون المملكة العربية السعودية مختلفة.

ربما كان لهذا السبب ولأسباب أخرى - وبالعمل وفقا لمقولة إحتفظ بأعدائك قريبين منك - أنه قبل بضعة أسابيع، طبقاً لأحد أصدقاء خاشقجي، قدَّم بن سلمان عرضًا قبليًا تقليديًا للمصالحة - عرض عليه (على خاشقجي) منصب مستشار إذا عاد إلى المملكة. رفض خاشقجي ذلك العرض بسبب المبادئ "الأخلاقية والدينية". وربما كان هذا بمثابة ضربة قاتلة، ليس أقلها لأن خاشقجي أسس في وقت سابق من هذا العام حزبًا سياسيًا جديدًا في الولايات المتحدة أطلق عليه اسم "الديمقراطية للعالم العربي الآن"، والذي سيدعم مكاسب الإسلاميين في الانتخابات الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة. كان كابوس بن سلمان المتعلق بقيادة خاشقجي لحركة معارضة سياسية إسلامية، على وشك أن يصبح حقيقة.

تودد الغرب لمحمد بن سلمان، لكن كيف يمكنه إغفال ما يبدو كجريمة قتل مفياوية الطابع؟ قال دونالد ترامب "لا أحب سماعها. لا أحد يعرف شيئًا عن ذلك، لكن هناك بعض القصص السيئة جدًا. لا أحب ذلك". حسنًا، هناك الكثير من القصص، قصص عن أمير لا يرحم؛ معارضوه يمتلكون عادة الاختفاء. إن مصير خاشقجي هو أحدث إشارة على ما يحدث حقًا داخل المملكة العربية السعودية. إلى متى ينظر قادتنا في الاتجاه الآخر؟


اقرأ أيضًا: افتتاحية واشنطن بوست عن ضرورة عقاب السعودية


جون آر. برادلي هو مؤلف كتاب "فضح السعودية.. داخل مملكة في أزمة"، الذي نشرته دار سانت مارتنز برس.