جدارية لمارلين مونرو - الصورة من pxfuel.com برخصة المشاع الإبداعي

على فراش مارلين: وحش آمن وكيان هش وهواجس كثيرة

منشور الاثنين 24 أغسطس 2020

بدأت حكايتي مع مارلين مونرو بكتاب اللغة الإنجليزية الخاص بأمي التي أخبرتني أنها في شبابها حاولت كثيرًا اكتشاف ذاتها في الفن أو العلم، فالتحقت بكورس إنجليزي في الأمريكان سنتر، وانتظمت في دروس البيانو، وكتبت رواية بعنوان قلب يحترق، ثم تخلصت من ذلك كله وتزوجت وأنجبتني.

الشيء الوحيد الذي احتفظت به من حياتها القديمة كفتاة عزباء لديها من الوقت متسعه لتفكر كل يوم فيما تريد أن تفعل كان كتابها التعليمي، والذي كنت أصغر من أن أستوعب معظم الكلام المكتوب فيه عندما فتحته للمرة الأولى، ولكنني ميزت جيدًا صورة المرأة الشقراء الرائعة التي طالعتني من الكتاب بفستان وردي وشعر أشقر مجعد وأنف دقيق بفعل عملية تجميل، وفم ممتلئ ومطلي بالأحمر، ونظرة شبق للكاميرا لا تتعدى عينيها الزرقاوين، ووراءهما –كما عرفت بحدس طفلة- سر عميق. فيما بعد وعندما شاهدت فيلم Niagara عرفت أنه نفس الفستان الذي ارتدته وهي تغني أغنية قبلني بينما الجميع مسحورين بألقها الذي يجعلها مختلفة عن أي امرأة بالقرب منها.

لم تبدُ لي مارلين أبدًا تلك الشقراء الساذجة التي ظهرت في معظم أفلامها. كانت مادية جدًا في الأفلام، وفي الحقيقة لم أعرف حتى ما الذي سعت إليه أكثر؛ مظهرها أم جسدها أم شهرتها أم ثراءها. فتنتني لأنني حتى وقبل أن أعرف مبادئ النسوية كنت أفهم أنها أسطورة صنعتها آلة إنتاجية ضخمة تخلق آلهة صغيرة تستطيع التخلص منها في الوقت الذي تريده. قرأت كل ما يمكن عنها، وعن انزعاجها من أن نورما جين –اسمها الحقيقي- مازالت حبيسة داخل مارلين، الأسطورة التي ساهمت في خلقها مع ملاك استوديوهات فوكس.

لكن الأساطير أيضًا تُهدم. طُردت مونرو من أكثر من فيلم لتغيبها عن التصوير بفعل السكر وإدمان العقاقير المهدئة والمنومة، افتعلت المشاكل مع جميع زملائها، حتى أن توني كيرتس والذي ظهر معها في فيلم Some Like it Hot كان يبكي سرًا بعد انتهاء تصوير مشاهده معها، لأن الإعادات كانت تتجاوز أحيانًا 35 إعادة، كما تسبب تصوير فيلم The Misfits في إرهاق كلارك جيبل لدرجة وفاته بعد تصوير الفيلم مباشرةً. حتى زيجتها بآرثر ميلر كانت كارثية؛ لقد رأى المسرحي الأمريكي الشهير أنه "على الرغم من إشراقها، كانت محاطة بظلام دامس حيرني".

رأيتُ مارلين

بدأت رحلتي في اكتشاف مارلين الممثلة مع فيلم Niagara والذي كان مقطع منه تظهر فيه راكضة على سلالم هاربة يُعرض كل أسبوع في مقدمة برنامج نادي السينما. كلما كان المقطع يظهر على الشاشة كنت أتابع ذعرها وهربها المحموم وأنا أشعر بأنها لن تنجو. شاهدتها فيما بعد في Gentlemen prefer Blondes وأثارني أداءها الممتع لشخصية لورالاي لي الجشعة أو بالمصطلح الأمريكي المنقبة عن الذهب (gold digger)، أحببتها لأنها كانت صادقة أكثر من زميلتها بالفيلم والتي أدت دورها ممثلة منسية –على الأقل بالنسبة لي- تُدعى جين راسل.

أعلم النساء اللاتي يشبهن مارلين جيدًا، في فيلم بوليسي أو مخيف لن تكون الشواهد في صالحهن، سيقتلن أو يقطعن أو يعذبن، سيخسرن أو يضطررن للتضحية الكبيرة، من وراء العدسة الكبيرة والشاشة الأكبر لن يتعاطف معهن أحد فهن "كاملات" كما يجب للكمال أن يكون. كبرت وفهمت أن هذا جزء من سحر مارلين، هذه المرأة خارقة الجنسانية لكنها هشة، قابلة للكسر إلا إذا اقترب منها الرجل القوي المناسب.

وفي حقيقتها، كانت مارلين ذكية للغاية، في معرفتها نقاط ضعفها واستغلالها لتحصل على ما تريد؛ لعبت بكارت اليتم لإثارة تعاطف الرجال والنساء سويًا، حتى عندما ظهرت صورتها عارية في أمريكا الخمسينيات المحافظة، تعاملت بذكاء مع الفضيحة وبررتها بأنها كانت جائعة حينها. كانت مارلين تبحث عن الخلود وقد وجدته.

تجلى ذكاء مارلين في إجاباتها عن أسئلة الصحفيين السخيفة والتي يحاصرون بها أي امرأة تجرؤ على اعتلاء قمة النجاح من الصفر لتلامس النجوم، أسئلة الأمومة والزواج والاعتناء بالشكل والجمال والتي نضيف إليها في عالمنا العربي ما يتعلق بارتداء الحجاب والعلاقة مع الرب. حاصر الصحفيون مارلين بأسئلة عن غبائها وعن فهمها للأدوار وعما ترتديه أثناء نومها ليلًا، وجاءت إجابتها الأيقونية "لا أرتدي سوى شانيل رقم 5" كإجابة خالدة ساخرة على النظرة المجتمعية للنساء الناجحات الجميلات، ومن هنا كانت مارلين تبرع في التلاعب بالصحفيين.

في الفيديو الشهير لها وهي خارجة من المستشفى بعد تعرضها للإجهاض وفقدها الطفل الذي كانت تحلم بإنجابه، كانت ابتسامتها المشرقة أكبر صفعة على عدسات الكاميرات التي أخذت تلاحقها في أكثر لحظاتها ضعفًا. شاهدت مشاهد من كواليس تصوير فيلم The Misfits لكاميرا متسللة تتابع مارلين التعيسة أثناء تصوير الفيلم، فقط لتنظر مارلين للكاميرا وتغمز بإغراء ثم تقوم وتستعرض جسدها الرائع الذي يحيط به فستان خفيف. كانت تلهو بهم أكثر مما يلهون بها.

في فيلم River of No Return، قبل البطل مارلين بنهم مصارع، في وضعية ثابتة، الشقراء الفاتنة أسفل منه وهو يغمرها بالقبلات ويثبت ذراعيها إلى جانبها. تبدو هذه المشاهد عنيفة ومنتصرة للذكر المهيمن، تدخل المرأة فيها دائمًا نفق الحب والشبق من باب الطاعة، التمنع المبدئي ثم الاستسلام للرجل.

https://www.youtube.com/embed/mABBA68EcFc?controls=0

مارلين في الثقافة الشعبية

في مسلسل Mad Men والذي تدور أحداثه في نهاية الخمسينات عن شركات الدعاية والإعلان في أمريكا ومدى تأثيرها على الوعي الشعبي وقتها، تأتي المقارنة الشهيرة بين أيقونة الغواية جون هاريس رئيسة طاقم السكرتارية في شركة سترلنج كوبر للدعاية والإعلان ومارلين مونرو نجمة الإغراء والجمال وقتها، حتى أن جون نفسها تظن أنها مرآة لمصير مارلين المشؤوم. وفي حلقة انتحار مارلين في المسلسل، يجدها روجر سترلينج –أحد مالكي الشركة وعشيقها في آن- مختبئة تبكي مصرع مارلين، يسخر كونها نجمة سينمائية ركع العالم عند قدميها لكنها أطاحت بكل هذه الامتيازات، لكن جون كان لها رأي آخر؛ "هذا العالم دمرها".

حوار روجر وجون يوضح نظرة الرجال الذين عشقوا مارلين فيها، مجرد امرأة جميلة وجسد رائع ينتفضون لرؤياه، وما إن ماتت حتى فقدت قيمتها بالنسبة لهم.

شاهدتُ فيلم My Week with Marilyn المستوحى من قصة حقيقية لرجل ادعى إقامة علاقة معها أثناء تصوير فيلم The Prince and the Showgirl مع سير لورانس أوليفييه، وفي خضم معاناتها مع مرضها النفسي وشعورها الدائم بالتضاؤل والفشل كممثلة، أثناء انهيار علاقتها بزوجها المسرحي الأمريكي آرثر ميلر، لفت انتباهي مشهد انهيار مارلين بعد أن قرأت مسودة مسرحية يكتبها آرثر مستوحيًا شخصيتها الحقيقية. لقد كرهت الصورة التي رسمها بها في المسرحية.

أنهيت الفيلم وبحثت عن المسرحية لأقرأها، وهالني رسمه لشخصية ماجي المبنية على مارلين؛ دومًا محاطة بالرجال، تترك نفسها فريسة لهم، وكوينتن –الشخصية التي بناها ميلر على نفسه- تتدخل دائمًا لإنقاذها من المخاطر التي تقع فيها عمدًا أو بدون قصد. تبدو ماجي سارحة طوال الوقت، مترددة وغير متأكدة مما تريد أن تفعله، تبكي فجأة وتتكلم عن عدم تقدير الناس لحبها وأذاهم المستمرة لها. وصف ميلر شخصية ماجي بنفس الطريقة التي كانت مارلين تنتقد بها نظرة الناس لها "أنا مزحة بالنسبة لهم، لا يأخذونني على محمل الجد" أو داخل نفس الإطار الذي يراها به الآخرون "امرأة منعدمة الأناقة، ترتدي فقط ما يبرزها جنسيًا دون اعتبار للذوق".

على لسان شخصيته الرئيسية كوينتن كشف آرثر ميلر بأن كان عليه مصارحتها منذ زمن بأنها مجرد قطعة جميلة تريد أن تأخذ نفسها بجدية، لم تختلف نظرته لها عن قسوة العالم عليها، أو حتى إعجابهم بها شكليًا مع نفورهم منها كإنسانة. وصفها الممثل دون موراي بأن لها جلد شاهق البياض، ناعم كطفل وليس جلدًا منهكًا لامرأة ناضجة، وعندما تتوتر ينقلب جلدها محمرًا وملتهبًا، لكنه أبدى ضيقه من شخصيتها غير الناضجة سريعة التقلب وشبه منعدمة التركيز.

في مقال نُشر في مجلة فانيتي فير الأمريكية بعنوان مارلين ووحوشها، ظهرت مقصوصات من مذكرات مارلين وأشعارها وخواطرها التي حملت الكثير من هواجسها ومخاوفها، وفيها وصفت ميلر بالوحش الآمن. لم تستطع مارلين تخطي هذه الصورة التي رسمتها الاستوديوهات لها، أو بلغة آل التسويق "البيرسونا" التي خلقتها لنفسها. في تنقيبها عمن سيحب مارلين الحقيقية دمرت نفسها، واندفعت بكل جوارحها نحو كل الأفعال التي تحطم ذلك الكيان الهش لتجعله أكثر هشاشة؛ إدمان العقاقير المهدئة والكحول، الانخراط في علاقات كثيرة مع رجال تغمر نفسها بحبهم حتى تدهسهم أسفلها، وفي النهاية علاقتها الأثيرة برئيس الولايات المتحدة، والذي غنت له بصوتها المتغنج "عيد ميلاد سعيد سيدي الرئيس" فأرسلت أجراس الإنذار في المنظومة السياسية التي لا ترحم.

شاهدت فيلم The Misfits وهالني عندما قرأت أن آرثر ميلر استوحى شخصية روزالين من زوجته وقتها مارلين مونرو مما سبب شقاقًا بينهما أثناء التصوير، وأدى إلى تآكل علاقتهما الزوجية، فروزالين امرأة لم تقم أي علاقة حقيقية مع رجل، على الرغم من انخراطها في أكثر من علاقة، إحداها أدت لزواج فطلاق. صورها الكاتب المسرحي البارع كامرأة لا تؤمن بالحب الحقيقي، ولا باستمرارية الزواج، امرأة تشعر بأنها كلما تقدمت خطوة للأمام تعود ثانيةً لنفس المربع الذي بدأت منه، كونها ربما كانت تنتظر من علاقتها بالرجل شيئًا مبهمًا لا تعرفه.

في إحدى حلقات مسلسل Mad Men يصف أحد رجال الإعلانات التأثير الرهيب الذي أحدثته أكثر شخصيتين نسائيتين شهيرتين في نساء المجتمع الأمريكي وقتها، جاكي كنيدي ومارلين مونرو، كل امرأة حاولت أن تصبح إحداهما عن طريق شكل حمالة الصدر أو تصفيفة الشعر أو المكياج.

وهو صحيح نسبيًا، فمارلين وجاكي تبدوان على طرفي النقيض، مارلين هي المرأة المتفجرة بالأنوثة، ملابسها تظهر جمالها وتلهب عيون وقلوب الرجال دونما الاهتمام بمدى ملائمة هذه الأزياء للسهرة أو للوسط الذي ستصبح جزءًا منه، غالبًا تنحدر عن كتفين بيضاويين وثديين كبيرين، فساتين تحتضن جسدها الفائر وتساهم في تطوير الطريقة التي تسير بها لتتحلق العيون حول مؤخرتها الكبيرة. هناك أقاويل عن أن مارلين أول من اخترعت الفستان العاري والذي احترفت كيم كارداشيان ارتداءه في كل مناسبة بداعٍ أو بدونه، ويبدو هذا واضحًا في الفيديو الذي تغني فيه بصوتها الشبق "عيد ميلاد سعيد سيدي الرئيس" ونظراتها تطفح بعشقها لجون كنيدي. النساء اللاتي يشبهن مارلين يفقدن أرواحهن بقدر ما ينغمسن في نظرات الرجال المحدقة في أجسادهن الرائعة، والمهتاجة بأصواتهن المنتشية.

لكن على الجانب الآخر فإن جاكي تمثل عنوان الأناقة العصرية التي تمر أسفل الرادار، تعلن عن وجودها دون إفراط، أنوثتها مختفية وراء لباقتها وذكائها الاجتماعي ومعرفتها بكيفية اقتناص اللحظة. لهذا كانت جاكي زوجة جون كنيدي الوسيم، ومارلين عشيقته، ولهذا تزوجت جاكي بأوناسيس بعد مقتل زوجها الرئيس الأمريكي، وأصبحت امرأة بالغة الثراء، متخلية عن لقب السيدة الأولى في أمريكا.

النساء مثل جاكي دائمًا ما يفزن، بينما النساء اللاتي تنتمي إليهن مارلين يسقطن المرة تلو الأخرى، بينما تدفعهن كعوب الرجال في أحذيتهم الكنيث كول الأنيقة ليسقطن إلى الهاوية، فقط لينكبوا عليهن بالاتهامات والسخرية، مع إثارة النميمة والشائعات حول سمعتهن. لكن جاكي وشبيهاتها محنكات، ذكيات، يحترفن لعبة الحياة، يعلمن أن عليهن تعويض ما ينقصهن في البطريركية التي تقيم النساء وفقًا لمعايير شكلية وجنسية خالصة، لذا يتعاملن مع الرجال بحذر، ولا يمنحن بقدر ما يأخذن.

أنتِ يا...مارلين

مارلين لم تكن لترى الأربعين ربيعًا. أعلم جيدًا أنها لم تحقق ربع ما صبت له نفسها كممثلة، لم تجد ما أرادت من العالم. كانت الخمس عشر دقيقة من الشهرة الخاصة بها قصيرة. لكنها لم تكن لتحتمل تآكل جمالها، فالمنظومة البطريركية سحقتها، ولم تكن لتدعها ترى في نفسها ما هو أكثر من امرأة جميلة. ومع أفول هذا الجمال الشاب غير المروض بينما تنتقل المرأة لمراحل عمرية أكثر نضجًا وأقل شبقًا، لم تكن النساء أمثال مارلين لتحتملن قسوة الزمن، ستجبرهن المنظومة البطريركية على التعامل مع أجسادهن على أنها تخطت تاريخ الصلاحية، سينظر لها الرجال بإشفاق، والنساء ببعض الشماتة، ها قد هوت ملكة الجمال من عرشها وإذا فقدت الجميلة شبابها، والمرأة المغوية جسدها فماذا يتبقى لها؟

أكره هذه النظرة السطحية للمرأة كبضاعة، يتلفها الهوى أو يعيد تشكيلها وفق ما شاء الرجال. لكنني أيضًا أشفق على النساء المنجرفات للمنظومة البطريركية القاسية، والتي ترصهن إلى جانب بعضهن البعض في منافسة محمومة على ألقاب زائلة، ورجال سيتركونهن عند أول بادرة لمؤخرة أكثر طزاجة. وبينما أشفق على مارلين من العالم الذي مزقها، وسمح لها باعتلائه فقط وفقًا لقواعده الصارمة، إلا أنني أتمنى لو كانت روحها القلقة قد وجدت في عالم موازٍ بعضًا من السلوى.

مازلتُ كلما استمعت لأغنية Hey You لپينك فلويد أتخيل مارلين تجلس وهي تحتضن سماعة التليفون، عارية، باردة، تقرب أذنها من الحائط لتستمع إلى محادثات وهمية، في انتظار مكالمة –لن تأتي أبدًا- من حبيبها جون كنيدي يخبرها بأن تحزم حقائبها وتستعد للانتقال إلى البيت الأبيض وتصبح السيدة الأولى.

وأتمنى لو كانت للأغنية القدرة على أن تجعلها تضع سماعة التليفون مكانها، وتغلق زجاجات الباربيتيورات دون ابتلاع المزيد من الأقراص، وتدخل أسفل الملاءة لتنام.