تصميم: يوسف أيمن- المنصة

حكايات عن موسيقى العفاريت والأولياء في صعيد مصر

منشور السبت 28 نوفمبر 2020

في طفولتي، صادقت عفريتًا لطيفًا كان يلبس إحدى قريبات أبي، وكان اسمه "المنجّد". كان عفريتًا ودودًا لا يخيفني كعفاريت الحكايات التي أثقلت طفولتنا في الصعيد، وكان خفيف الدم طيبًا وحنونًا. كان المنجد يحضر إذا ما استدعيناه، أو يحضر، فجأة، للسلام على الحاضرين من أفراد العائلة، قبل أن يعاود الانصراف، مودعًا الجميع في أدب وخفة. تجلس قريبتنا معنا، ثم تنتفض فجأة، ويتغير لون وجهها ويتحول صوتها بلا مقدمات إلى صوت رجل فنعرف أنه حضر. وهو يبدأ (أو هي تبدأ) حديثه بالسلام علينا فردًا فردًا بأسمائنا، ويخصّني ببعض المزاح العفاريتي، غير المخيف، فأمد يدي لمصافحته بعد تشجيع من أبي.

وكانت قريبتنا تسكن في بيت وحيد على الحافة الشمالية للمدينة لا يحيط به شيء وتمتد تحته الحقول إلى ما لا نهاية، كأنها لوحة لفان جوخ سيأكلها المستقبل، ويحولها إلى غابة إسمنتية قبيحة. كان البيت، على عكس العفريت، مخيفًا كبيوت العفاريت في الحكايات الصعيدية، محفزًا للخيال الطفولي، خصوصا مع وجود سلحفاة ورثها أصحابه عن جدودهم، وكانت تختفي وتظهر على حسب مزاجها ووفقا لتوقيتها الخاص.

في ذلك البيت البعيد في ذاكرتي، حضرت حفلة زار للمرة الأولى في حياتي. بشكل ما، كان البيت مظلما ظلامًا طبيعيًا لا تجرحه إلا إضاءة خافتة تنزل من السقف أو من نوافذ بعيدة على استحياء، فلا تعرف إن كانت السيادة للظلام أم للظلال التي يحفرها الضوء أم للدخان المنبعث برائحة البخور من مباخر موزعة بعناية في البيت. تبدو الملابس البيضاء التي ترتديها الكودية، قائدة الزار، ورفاقها، كأنها تخفي تحتها أشباحا، ستطير فجأة لتتلاشى في الدخان على إيقاع الدفوف الذي يبدأ خفيفا ثم يتصاعد في كريشندو جنوني إلى أن تسقط الأجساد على الأرض وتصعد الأرواح في مهابة قبل أن ينتصر الصمت، الصمت النهائي. 

أحتفظ من ذلك البيت إلى الآن بإيقاع الدفوف الذي يسكن روحي ويدفعني إلى الرقص داخل جسدي أو حوله. هو الإيقاع نفسه الذي يتكرر بأشكال مختلفة في موسيقى الصعيد المتنوعة تنوع بيئته وثقافاته لكنه يحضر أكثر حضوره في الزار وفي حلقات الذكر في الموالد وخصوصا في المولد النبوي.

يبدأ الاحتفال بالمولد النبوي في الصعيد قبل أسبوع كامل من موعده. يتغير إيقاع الحياة فجأة، خاصة في الميادين التي ستشهد سبع ليال متواصلة من الإنشاد الديني إلى أن تحل الليلة الكبيرة. في كل ميدان في المدينة تنتصب الأعمدة الخشبية التي ستغطيها الأقمشة الملونة المنقوشة برسوم الخيامية وتنتشر حولها في الشوارع الفرعية خيام صغيرة، على كل خيمة اسم عائلة أو اسم الطريقة الصوفية التي نصبتها. كل خيمة من هذه الخيام يسمى الخدمة، ويقوم أصحابها على خدمة مرتادي الذكر، وتقديم الطعام والشراب لهم، محبة في النبي، واحتفاء بمولده. كنت أنتظر المولد خصيصًا، لكي آكل فتة الفول النابت المصنوعة من العيش الشمسي المجفف، وهي أكلة يعتقد مرتادو الموالد في الصعيد أنها كانت الأكلة المفضلة لدى السيدة زينب ويقدمونها لضيوف المولد إكرامًا لها. 

ومن حسن حظي أن ميكروفون المولد كان يوضع في بلكونة منزلنا في الدور الثالث إذ يبدو لي أن إيقاع الإنشاد الديني طوال هذه السنوات تراكم في منطقة مختبئة من روحي كما فعل إيقاع الدفوف في الزار. عرفت أذني، في ذلك الوقت، أصواتًا بديعة، أشهرها صوت الشيخ ياسين التهامي الذي كان يأتينا من البداري المركز المقابل لمدينتي طما على الضفة الشرقية من النيل. ولم يكن الشيخ ياسين قد نال شهرته التي قادته للغناء في مدن مختلفة من العالم، ولا كان معروفًا بين المثقفين في القاهرة كما هو الحال الآن. وكانت المنافسة على أشدها بين العائلات لاستقطاب الشيخ ياسين في شبابه، ويأتي بعده الشيخ محمود والشيخ التوني والشيخ العجوز، وغيرهم الكثير من أساطين الإنشاد الديني في الصعيد.

تبدأ الليلة بعد صلاة العشاء وتنتهي بعد منتصف الليل باستثناء الليلة الكبيرة، التي يصبح فيها مولد النبي، فتنتهي قرب صلاة الفجر بنشيد موحد تسمعه في كل الميادين من كل المنشدين هو "طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع". وإذا نظرت إلى الميدان من بلكونة منزلنا، سترى صفوفًا متوازية من المريدين ذوي الجلابيب الصعيدية بأكمامها الواسعة، وحجرها الفضفاض، وهم يتمايلون بنشوة الإيقاع، في اتجاه، ويعودون إلى الاتجاه الآخر كأنه جزء من لوحة للفنان محمود سعيد. يولد الإيقاع خفيفا هادئا ثم يحبو شيئا فشيئا إلى أن يتصاعد، فيتصاعد تمايل الأجساد، وتزداد سرعته إلى أن يحتد فيسقط من النشوة مَن انتشى كما يحدث في الزار تمامًا. 

هناك خيط مشترك بين الزار والذكر، على اختلاف الهدف من كليهما، هو تلك اللحظة الفاصلة بين الوعي واللاوعي وهي لحظة لا يبلغها إلا من أسلم جسده لسطوة الإيقاع. ويشترك الزار والذكر في اتباع تكنيك التصاعد المتدرج إلى أن يصل الإيقاع إلى منتهاه فلا يكون له صعود إلا الصمت الذي يسحب الأجساد إلى التراب ويعيد الأرواح إلى الهواء. فيما بعد عندما أصبحت الموسيقى الكلاسيكية جزءًا مهمًا من تشكيلي الروحي أدركت سر افتتاني بمقطوعة بوليرو لموريس رافيل، إذ كان السر هو أنها تردد داخلي صدى إيقاع الزار والذكر الذي اختبأ في روحي لسنوات.  

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.