تصميم: يوسف أيمن- المنصة
لتجاهل للتعليم الحكومي يأتي بعد عقود من تدهور مستواه، ما جعل من التعليم الخاص، وخاصة المدارس الدولية، أحد الضمانات للوصول لفرصة عمل أفضل بعد التخرج

الاستثمار في البشر: قراءة في ميزانية أسرة تستعد للعام الدراسي الجديد

منشور الثلاثاء 13 يوليو 2021

هذا العام يودع جيهان وسيف المدرسة التي قضيا فيها ثلاث سنوات، رغم أن أبيهما حازم عبد الحميد يحظى بدخل لم يتأثر بتداعيات وباء كورونا ويضعه في تصنيف الطبقة الميسورة، لكنه لم يقدر على تحمل الزيادات المستمرة في المصاريف، ما دفعه لاتخاذ قرار البحث عن مدرسة أرخص.

قرار عبد الحميد بنقل أبنائه أصبح روتينًا معتادًا في حياة الأسر المصرية التي تعتمد على التعليم الخاص، في ظل تدهور مستوى التعليم الحكومي المجاني، والتصاعد المستمر في مصاريف المنشآت الخاصة بالرغم من خضوعها لرقابة وزارة التعليم.

أريد شقة.. ولكن

يعمل عبد الحميد في مجال السوشيال ميديا منذ سنوات قليلة إلى جانب مهنته الأساسية مصورًا صحفيًا، لكن وظيفتيه لا تدران إلى جانب الدخل الثابت لزوجته أكثر من 15 ألف جنيه شهريًا، وهو مبلغ لا يراه كاف لتغطية نفقات التعليم مع أوجه الإنفاق الأخرى. ولا تبدو حال عبد الحميد استثنائية، فبحسب دراسة لكولرز، وهي مؤسسة استثمارية دولية، فإن الأسر التي يقع دخلها الشهري بين نحو 10 آلاف و32 ألف جنيه هي الأسر متوسطة الدخل التي تبحث عن مدرسة خاصة ذات مصاريف معقولة يمكن تحملها.

بجانب نفقات الأسرة الاعتيادية، يقتطع المصور ثلاثة آلاف جنيه شهريًا يوجهها لخطة ادخار طويلة المدى، بهدف شراء شقة تمليك، ووقف نزيف الإيجار الشهري الذي يتكبده نظير الشقة التي يسكنون فيها حاليًا بمدينة السادس من أكتوبر.

أمام هذه الأعباء تمثل مصروفات المدرسة نسبة كبيرة من دخل الأسرة، فوصلت المصاريف العام الماضي إلى 10 آلاف جنيه للفصل الدراسي الواحد، بجانب نفقات الباص الذي يكلفه 10 آلاف لكل طفل، أي أن المجموع سنويًا للطفلين 60 ألف جنيه (ما يمثل ثلث دخل الأسرة السنوي).

"حزين لتفكيري في مغادرة المدرسة، فهي جيدة من حيث الاهتمام واللغة وكثافة الفصل لا تتجاوز 25 طالبًا، ويهتمون بمستوى الخدمة وتطوير مستوى الأبناء، لكن جشع الإدارة لا يتوقف عن حد معين" يقول عبد الحميد للمنصة.

رغم أنها لا تزال الأضخم عددًا، لكن المدارس الحكومية ليست ضمن الاختيارات البديلة لحازم، فهو وغيره من أرباب الأسر متوسطة الدخل يتنافسون للحفاظ لأبنائهم على مكان في التعليم الخاص، الذي يستوعب فقط 10% من التلاميذ.

هذا التجاهل للتعليم الحكومي يأتي بعد عقود من تدهور مستواه، ما جعل من التعليم الخاص، وخاصة المدارس الدولية، أحد الضمانات للوصول لفرصة عمل أفضل بعد التخرج، ربما يفسر ذلك تضاعف عدد المدارس الدولية في مصر بين أعوام 2011 إلى 2020، من 168 إلى 785 مدرسة.

وتعبر إحدى العاملات في مجال الاستثمار في التعليم عن هذا التحول في نمط معيشة الأسر المصرية، بحيث أصبح الجميع يتسابق على إدماج أبناءهم في المدارس الخاصة مهما ارتفعت تكلفتها، قائلة إن "المصريين من جميع الطبقات الاجتماعية والاجتماعية مستعدون لدفع تكاليف تعليم أبنائهم".

"عشان" فرح

إذا كان عبد الحميد حسم أمره بالانتقال إلى مدرسة خاصة أقل تكلفة، فخالد محمود لا يمتلك هذه الرفاهية بعدما قطع مشوارًا طويلا مع ابنته الوحيدة فرح حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية في مدرسة دولية، فهو لا يريد أن يعطل ذلك الإنجاز مهما كان الثمن.

محمود، الذي يعمل صحفيًا وكذلك زوجته، وكلاهما يتقلد درجة وظيفية داخل مؤسسة حكومية، يدفع أكثر من 60 ألف جنيه سنويًا نظير مصاريف الدراسة والأنشطة المصاحبة.

هذا إلى جانب بضعة ألوف تذهب للدروس الخصوصية،  التي تدَّخل جد فرح بعرض المساعدة بتحملها، بعد أن وصلت الأسرة إلى حدودها القصوى في القدرة على التقشف من أجل التعليم.

أجهضت المصاريف الزائدة أحلام خالد محمود في البحث عن مكان آخر للسكن خارج منطقة حدائق القبة التي يقطنها منذ قرابة 20 عامًا.

سعى محمود في وقت سابق إلى الانتقال إلى شقة أخرى على أطراف القاهرة، تحديدًا في التجمع، لكنه وجد أنه سيقضي ما تبقى من عمره في دفع أقساط "تقسم ظهره"، فاكتفى برحلته الشاقة مع فرح.

أكثر ما يستدعي قبول هذه التضحيات كلها، هو اقتناع محمود بأن ابنته ستخرج من المدرسة وهي تتقن أكثر من لغة أجنبية، وهو ما سيوفر لها فرصة عمل أفضل بعد ذلك، لذا لم يتردد في البحث عن واسطة في بداية إلحاقها بالمدرسة، فهو يعرف أن الكثيرين يتمنون لأبنائهم ذلك المكان ويتنافسون عليه.

إدارة المدرسة نفسها، وعلى الرغم من الزيادات المستمرة في المصاريف، التي ارتفعت العام الماضي بنسبة 7%، تتصرف دائمًا بثقة نابعة من قوة الطلب على خدماتها "كلما ذهبت لأبلغ الإدارة بشأن شكاوى من أمور تضايق ابنتي يقدمون لي ملف البنت ويقولون بمنتهى الثقة إن لديهم مستوى في التعليم ليس موجودًا في مكان آخر"، يقول للمنصة.

ضغوط مصاريف المدرسة كانت تتزايد مع تقدم محمود في السن وتراجع حظوظه في زيادة مصادر دخله، لذا أصبح مضطرا للتنازل عن بعض البنود التي يرفه بها عن نفسه.

 مثلا يدخن الخمسيني الأرجيلة بشراهة، أحيانًا يذهب إلى المقهى مرتين أو ثلاث من أجل تدخين من ثلاث إلى خمسة أحجار بأسعار متفاوتة، مؤخرًا لم يعد يفعل ذلك، ليس بسبب خوفه على تأثر صحته بشكل عام أو من إصابته بفيروس كورونا، بل ترشيدًا لنفقاته.

يحلم محمود أن يرى ابنته موظفة في أحد البنوك الدولية، هذا ما كابد من أجله لسنوات، لذا يخطط لدراستها الاقتصاد والعلوم السياسية باللغة الإنجليزية، وهو ما يعني حاجته إلى 25 ألف سنويًا في مرحلة الجامعة. يصمت لثوان ثم يكمل "سأدبرهم، ليس أمامي بديلًا بعد كل هذا المشوار".

إحنا بتوع الـ10 %

تدور أحداث القصتين وما يشابههما داخل نطاق الطبقة الوسطى، التي تستطيع إرسال أبنائها إلى المدارس الخاصة، وإن عانت من تكاليفها، لكن فئات أوسع من المواطنين ممن هم خارج تلك الطبقة، يقصدون التعليم الحكومي، ما يتسبب في تفاوت الحظوظ في التعليم بشكل كبير.

وبحسب دراسة للباحثة غصون توفيق، فإن الـ 10% الأعلى دخلًا مسؤولون عن 44.3% من نفقات الأسر على التعليم في مقابل 55.6% لباقي الـشعب.

ومثلما رأينا في الحالتين السابقتين من نماذج تحاول الحفاظ على سلوكها المعيشي داخل الطبقة الوسطى، فإن الشرائح العليا من تلك الطبقة ربما لا تعاني مثلما يعانون مع مصاريف الدراسة، ومنهم، مثلًا، عائلة رضوى شلبي، التي تصل مصاريف أبنائها إلى 250 ألف جنيه.

تعمل شلبي باحثة مساعدة في قسم النساء والتوليد بجامعة هليوبوليس، ويعمل زوجها مهندسًا في شركة أرامكو السعودية، وتسكن الأسرة في مدينتي بالقاهرة الجديدة منذ سنوات طويلة.

تصنف الأم حالها بأنها أحد أعضاء "الشريحة الاجتماعية الأعلى من المتوسطة" لذا يبدو منطقيًا أن يحصل الأبناء، أكبرهم في الصف الثاني الإعدادي، على تعليم "راق" لا يتوفر بحسب قولها إلا في مدارس دولية، حيث مستوى جيد من اللغات والمناهج السلسة التي تنمي الفهم عن الحفظ.

لا تجد شلبي معاناة كبيرة في تدبير هذا المبلغ سنويًا، قياسًا بدخل الأسرة، وتقول للمنصة إن شقيقتها التي تتمتع بظروف دخل مشابهة لها تدفع لابنها أيضًا نحو 130 ألف جنيه سنويًا كمصاريف للدراسة.

شلبي التي قضت طفولتها ومراحل تعليمها الأساسية في مدارس لغات ترى أن من حق أبنائها أن يتلقوا المستوى نفسه من التعليم.

وترى كذلك أن الأبناء في النظام الأساسي الذي يتبع مناهج وزارة التربية والتعليم يدرسون مواد غير مهمة، بينما يعرف ابنها الآن في الصف الخامس الابتدائي كيف يدار العالم والقوى العظمى فيه بفضل مناهج مدرسته الدولية.

تمثل تلك الطبقة عامل إغراء كبير للمستثمرين في مجال التعليم، الذين يضخون استثمارات ضخمة من أجل إدماج أعداد أكبر من التلاميذ في التعليم الخاص، لذا تتوقع كولرز أن يتضاعف عدد الطلبة في المدارس الخاصة من 2.5 مليون في الوقت الراهن إلى 4.5 مليون في 2030.

منطقة الطبقة الوسطى الآمنة

أراد سامح القباني، صاحب الـ40 عامًا، أن يجنب نفسه تقلبات أسعار مصاريف المدارس الخاصة، فاختار أن يلحق أبناءه بالنظام التجريبي، كحل وسط يضمن له مستوى تعليمي أفضل نسبيًا من الحكومي، وبتكلفة تستطيع الأسرة المكونة من خمسة أفراد أن تتحملها.

يعمل القباني، ابن محافظة المنوفية، مديرًا تقنيا في شركة خاصة، مقرها في القاهرة، ويتقاضى قرابة الـ17 ألف جنيه شهريًا، يضاف إليهم ما يكسبه من نشاط تجاري خاص بعيد عن مجال تخصصه، ومع ذلك لا يشعر بالأمان إلا مع المدارس التجريبية التي لا يتجاوز مصاريف الابن الواحد فيها الألف جنيه سنويًا.

"التجريبي هو النموذج التعليمي الأقرب إلى أبناء الطبقة الوسطى، حيث كثافة أقل ومستوى تعليمي أفضل من الحكومي من ناحية اللغات" حسب قوله للمنصة.

فضل القباني أن يوجه نفقات الأسرة لمجالات أخرى غير التعليم الخاص، مبررا ذلك بقوله "بحس إنها محصلة بعضها فالحياة بشكل ثابت ومستقر أهم".

ويدلل على ذلك بأنه لا يشعر باختلاف كبير بين "لكنة" ابنه في الإنجليزية، وأبناء عمومته ممن يدرسون في مدارس لغات في المحافظة ذاتها.

كما أنه يرى لابنه الأكبر مستقبلًا أفضل في مجال ليست له علاقة بالتعليم ولا باللغات، فهو يشجع الابن البالغ من العمر 15 عامًا على ممارسة كرة القدم بشكل احترافي.

 وتشير غصون توفيق، الباحثة في مجال التعليم، إلى أن الدولة دخلت في الفترة الأخيرة كمنافس للقطاع الخاص بمدارس النيل واليابانية من أجل توفير التعليم باللغات للشريحة المتوسطة، وهي خطوة تبدو مناسبة لفئات قادرة على توفير 3 آلاف جنيه سنويًا للطفل الواحد.

مستثمرون ولكن

على الجانب الآخر، لا يرى أصحاب المدارس أنفسهم في صورة صاحب الأعمال الجشع الذي يجني أرباحه من معاناة الأسر متوسطة الدخل.

يقول مصدر يتولى منصبًا في إحدى الشركات التعليمية، طلب عدم ذكر اسمه، إن المدارس الخاصة لا تعمل بحرية كاملة، فالحكومة هي من تحدد نسبة زيادة المصاريف السنوية.

ويفرض القرار 420 لسنة 2014 على المدارس الخاصة عدم زيادة أسعار المصاريف إلا وفقًا للشرائح التي تقررها وزارة التربية والتعليم، كذلك يفرض القرار 422 لسنة 2014 على المدارس الدولية عدم زيادة المصروفات للطلبة غير المستجدين بأكثر من 7%.

ويضيف المصدر أن المدارس باتت تسدد الآن فواتير الكهرباء والمياه ضمن الشرائح الجديدة التي أقرتها الحكومة، بعكس وقت سابق لم تكن المدارس تلتزم بتلك الفواتير.

لا ينفي ذلك أن نظام التعليم الخاص يتمتع بامتيازات، مثل إعفاء مدارسه من ضريبة القيمة المضافة، وهي مساهمة من الدولة في تقليل أعباء الدراسة في تلك المدارس.

كما أن وزارة التعليم اتسمت في الفترة الأخيرة بقدر من المرونة في تسعير زيادات المصاريف لصالح أصحاب المدارس، فبعد أن حددت الوزارة في 2016 شرائح لنمو المصاريف تراعي الطبقة المتوسطة، على حد قول الوزير المسئول آنذاك، قامت برفع بعض تلك الشرائح خلال 2017. وسمحت بمضاعفة معدل الزيادة للمدارس الدولية إلى 14% في عام 2017-2018.

لكن بدوي علام، رئيس جمعية المستثمرين في المدارس الخاصة، يرى أنه رغم كل تلك الامتيازات هناك "عزوف من المستثمرين عن المشاركة في الفترة الأخيرة بسبب القيود وقلة التساهيل المتاحة من قبل الحكومة، فالمدرسة الواحدة تكلف المستثمر حوالي 100 مليون جنيه" بحسب تصريحه للمنصة.

ويرى أن زيادات المصاريف التي تسمح بها وزارة التعليم "أقل من المنطقية ولا تناسب معدلات التضخم".

ويتعجب رئيس جمعية المدارس الخاصة من اعتراض الأهالي الملتحقين بالمدارس الدولية على نسبة الزيادة في المصاريف "المدارس الدولية بمثابة دبلومة أجنبية لأبنائهم، بدلًا من تعليمهم بالخارج".

وتتفق دراسة غصون توفيق مع بدوي علام فيما يتعلق بالضغوط القائمة على أصحاب المدارس، وتُرجع ذلك إلى الارتفاع المستمر في أسعار حديد التسليح ومواد البناء "قلما تجد الآن مستثمرًا مستعدًا لتحمل تكاليف بناء مدرسة بمواصفات مدرسة دولية"، لكنها تشير من جهة أخرى إلى أن سيطرة الطابع التسليعي على التعليم، يجعل الخدمة الأفضل دائمًا من نصيب الطبقات الأعلى، لذلك يبدو أن نظرة الوداع التي يلقيها جيهان وسيف ابنا حازم عبد الحميد على مدرستهم ستظل تتكرر كل بضع سنوات حتى ينتهيا من إدراك تعليمهما الأساسي أو بلوغ أسرتهما قدرًا أكبر من الدخل السنوي يمثل لهم جميع الاستقرار.